|
في الحلقة الثالثة رأينا التقاء بطل الغيمة الكتابيّة سهل الجبليّ بنورة في محطة (أُمّ سالم)، التي ربما بدا أنها ترمز في النصّ إلى (مكّة)، فهي تمثّل في النصّ معادل السلام والأمن ونبذ الحروب. و(نورة)، كما يبدو، ترمز إلى عبق الماضي والحضارة في بلاد ما وراء النهرين. فيقع سهل في غرامها، ويحلم بها معتنقًا جراب أحجاره، التي تمثّل التاريخ، حيث يقول:
"اتكأتُ على أطراف الصباح الأُولى، وشظايا الشمس، ترفع جمرها في أقاصيه، لتُطلّ على هذا الهدوء الضارب في براري الرمال المنفسحة. كان المراح صامتًا، وأُمّ سالم تفتح عيون الأشياء على منابت هسهسة فم النهار، وإذ جلتْ عيناي غشاوة الليل، تذكّرتُ شوارد صحو منام البارحة، حيث وجدتني معتنقًا جراب أحجاري، الذي تضوع منه عبق روائح أنثى حارّة كذِكرَى."(1)
فنورة إذن تحمل رمزيّة الضوء الحضاريّ وأساطير الماضي معًا. وهي- كما تَصِف نفسها بأوصاف تحيل من بعض الجوانب إلى النموذج الأسطوري لـ(عشتار)، و(عشتروت). فعشتار هي: ربّة الحرب والحبّ، عند البابليين، وسُكّان ما بين النهرين. وهي عشتروت عند الفينيقيين، أعادت الحياة إلى أدونيس بعد أن قتله الخنزير البريّ. وهي أفروديت اليونان، وفينوس الرومان.(2) وعلاقة نورة برمزيّة النور والشمس تتأتّى من معرفة أنه قد نُظر إلى الشمس وإلى رموزها في التراث العربي الجاهلي بوصفها آلهة مؤنّثة في الغالب، وقد تُصوّر حسب الطريقة السامية الشماليّة- كعشتروت- إنسانًا، يمثّل حسناء عارية.(3)
وكما سبقت الإشارة فإن النصّ يتألّف من نصّين: نصّ يُطبع بخطّ سميك، ويمثّل ما يشبه سيرةً ذاتيّة واقعيّة، ونصّ موازٍ خياليّ، يحاول قول المسكوت عنه، ولكن بأسلوبٍ رمزيّ. ولئن كانت الشعريّة ظاهرة في النَّصّين، فإنها لتبدو أشدّ كثافة في النَّصّ الأوّل، الذي يوشك أن يكون شِعرًا خالصًا، حتى إن البنية الإيقاعيّة لتصاحبه، كما في قوله:
"أيقنتْ جدّتي أنّها حضرتْ متأخّرةً إلى ساحة الأجساد الحبلى بالموت والدَّمار..."(4)
أيقنتْ/ جدّتي/ أنّها/ حضرتْ/ متأخّـ/ ـخرة/ إلى سا/ حة الأجـ/ ساد الـ/ حبلى
فاعلن/ فاعلن/ فاعلن/ فَعِلن/ فَعِلن/ فَعِلن/ فعولن/ فعولن/ فعْلن/ فعْلن
"قلتُ باستغراب: لم أوردْ ذلك في نصّ عَزَّة، فهل بقيت جدّتك هنا؟"
قلتُ/ باستغـ/ رابٍ/ لم أو/ رد ذا/ لك في/ نصّ عزْ/ زةْ فهل(5)/ بقيتْ/ جدتُ/ كَ هنا
فعْلُ/ فعْلن/ فعْلن/ فعْلن/ فعْلن/ فَعِلن/ فاعلن/ فاعلن/ فَعِلن/ فاعلُ/ فَعِلن
فشعريّة النصّ لا تكتمل هنا بلغته التخييليّة حتى يشفعها الكاتب/ الشاعر بترجيعٍ إيقاعيّ، كما هو نمط الشِّعر الكامل بأدواته، فضلاً على تلك المقاطع التي ينصّ السارد على أنها بمثابة شواهد شِعريّة، كنشيد أُمّ سالم:
"في البدء كانت الحرب لكننا سنبقى هنا
نبني مدينتنا على حافّة هذا الفراغ الموحش من الدنيا
وسنعلن أننا لن نقبل فيها من يشعل حربًا أو يعين على أخرى
ولن نتزوّج من أحد ولا يتزوّج منا أحد."(6)
وعلى هذا النحو يمضي نَصّ "الغيمة الرصاصيّة"، في لغة شِعريّةٍ شجيّة، تطغى على سرديّة النَّصّ، بل إنها لتحجب تلك السرديّة، لا بشِعريّة اللغة فحسب، ولكن أيضًا بما أُشير إليه من شِعريّة التركيب التهويميّ، الذي يوحي ولا يفضي، ويومئ ولا يحكي، ويرمز ولا يصرّح. وهذه آليّة شِعريّة لا روائيّة.
وهج الذاكرة، 2- سهل الجبَلي:
وفي القسم الثاني، بعنوان "وهج الذاكرة، 2- سهل الجبَلي"، يصوّر الكاتب موقف محاكمةٍ لقَلَمِه، يُجريها (أبوعصام) و(أبو معصوم) لكي يسألاه: لماذا جعل أهل وادي الينابيع يتقاتلون في حُبّ عَزَّة، وكان في مِكْنتهم أن يتزوّجوها واحدًا واحدًا؟
وهنا تحضر إلى جوار شخصيّة عَزَّة شخصيّات مختلفة، كـ(ابن عيدان)، و(حمدان)، و(جابر). تلك الشخصيات التي قد تبدو رموزًا لأقطاب ذلك الصراع الذي دار إبّان حرب الخليج الثانية، حول العراق والكويت، المشكّلة بدورها نماذج تاريخيّة للصراع السياسي والثقافي في المنطقة.
وتُمثّل شخصيّة (سهل الجبليّ) في النصّ ما هو أشبه بشخصيّة (التاريخ)، التي يتّهمها الآخرون بالتسبّب في ما يحدث بتراكمات ما تدوّن وما تُسند من أدوارٍ لشخوص القصّة السرمديّة. لذا يخاطب أبو معصوم سهلاً الجبليّ، ساخرًا: "حمّلتَ حمدان، وجابرًا، وإخوة عَزَّة أعباء فوق طاقتهم، واختلقتَ إشكالات لا يعرفها الوادي، ووضعتني وأبا عاصم(7) في دائرة التساؤل والنقض، حتى اختلطتْ علينا الأمور، ولكن أترى كيف تَحَرَّر كلّ منّا من نصّك الذي توهّمت؟".
وبذا فقد يُشبَّه إلى القارئ أوّل وهلةٍ أن كل اسم من أسماء الشخوص في "الغيمة الرصاصيّة" يرمز إلى دولة من تلك الدول التي كانت محلّ الصراع، غير أن النصّ في تطوّره سيتكشّف عن أبعاد ملتبسة لتركيبة الرمز بتلك الأسماء.
وتحمل مقاطع النصّ المطبوعة بحِبر غامق ما تبدو بنية استطراديّة إيضاحيّة، ما يلبث أن يعود بعدها الكاتب إلى سياق السَّرد، كما يُلحظ ذلك على الصفحتين 38- 39؛ حينما يسترجع سهل ذكرى صديقه (عبود)، فيحكي عنه ذكرى كانت بينهما. إلاّ أن ذاك التعاظل بين النصّين هو ممّا زاد دلالة النصّ تعقيدًا لا توضيحًا. ومن ثمّ فإن القارئ سيجد نفسه أمام خليط عجيب من الرموز، والتهويمات، والاسترجاع، وتداخل الحكايات؛ الأمر الذي يجعل الربط بين أطراف النصّ ضربًا من التأويل الافتراضي، الذي يحاول أن يمسك في النصّ بنسقٍ دلاليّ مقارب لا يكاد يتّسق.
وليست إيماءات النصّ واعتماده الغموض بسبب شعريّته فحسب، ولكنها قبل ذلك بسبب الأبعاد السياسيّة، التي لم يُرِد الكاتب أن يُباشرها، بيد أن ذلك في رأي الدارس قد أفسد أحيانًا قيمة النصّ السرديّة والشِّعْريّة معًا.
ومنذ هذا الجزء، فإن النصّ العامّ يرادوه النصّ الثاني- ذو الحِبر الغامق- الذي يحكي الكاتب فيه قِصّة التنظيم الشيوعيّ، الذي كان سهل جزءًا منه. ليعود عن قصّة التنظيم بعد قليل إلى قِصّة وادي ابن عيدان، فيتحوّل الواقع إلى خيال، كما يتحوّل الخيال إلى واقع، في تنازع بينهما عبر صفحات النصّ. وهذا ما كان يجعل القارئ أمام بنية رمزيّة شِعريّة، لا روائيّة، ويشتّتُ ذهنه في ضروبٍ من الحكايات الجزئيّة، والتداعيات التفصيليّة، التي يتعسّف الكاتب تعسّفًا الربط بينها تارةً، وتفكيكها وبعثرتها تارة أخرى، حتى ما يكاد يُمسك القارئ بخيط دلالي في تسلسل النصّ إلاّ ويبعده الكاتب بأسلوب اعتباطيّ صوب وجهة مغايرة.
إن نَصّ "الغيمة الرصاصيّة" يفتقر إلى منطق الترابط السرديّ، ما يؤدّي إلى تشظّيه في متاهات الدلالة، بين (الحُلميّ، والواقعيّ)، و(الشِّعريّ، والسّرديّ)، و(المتخيّل، والحقيقيّ)، و(الأسطوري والحياتيّ). وذلك ما يعترف به الكاتب نفسه، حينما يقول "في الختام" (=البدء): "كان عليك أن تملأ الفراغات، وأن تتعلّم آليّات السرد، ومغامرة توزيع الأصوات، لتُخرج هذا النصّ من تشتّته لتوطينه في علاقات أثقلك همّ كتابتها بشروط تحفظ للأصل موقعه، وللشرح والتوهّم هامشه، وقد اختلفتَ مع ذاتك حول ترتيب بعض الأحداث..."(8).
وما دامت تلك فعلة الكاتب، فإن من حقّ القارئ- في المقابل- أن يجتهد كي يفترض الدلالة المقاربة، أو يؤوّل النصّ ليقترب من دلالةٍ ما تربط أشلاءه. وفي الحلقة التالية محاولة في ذلك.
aalfaify@yahoo.com
http://alfaify.cjb.net
ــــــــــــــــــــــــــ
(1) الغيمة الرصاصيّة، 21.
(2) يُمكن أن يُنظر في هذا الشأن:
Bodkin, Maud, (1968), Archetypal Patterns in Poetry, (London: Oxford University Press), p.151- 000
وموسكاتي، سبتينو، (1986)، الحضارات السامية القديمة، ترجمه وزاد عليه: السيد يعقوب بكر، راجعه: محمد القصاص (بيروت: دار الرّقي)، 194؛ جواد علي، (1973)، المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام، (بيروت: دار العلم للملايين)، 6: 163- 000؛ نيلسن، ديتيلف؛ هومل، فرتز؛ رودوكاناكيس، ل.؛ جرومان، أدولف، (د.ت.)، التاريخ العربي القديم، ترجمه واستكمله: فؤاد حسنين علي، راجع الترجمة: زكي محمد حسن (القاهرة: مكتبة النهضة المصرية)، 220- 227؛ معلوف، المُنْجِد في اللغة والأعلام، (عشتار)، (عشتروت)، (أفروديت).
(3) يُنظر: موسكاتي، 361- 362؛ نيلسن، 219- 220.
(4) الغيمة الرصاصيّة، 24.
(5) كُتبت مفردة "عَزَّة" بالهاء: "عَزَّهْ"، ليصبح المقطع (زهْ فهلْ= فاعلن)؛ ممّا يدلّ على مراعاة الكاتب الجرْس الموسيقي، بصوغ الكلمات في وحدات نغميّة، وإن خالف ذلك قاعدة الإملاء.
(6) الغيمة الرصاصيّة، 25.
(7) في النص: "وأبا معصوم".
(8) الغيمة الرصاصيّة، 6- 7.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ملحق "الأربعاء"، صحيفة "المدينة "- السعوديّة، الأربعاء 26 ربيع الآخر 1430هـ= 22 إبريل 2009م، ص9.
http://www.al-madina.com/files2/arb/08-09.pdf
http://al-madina.com/node/129697/arbeaa
|