الغيمة الكتابيّة-8 :3.دراسات: إضبارة د.عبدالله الفـَيفي http://www.alfaify.cjb.net

الغيمة الكتابيّة
الحداثة في ميزان الصحوة!
( قراءة في تماهي الشعريّ بالسرديّ في الرواية السعوديّة )
بقلم: الدكتور عبدالله بن أحمد الفَيفي

[ الحلقة الثامنة ]

‏مَرّ في الحلقة السابعة ما حكاه مؤلِّف "الغيمة الرصاصيّة"، في القِسم الرابع من نصّه، تحت عنوان "وهج الذاكرة، 4- تدوينات الزوجة"، من أن عَزَّة على الرّغم من أنها كانت قد نَفَرَتْ من الرجل الأمريكيّ في بادئ الأمر، حينما اصطحبتها زوجةُ سهل الجبليّ إلى المطعم، فإنها ما لبثت أن انجذبتْ إليه، وانساقت وراءه؛ لأنها شدّتها، كما قالت، عيناه بسِرٍّ غامض. وقد ذهبتْ معه إلى خارج المركز التجاريّ في الخُبَر، الذي أخذتها معها إليه زوجةُ سهل، ثم طلب منها الذهاب معه بسيّارته للنزهة، وإذ أخبرته أن هذا خارج النصّ الأصليّ، لم يفهم. فدعتْه للجلوس تحت نخلة، قالت: إنها كانت تقتعد مع حمدان صخرةً صغيرةً إلى جوارها، وذلك بالقرب من النبع في وادي الينابيع. في إيماء إلى حالة الاستلاب الحضاري، و"الأَمْرَكَة" الفاتنة، التي تُشْبه حالةُ الأُمّة العربيّة فيها حالةَ عَزَّة، برمزيّتها إلى التراث والأصالة، وما يُعتدّ به من مكوّنات الشخصيّة. لقد اختطف الأمريكيّ عَزَّة، ولم تعد النخلة (رمزُ الماضي/ رمزُ الوادي والينابيع) سوى شجرةٍ تُظلّ عَزَّة ورجلٍ أمريكيٍّ، بليلٍ شتائيّ قاسٍ مخاتل، "تقصّفت فيه أغصان الأشجار، وأعشاب الحدائق، وشعر الأطفال والنساء، لا أتذكّر شتاءً مثله إلاّ ذاك الذي استضافت فيه العاصمة سهلاً الجبليّ"(1)، كما وصفتْ زوجة سهل.
في مقابل ذلك تسرد زوجة سهل قصّتها مع الحداثة، التي بدأت بانفجار ليليّ، كما قالت، لم يُعرف مصدره، إلاّ أن النهار تبلّج عن محاضرة في الجامعة حول "الحداثة في ميزان الإسلام".(2) أمّا المحاضِرةُ، فزميلتها المتخصّصة في الكيمياء، التي لا شأن لها لا بالحداثة ولا بالأدب، لتقول لها زوجة سهل وهي تحاورها، عائدتين من الجامعة: إن "الحداثة الإبداعيّة لدينا أسلوب كتابة يجدّد ويتساءل ويبحث عن نموذجه الخاص، أمّا في مجال الرؤيا والفِكْر فإنها موقف نقديّ لا قطيعة."(3) وهذا تعريف المؤلّف للحداثة على لسان زوجة سهل، بطبيعة الحال.
ثم ما يلبث أبو أنس، جارهم، أن يقرع الباب داعيًا أبناء سهل- بعد أن عرف من زوجة سهل أنه مسافر- إلى ندوة دينيّة في المسجد عن "الحداثة والمحدثين". ويمضي السارد في تضمين هذه الحقبة من الصراع بين صحوة الحداثة وحداثة الصحوة.
ويكاد الكاتب يُفضي برمزيّة عَزَّة التي سبق الحديث عنها وهو يصف مشاعر زوجته: مشاعر الفقد والغياب لمعتقل الرأي سهل الجبليّ، موكّلةً برعاية عَزَّة، "المجنونة العاقلة، والطفلة الكبيرة، والفيلسوفة المكبوتة، التي [كان سهل يحدّثها] عن فنتازيا خروجها عن قِصّتها، على ضفاف الوادي البعيد، لتقيم حُلم الإنسان في بناء جنّنته الأرضيّة."(4) يُقدّم الدُّميني إلى القارئ في هذا مصطرع الحداثة مع التراث، والأصالة مع المعاصرة، والقوميّ مع الأجنبيّ، من خلال تلك الإشارات والرموز المحايثة لطبيعة نصّه ذي البناء الإشكاليّ، الذي أبَى إلاّ أن يتّخذ الشعريّ الأسطوريّ متنفّسًا للتعبير. نصّ يوظَّف لبثّ خطاب ثقافيّ، يحمّل الشخوص صوتَ الكاتب كي يذيع من خلالها بعض المواقف الأدبيّة، إلى جانب المواقف الاجتماعيّة والسياسيّة.
ويعرّج الكاتب- في ذكريات زوجة سهل- على اشتغالها مدرّسة مسائيّة في محو الأميّة؛ لرفع قدراتها الماليّة على الإنفاق في ظلّ غياب سهل. وهي أُمّيّة يقتضي محوها، لا تقويم حركات الإعراب على ألسنة المتعلّمات من النساء فقط، ولكن محو أُمّيّة أخرى، فكريّة وحضاريّة. إذ ما يلبث أن يحتدم النقاش بين المعلّمة وطالباتها حول الحداثة ومفهومها: أ هي كفرٌ- كما أشاعت "ميكرفونات" الأئمّة في المساجد، أيّام معركة الحداثة في ميزان الإسلام- أم هي محض تجديد، وأخذ بالمفيد؟ حسبما حاولت المعلّمة أن تُقنع تلميذاتها، محتجّة بأن تعليم المرأة نفسه كان يومًا ما مُحدَثةً وبدعة.(5)
أمّا (عَزَّة)، فقد كشفتْ هي الأخرى عن وجهها السلبيّ من الحداثة، لمّا وجدتها زوجة سهل قد وضعتْ كُتب الحداثة في الطرَف القصيّ من المكتبة، قائلة: "هذا زمن ليس زماني، فدعيني حيث وضعني سهل الجبليّ."(6) متّخذةً وجهها التراثيّ المحافظ، وهو ما أراده المؤلّف برمزيّة عَزَّة، وجهًا للمحافظة، في مقابل ما يبدو أنه وجه للنور والخِصب والتنوير الحضاريّ في وجه (نورة)، وإن في إطار تراثيّ. ولكَم تمنّى سهل أن تجتمع نورة وعَزَّة في نصٍّ جامع، يعبّر عن ذاك بقوله: "بقيَ ضوء الخَرَزَة الزرقاء يشعّ رهيفًا بيننا، وأنا أتأمّل وجه نورة، مجلّلاً بإشراقة غمرتْ مساء الصحراء من حولي، وداخلتْني نشوة الزمن، وقلتُ لنفسي: كم سيكون جميلاً وشاعريًّا أن تدخل روح نورة وضباب أساطيرها إلى نصّ عَزَّة، أو إلى جوار هوامشه!"(7) فنورة هي الأسطوريّ والماضويّ والحاضر والمستقبل في آن. إنها نموذج البكارة والولادة، مندلعة رغباتها كالحرائق، وإن ظلّت وفيّة لزوجها المتوفَّى، بعد أن أدمنته، فلم تتزوّج بعده، ولم تشأ الزواج من غيره ولا الإنجاب، تعبيرًا عن انتمائها إلى السابق.(8) تُبارك بفرحٍ طفوليّ عمل سهلٍ وهو ينبش الأثر ويعيد تشكيله لا ترميمه فحسب، ويطمح إلى "إعادة قراءته من جديد".(9) لذلك فقد رضي سهل بضمان نورة إمكانيّة إعادة القرض الذي اقترضه مسعود الهمداني من البنك الذي يعمل فيه(10). يصف سهل معادلتها بين الماضي والحاضر والمستقبل بقوله:

"تنهّدتْ ونبشتْ الرمل بيديها، فخرجتْ العظام والجماجم، وقالت: كلّ شيء له ذاكرة: المكان، الشجر، الإنسان، وجميعنا يسبح في بحار من آثارها المتراكمة، وأنا لا أرمّم ماضيّ، فهو يسكنني، وإنما أحاول التسلّل خارجه. أختصم معه ويعنّفني لكنني لا أنغمس فيه. أرأيت الغريق كيف يُخرج رأسه من الماء أوّلاً؟
تطلّعتُ إليها موافقًا، وأكملتْ: ذلك ما أُحاوله مع ذاتي كلّ مساء، حيث أجلس إلى قنديل الجدّات، فأخرجهن من توابيت الزمن، وأحاور ما عبّأن به ذاكرتي من أساطير ورموز وطقوس، وحين يثقلني الحديث أَخْرُجُ من حضرتهن، وأَسْتَلّ من تراثهن "إلهةَ العشق"، ثم أصطفي لنفسي نديمًا يعاقر جذوة الروح المتّقدة، فأُشعله بي فلا ينساني، وستسأل نفسك عني ذات يوم."(11)

إن نورة خارج نصّ عزّة- كما قال- لكنه ظلّ يحلم بضمّها إلى ذلك النصّ.
هاهنا تُقرّر زوجة سهلٍ- التي لم يقترح المؤلّف لها اسمًا- أن تمضي قُدُمًا في تقديم محاضرة مضادّة لمحاضرة "الحداثة في ميزان الإسلام" في الجامعة حول "الحداثة: ما لها، وما عليها". بيد أن عميدة الكُلّيّة تعترض على ذلك في آخر لحظة، فيما المحاضِرةُ على منصّة الإلقاء. أمّا زميلتها فاطمة، أستاذة الكيمياء، فقد ألقتْ محاضرتها ضِدّ الحداثة مرةً ثانيةً وثالثةً في الكُلّيّة، والطريق، والمدرسة، وحتى في صالات الأفراح! وكانت العميدة تحمل معها "كتاب المحاضرة [محاضرة فاطمة]" أنّى كانت.(12) كما أن محاضرة "الحداثة ما لها وما عليها" قد حيل دون نشرها صحفيًّا، بحُجّة المحافظة على الأمن الاجتماعيّ والثقافيّ. وبالرغم من محاجّة الكاتبة بأن في ذلك إغلاقًا "لباب نور الحوار"، وإسهامًا في تسميم المناخ الاجتماعيّ والثقافيّ، ومع ما أّكّدته من أن محاضرتها تنبّه إلى شَطَط الحداثيّين المتمثّل في نفي الآخر، وشَطَط المعارضين المتمثّل في تكفير الآخر؛ وذلك لإنارة المعتم في الأذهان، فإن حججها كلّها لم تُجْد إقناعًا بنشر الموضوع. ما أوصل الجدل المحتدم إلى استبداد الغضب العاصف بالكاتبة/ المحاضِرة، وهو ما يتنافى مع ثقافة الحوار التي كانت تتحدّث عنها، والتي لا ينبغي ثقافيًّا أن يستبدّ بمن يؤمن بها الغضب العاصف، مهما كانت مخالفة الطرف الآخر أو مواقفه. لتقول- في الردّ على رئيس تحرير تلك الصحيفة- فيما يشبه المرافعة الفكريّة المباشرة: "إن الفضاء العلميّ الذي حرّر العقل من كوابيسه ليُنجز هذا التطوّر التقنيّ الهائل هو المهاد المشترك بين حداثة الفكر وحداثة الآلة، وكما تختار آلتك المناسبة، فإننا نأخذ من حداثة الفكر ما يفيدنا في لحظتنا التاريخيّة الراهنة."(13) وانتهى خطّ التلاقي بين الطرفين.
ونواصل في الحلقة المقبلة استقراء ما سيفضي إليه التطرّف المتبادل من نتائج، كما صوّرتها "الغيمة الرصاصيّة".


aalfaify@yahoo.com
http://alfaify.cjb.net
ــــــــــــــــــــــــــ

(1) الغيمة الرصاصيّة ، 89.
(2) يشير المؤلّف هنا ضمنًا إلى كتاب الدكتور عوض بن محمّد القرني، "الحداثة في ميزان الإسلام"، (القاهرة: هجر، 1408هـ= 1988م)، المقرّض بمقدّمة من مفتي البلاد السعوديّة، في حينه؛ ذلك الكتاب الذي أحدث ضجّة في الوسط الثقافي والأدبي السعوديّ، إبّان المعركة حامية الوطيس بين الحداثيّين والمحافظين في ثمانينيّات القرن العشرين؛ لما تضمّنه الكتاب من قدحٍ حادّ في مضامين بعض النصوص، على أُسس عَقَديّة أو أخلاقيّة. ولعل الكتاب كان أشدّ إسفين في نعش التيّار الضّاري للحداثة، الذي كان يكتسح الصحافة والمنابر الثقافيّة يومئذ، ممّا أسهم في خبوّ وتيرة تلك الحركة على نحوٍ ملحوظ، إبداعيًّا ونقديًّا وفكريًّا، ولاسيما خلال التسعينيّات من القرن الماضي، وما تلاها. ومع ذلك، فإنه لم يتصدّ أحدٌ لمناقشة شُبُهات الكتاب تفصيليًّا، فضلاً عن تفنيدها موضوعيًّا وفق منهج علميّ، بعيدًا عن المزايدات الإقصائيّة، المتبادلة- بدافع انحيازٍ دفاعيّ عاطفيّ- بين الطَّرَفين.
(3) الغيمة الرصاصيّة، 91. جدير بالإشارة هنا أن خطاب المؤلّف يتقاطع مع ما قدّمه تحت عنوان "لست وصيًّا على أحد"، في "منتدى شومان" في عَمّان، وكذا تحت عنوان "تجربة الحداثة الشعريّة في المملكة- شهادة شخصيّة"، في منتدى (رابطة الأدباء والكُتّاب في البحرين). وتضمّن ذكرَ ذلك كتابُه: (أيّام في القاهرة وليالٍ أخرى، (بيروت: دار الكنوز، 2005)).
(4) م.ن، 92.
(5) انظر: م.ن.، 93- 94.
(6) م.ن، 94.
(7) م.ن، 25.
(8) انظر: م.ن، 21.
(9) انظر: م.ن، 22.
(10) انظر: م.ن.
(11) م.ن، 23.
(12) انظر: م.ن، 95. و"كتاب المحاضرة" إشارة إلى كتاب "الحداثة في ميزان الإسلام"، المشار إليه سابقًا.
(13) م.ن، 96.



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ملحق "الأربعاء"، صحيفة "المدينة "- السعوديّة، الأربعاء 25 جمادى ا لأولى 1430هـ= 20 مايو 2009م
http://al-madina.com/node/139358/arbeaa




شكراً لزيارتك هذه الصفحة!

جميع الحقوق محفوظة ©