الغيمة الكتابيّة-5 :3.دراسات: إضبارة د.عبدالله الفـَيفي http://www.alfaify.cjb.net

الغيمة الكتابيّة
معضلة الشاعر حين يكتب سردًا !
( قراءة في تماهي الشعريّ بالسرديّ في الرواية السعوديّة )
بقلم: الدكتور عبدالله بن أحمد الفَيفي

[ الحلقة الخامسة ]

‏قلنا في الحلقة السابقة إنه ما دامت فعلة كاتب "الغيمة الرصاصيّة" رمزيّة، فإن من حقّ القارئ- في المقابل- أن يجتهد كي يفترض الدلالات المقاربة، أو يؤوّل النصّ ليقترب من دلالةٍ ما تربط أشلاءه. فباستطاعته أن يقرأ وراء شخصيّة (عَزَّة) رمزيّةً للعراق، ووراء شخصيّة (نورة) رمزيّةً للحضارة، ووراء شخصية (مريم) رمزيّةً للولادة والتجدّد والأمل في المعجز. وكذا القول في (أُمّ سالم) التي يمكن أن تحمل رمزيّة (أُمّ القُرَى)، كما تمثّلت في رمزيّة (محطّة أُمّ سالم) وفق هذا الإطار التاريخيّ الحضاريّ الذي يخوض المؤلِّف فيه. وفي الجانب الذكوريّ، فإن أسماء الأبطال، كـ(مسعود الهمداني)، و(ابن عيدان)، و(جابر)، و(مبروك)، و(أبي عاصم)، و(أبي معصوم)، و(حمدان)، هم شخوص ذلك المخاض التاريخيّ، وحكّام تلك الحِقبة، إذ يمكن أن نرى وراء شخصيّة حمدان: أميركا، مومئًا بالاسم إلى التعبير الشعبيّ: "الميدان يا حميدان"(1). وكأن ابن عيدان يرمز إلى (الجزيرة العربيّة)، أي إلى ينبوع ذلك التشظّي للقبائل العربيّة، فابن عيدان جدّ الجميع كما يصفه(2). وينطبق القول نفسه على (أبي عاصم) و(أبي معصوم)، و(مبروك) من أبطال ذلك المعترك. على أن الكاتب كان يُسقط على هذه الأسماء دلالات أعمق وأبعد زمانًا ومكانًا من دلالاتها المتعلّقة بالبلدان التي يمكن أن تشير إليها؛ لتستغرق امتداد التاريخ، ولكي يقول في النهاية: إن التجربة التي مرّ بها العالم العربي في تلك المرحلة ما هي إلاّ نموذج لمخاض طويل، كان يحدث في الماضي على مرّ التاريخ، ويمكن أن يحدث أيضًا في الحاضر والمستقبل، وأن ما حدث ما هو إلاّ صورة لاحتمالات أخرى؛ فالتاريخ يكرّر نفسه، ولاسيما حينما تكون العوامل هي العوامل، وحينما تكون للتاريخ حتميّاته، التي عبّر عنها الكاتب من خلال نصّ سهل الجبليّ، الذي يقرّر الأدوار والمصائر والأحداث، وإن اعترض أصحابها، ولم يرضوا عن الأدوار التي أوكلت إليهم، وكأنهم مسيّرون لا مخيّرون. ومن هنا فإن الأسماء في النصّ هي أسماء رمزيّة، لا تتّضح دلالاتها إلاّ حينما يُحاول القارئ أن يربط أطراف الشبكة الدلالية الكامنة خلفها.
ولمّا كانت الشعريّة تغلب في هذا النصّ على الروائيّة، فأنت لا تجد للزمن، ولا للمكان، ولا للشخوص، أهميّة في ذاتها، وإنما أهميتها تكمن فيما ترمز إليه. فلا تنامي ذا بال في بناء الشخصيّات، ولا تسلسل في البنية الزمنيّة، ولا منطقيّة في علاقات المكان. وهذا ما يعنيه الدارس بتصنيف نصّ كهذا في زمرة (القصيدة-الرواية). وليس مردّ هذا إلى وجهة تجديديّة في البناء الروائيّ، بمقدار ما مردّه إلى ذاكرة شعريّة تكتب نصًّا سرديًّا لأوّل مرة. وعليه، فإن العمليّة الكتابيّة تختلف هاهنا عن نصّ روائيّ غرائبيّ لكاتبٍ كجيمي جويس، أو إمبرتو إيكو، أو غبريال غاريسيا ماركيز، أو كازانتزاكي؛ من حيث إن الرؤية الشعريّة في نصٍّ كـ"الغيمة الرصاصيّة" هي بطلة هذا المخاض الغرائبي، وليست التجريبيّة الروائيّة.
ولا يمكن، عند التطرّق إلى هذا النصّ، إغفال سياقه الزماني الذي نشأ فيه وأسهم في تشكيله وتكييفه، وهو ما سُمي حرب الخليج الثانية وما تلاها. ذلك الظرف الزماني الذي أملى على شاعرٍ كعلي الدُّميني الاتجاه إلى سرد هواجسه وهمومه وآماله، حين لم تعد القصيدة منجدةً لحمل ذلك كلّه. والهمّ السياسي والثقافي أمرٌ ملازم للكاتب في مختلف أعماله الشعريّة والنثريّة.
وكأن النصّ الثاني- الموازي- المطبوع باللون الغامق، يحمل في طيّاته ما يشبه سيرة شخصيّة للراوي- في مقابل النصّ الآخر الذي يحكيه سهل الجبليّ- وهو يمثّل حُلُم الفرد العربيّ، الذي تشظّى وتبخّر في ثنايا الحراك التاريخي التراكميّ الذي مثّلته حكاية سهل. فهاهنا خطّان متوازيان لسيرتين متعاضدتين، سيرة الفرد الذي رأى في الشيوعيّة خلاصًا، فكانت دمارًا وخيبة، وسيرة الجماعة في وادي الينابيع، التي كانت حربًا وخرابًا وبوارًا للوادي وأهله.
تلك إذن هي التشابكات الذهنيّة التي شكّلت (قصيدة رواية) في ذهن الدُّميني، لتنتقل إلى نصّ مُشْكِل، تعقّدت خيوطه، وأمعن الكاتب في مزيد من تعقيدها؛ لاحترازات موضوعيّة، ولأسباب رآها فنّيّة، من وجهة نظرٍ ملتاثةٍ بالشِّعريّة، اعتادت أن يوحي نصّها ويومئ، لا أن يسرد ويحكي. ولعل تلك هي معضلة الشاعر حين يُغامر في كتابة نصّ سرديّ، ولاسيما في تجربته الأولى. ومن هنا فإن شِعريّة "الغيمة الرصاصيّة" هي أشدّ إمعانًا من شِعريّة "سقف الكفاية"، لعلوان، أو "الحزام"، لأبي دهمان؛ بمقدار ما كان الدُّميني أبعد غورًا في شعريّته، وأطول باعًا في تجربته الشِّعريّة، من صاحبَي القصيدتين الروايتين المذكورَين. وإزاء عمل كهذا لا يمكن للقارئ أن يتواصل مع النصّ إنْ قرأه بوصفه نصًّا سرديًّا، أو بوصفه رواية- وإنْ سمّاه الكاتب نفسه: "رواية". وهذه هي إشكاليّة كلّ من قرأ "الغيمة الرصاصيّة" وفي ذهنه أنه يقرأ رواية، أو حتى نصًّا سرديًّا؛ إذ لا بُدّ أن يتلقّاه تلقّي من يقرأ نصًّا شِعريًّا سورياليًّا؛ فما السرديّة فيه إلاّ أداة شِعريّة لا أكثر، وما "الغيمة الرصاصيّة" بنصّ يختلف كثيرًا عن قصيدةٍ كـ"الخَبْت" للدُّميني(3).
لقد خرجتْ عَزَّة من النصّ كما خرج العراقُ عن النصّ العربيّ الجامع. وحينئذٍ لم يعد للسدّ موقع. ذلك السدّ الذي قد يرى فيه القارئ معبّرًا عن موقع العراق بصفته بوابة شرقيّة، وقلعة عربيّة، وسدًّا منيعًا، انهار بانهيار العراق. لذلك يقول:
"قريبًا من الفجر استدعاني أبو عاصم وطرح عليّ سؤاله الأخير: لماذا لم تحدّد موقع السدّ في قصّتك، وتركتنا نحترب سرًّا وعلانية في تحديده؟
-: تركتُ ذلك لعَزَّة؛ لأن الموقع مرتبط بما يستجدّ من ظروف موضوعيّة في الوادي، يحسمها موقع أبطال النصّ وحركتهم حين خروجها منه."(4)
وعدم تحديد السدّ هنا كذلك يُلْمِحُ إلى المشكلة التي تفجّرت عنها الحرب من خلاف حول الحدود بين دولتين. ولا يلغي هذا ذاك؛ فالنصّ محمّل بالإسقاطات المتداخلة، والمتوارد خاصّها في عامّها.
ويشير الكاتب إلى أن المياه في وادي الينابيع كان قد رَسَم لها في قِصّته المسير المتعرّج الطويل في جنبات الوادي، لكن ابن عيدان "يأمر حرّاسه بإعادة وضع الأحجار الكبيرة في فُوّهة مصبّ الماء بعد كل سيل، ليرتفع منسوب المياه، ويندفع في قناة شقّوها على سفوح منحدرات الجبل الكبير، حتى تصل إلى أسفل قلعته، فيتمّ له من هناك توزيع المياه في قنوات صغيرة أخرى على قرى الوادي."(5) إنها المركزيّة، والتحكّم في مصائر المياه، وحريّة وصوله إلى الناس ووصول الناس إليه، وتقنين ذلك تقنينًا بيروقراطيًّا، لم يَرْضَه سهل الجبليّ، ولكن إرادة ابن عيدان تمرّدت على نَصّه. ومن هنا، فليست حتمية التاريخ ما تملي الهروب والخراب على الديار؛ إذ ليست حتميّة التاريخ بالشرّ المطلق، بل الشرّ قد ينبع عن الخروج عن تلك الحتميّة، ما يعني أن الأمر بين الخير والشرّ نسبيّ، يخضع لإرادة الإنسان وتدبيره، دون استسلامه لإرادة ما كُتِب له أو ما أُمليَ عليه. بلفظ آخر: إن تداعيات الأحداث وإفرازات الماضي تلعب دورَها، كما تلعب دورَها تحكّمات الراهن، فإذا عَدَلَتْ إرادة الإنسان العاقل عن إدارة أمره، فإنه سيصبح رهين الظلم والفساد في كلّ الأحوال. ولولا أن عَزَّة- كما قال- ما زالت معلّقة بنصّها وظُلُمات المَغارات، وما ينجزه أبطال النصّ الآخرون(6)، لكان لبناء السدّ موقعه، ولاتّقى أهل الوادي ما تجرفه السيول كلّ شتاء من مساكنهم ومزارعهم(7). في إشارة إلى ما ذكرناه من أن غياب الإرادة والرؤية، وبقاء القِيَم رهينة الماضي أو التنظير، هو أُسُّ ما يحدث من استبداد بعضٍ بمصالح الكلّ.
ويأتي نموذج الشاعر (عُبيد)(8)، عاشق أُمّ عَزَّة. ولا تختلف أُمّ عَزَّة في رمزيّتها عن عَزَّة إلاّ في أنها تمثّل الأصل المتجذّر، الذي تُعَبّر عنه شخصيّة عَزَّة. وعُبيد هو الشاعر المغنّي، الراعي، وصبّاب القهوة، الذي يذكّر القارئ بشخصيّة (طَرَفة بن العَبْد)، وقصيدة الدُّميني: "الخَبْت".(9) و"الخَبْت" قصيدة قائمة على مؤاخاة النصوص، تمامًا كما هي الحال في "الغيمة الرصاصيّة"، حيث مؤاخاة نصٍّ يُشبِه السيرة الذاتية، وتخييله في حكاية غرائبيّة. حتى إن القارئ ليقف على تقنية النصوص الشارحة مطبوعة بخط غامق الحِبر في القصيدة من خلال بعض المقاطع العامّيّة، مثلما فعل ذلك في "الغيمة الرصاصيّة". وملامح كثيرة متشابهة بين عُبيد "الغيمة الرصاصيّة" وابن العَبْد "الخَبْت" من جهة، وطرفة بن العبد الشاعر- (المعلّقة) أو (الأسطورة)- من جهة أخرى. بيد أن شخصيّة الشاعر هنا لا تمثّل بالضرورة هذا الشاعر أو ذاك، أو هذا الرمز أو ذاك، وإنما تحمل دلالة الحُبّ والكلمة، التي تتفانَى في التغنّي بالأمل وإشراق صبحٍ جديد، على الرغم ممّا تستشعره من اغتراب، وممّا تجده من محاولةٍ لتوظيفها إعلاميًّا في خدمة القبيلة، ونفيها حينما تسعى إلى إخلاص فنّها للجمال والحق والخير فقط.
وفي الحلقة الآتية تحليل لما يصوّره الكاتب من خلال شخصيّة عُبيد من مأساة الشاعر بصفة عامّة، أو قل: مأساة الكلمة والرأي في مجتمع الشاعر.


aalfaify@yahoo.com
http://alfaify.cjb.net
ــــــــــــــــــــــــــ

(1) ولقد أشار الكاتب إلى هذا التعبير في صفحة 62، في حديثه عن النزاع بين قريتي العبادل والرملية- اللتين تبدوان رامزتين للعراق والكويت- ما يشير إلى اتّخاذه اسم (حمدان) رمزًا للولايات المتحدة الأمريكيّة.
(2) انظر مثلاً: 137، 142.
(3) (1987)، رياح المواقع. (؟: ؟)، 5- 15.
(4) الغيمة الرصاصيّة، 42.
(5) م.ن.، 43.
(6) في الأصل: "الآخرين". ولم يخل النصّ من أخطاء لغويّة وإملائيّة كثيرة، لعلّ بعضها مطبعيّة. وقد أعيد طبع العمل سنة 2005، غير أني بسؤال المؤلّف عن هذه الطبعة الأخيرة، إذ لم أطّلع عليها، جاء في رسالته إليّ في يوم الأربعاء 20 / 2/ 2008: "نعم صدرت الطبعة الثانية، ولكن لم يجر عليها أيّ تعديل، وكانت صورة فوتوغرافية من الأولى."
(7) انظر: الغيمة الرصاصيّة، م.ن.
(8) انظر: م.ن، 43- 45.
(9) رياح المواقع، 5- 15.



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ملحق "الأربعاء"، صحيفة "المدينة "- السعوديّة، الأربعاء 4 جمادى ا لأولى 1430هـ= 29 أبريل 2009م، ص8.
http://al-madina.com/node/132019
http://www.al-madina.com/files2/arb/08-09.pdf




شكراً لزيارتك هذه الصفحة!

جميع الحقوق محفوظة ©