رأينا في الحلقة الثامنة ما صوّرته "الغيمة الرصاصيّة" من أجواء ما نَشِب من معترك ضارٍ حول الحداثة، بين أنصارها وخصومها. وجرّاء ذلك ما لبثت زوجة سهلٍ أن اكتشفت وقوع عَزَّة في الغرام بالآخر/ الغربيّ. وقد تأكّد لها ذلك إذ لَمَحت قَدَم الرجل الأمريكيّ تداعب قدمَي عَزَّة، فيما كانت تصوّب نضراتها المشتاقة إلى وجهه وعينيه.(1) وعلى الرغم من قرارها بإبعاد عَزَّة عنه، إلاّ أن إلحاح الأبناء عليها قد جعلها تقبل ذهاب عَزَّة معهم إلى منزل ذلك الأمريكيّ؛ فلقد انتهت- كما اقنعتْ نفسها- الحصانةُ الخياليّة عن الارتماء في أحضان الآخر التي أحاط سهلٌ بها عَزَّة في نصّه، واستسلمتْ إلى ضرورة تجسيد نصّ عَزَّة في الواقع، لينتهي الخياليّ إلى واقعيّ، لعله يُغني أو يُفسد. وهنا يُلمِح الكاتب إلى المأزق الثقافيّ بين مثاليّة الخيال وضرورات الواقع، وإلى أن الكبت والحَجْر والانغلاق هي بوّابات الاستلاب والانهيار السريع، وليس العكس، كما يتصوّر عقلٌ منغلق تقليديّ. وذلك ما وقع لعَزَّة، بشخصيّتها المحنّطة، وفقما رسم الكاتب ملامحها، إذ سرعان ما انزلقت تحت حجاب المحافظة الظاهريّ وقِشرة الحصانة الماضويّة، وذابت في المختلف/ الغريب إلى أخمص قدميها. عندئذٍ يقع الانفجار الذي صوّره في دويٍّ يهتزّ له البيت، ويزعج الكبير والصغير. ولعل القارئ لا ينسى أنّ عَزَّة ما هي إلاّ قناع أقنعة. أي ما هي إلاّ قناع زوجة سهل، المتعدّدة الوجوه، وهذه بدورها قناع الكرامة والعِرض والشَّرَف، حينما تتعرّض للانتهاك، حصائدَ سوء التقدير والتدبير، بين حسابات الواقع والخيال، والماضي والراهن، والذات والآخر. وهذا ما حَدَث من بطل النصّ نفسه، سهل الجبليّ- من جهة- وما أحاط بزوجته (و/ أو) عَزَّة- من جهة رديفة- جرّاء حسابات مجتمعها العامّ ومعتركها فيه حول "الحداثة: ما لها وما عليها". فكان رفضُ المجتمعِ صوتَها وحوارَها وحِبْرَها دافعَها إلى الانسلاخ منه إلى غيره، وإلى غير رجعة.
وها هي تهرع زوجة سهل إلى المكتبة لتحتضن الغريبة (عَزَّة)، فتجدها قد نقلت كرّاسها من رفوف الرواية ووضعته إلى جوار كتب الفكر والفلسفة.(2) وهذا في الواقع هو ما فعله الكاتب بنصّه؛ إذ جعله، وفي هذا القسم بصفة خاصّة، ميدانًا لصراع الأفكار، ومنبرًا للجدل حولها، وإنْ على حساب مراعاة مقتضيات السَّرد. ولا بأس؛ فالسَّرد- من حيث هو- ليس بغايته، بل وسيلته. وقد أدّاه ذلك إلى افتراع نصّه الإشكاليّ المختلف أجناسيًّا. وللتعبير عن المشهد بين الزوجة وعَزَّة يصف الكاتب ما حدث، قائلاً على لسان الزوجة: "تفحّصتُ الكُتُبَ فوجدتُ أوراقها وقد اختلطت ببعضها، وسالت منها جُمَلٌ وأفكار على الرفوف والجدران، ولم يَعُد بالإمكان قراءتها، ولا التعرّف على سماتها، فأغلقتُ الباب خلفي، مثلما أغلقه سهل الجبليّ، ومضيت."(3) هذا، إذن، هو سبب الانفجار النصوصيّ والدلاليّ الذي أودَى ببنائيّة النصّ السَّرديّة، كما أودَى بالمعنى إلى العماء والعدميّة وانغلاق الباب. إنه النصّ هاهنا يكتب تجربته، ويَنْقُد ذاته، فيما يُشْبِه اعتذارًا بأنْ ليس إلاّ جزءًا من نصّ أكبر- واقعيًّا، وسياسيًّا، واجتماعيًّا، وثقافيًّا- اختلطتْ فيه الأوراق والأحبار، حتى باتت قراءة طلاسمها نفسها ضربًا من الطلسمة، وتأويلها نوعًا من ضرب الوَدَع أو فكّ السِّحر.
وما يُحبّ الدارس أن تبدو قراءته بغموض النصّ المقروء، بيد أن محايثة النصّ تستلزم قراءة تسامتيّة، لا تؤدّيها اللغة المباشرة، ولا تكشف أغوارها الإضاءة السطحيّة.
ويعود الكاتب في القِسم الخامس، بعنوان "وهج الذاكرة، 5- سهل الجبليّ"، إلى حكاية سهل. ولعله قد اتضح ممّا تقدّم أن "الغيمة الرصاصيّة" قد شَرَعَت تتخلّق في بنية نصٍّ شعريّ فلسفيّ- أكثر منه روائيّ، بالمعنى التقليدي- يطوّف حول التاريخ والتراث والحداثة.
وفي هذا القِسم ملامح أخرى من شخصيّة (نورة)، ممثّلةً صخب الحضارة، وقد رأى سهلٌ أن الوادي الساكن في إلْفِ العادة، في حاجةٍ إلى روحٍ صاخبة عابقة بالجنون، مثل نورة. وتجسّد العلاقة بين (نورة) و(عُبيد) في هذا النصّ العلاقة بين الحضارة والماضي المجيد من جهة والشاعر الذي يتغنّى بذلك كله. كما أن يقينيّة نصّ (عَزَّة)، وما لحق به من حذفٍ وإضافة، هو الآخر يفتقر إلى قلقٍ شاعريّ يتحدّى صرامته أو يشذّبها.(4) وتلكم هي المعادلة التي يفتّش عنها الكاتب عبر هذه الرموز؛ معادلة المعاصرة بالأصالة، الماضي بالآتي، الثابت بالمتغيّر، الاعتزاز بالذاتيّ والمثاقفة مع الآخر، التراث- المليء بالحُذوف والإضافات، والتشويه والإشراق- بالحكمة التي هي ضالّة المؤمن، أَنّى وجدها التقطها؛ فهو أحقّ بها وأهلها. هذه القِيَم- التي يتحرّك النصّ حواليها، من خلال الشخوص والرموز- تتوّه القارئ تارة وتنبجس علاماتها وتشعّ نجومها في سديم النصّ تارة أخرى؛ من حيث إن المؤلِّف اعتمد على هذه التقنية المُلْبِسة الشاعريّة. وإحدى الصعوبات الجوهريّة في قراءة النصّ أن الكاتب يكتب (قصيدة-رواية)، لا (رواية-راوية).
أُطلق سراح سهلٍ الجبليّ ورفاقه من المغارات، واقتيد جَمعهم إلى (ابن عيدان). وشُنق (مبروك)، عشيق (مريم). ذلك الرجل الأفريقي الذي لم يكن له من ذنبٍ إلاّ حُبّ مريم، وأنْ ليس بأبيض البشرة، ولا مكافئها في النَّسَب- وتكافؤ النَّسَب في الزواج عرفٌ عنصريٌّ ظالمٌ لأهله قبل غيرهم- وهي المنحدرة من عِرقين مختلفين: أُمٍّ أَمَةٍ لابن عيدان، وأبٍ حرّ، هو عريفة قرية الرمليّة. وهذا المقتل يشير إلى تحوّل في أملٍ منشود، كان يتشوّف إلى تلاقح الأعراق رغم اختلاف الطبقات والهويّات والأجناس. فإذا هو يُشنق ذاك الأمل بحبل القَبَلِيّة اللا إنسانيّة، وحُكم التقاليد الجائرة، ونفاذ السُّلْطة الدينيّة (المختطَفَة من أصولها وغاياتها)، والسُّلْطة الدنيويّة المادّيّة المستبدّة بأمرها، وذلك على يد ابن عيدان وزبانيته، وفي طليعتهم (أبو عاصم) و(أبو معصوم). وهما اسمان ينطويان على إشاراتهما إلى سُلطة "التابوه"، والمقدّس، ودعاوَى العِصمة في الثقافة. وها هي نورة تَسقط من هول المنظر، وهي تنشج: "يا جدّتي الملِكة.. يا جدّتي الملِكة، اهبطي، فالعالم الأرضي قد غدا جُثّة."(5)
تحرّر سهلٌ، وإن لم يتحرّر. أُطلق ورفاقه، ثم استثني (صفوان)، الذي يمثّل منظّر التغيير والتفكير والرأي، فأُعيد إلى سجنه. وبقي سهلٌ يتردّد بين حريّته الشخصيّة وارتهانه إلى زيارة ابن عيدان يوميًّا. والجميع يتّهمه، والجميع يعزوه إلى ممالأة السُّلطة (ابن عيدان)، وأنه عينٌ من عيونه. فلا هو ينجو من السُّلطة، ولا هو ينجو من الشَّعب. يتبدّى ذلك في موقف المهمّشين، الذين يسمّيهم الكاتب الحُرّاس، وهو يُلمح بهم إلى عامّة الناس، ممّن يوظّفون في أتون مواجهات، لا ناقة لهم فيها ولا جمل. فهم يتّهمون سهلاً- بوصفه رمزًا للتاريخ والثقافة- بأنه وراء مقتل مبروك، ووراء ما يلحق بهم.
ولمّا كان سهلٌ قد وصل إلى هذا المأزق: بين الحُرّيّة والعبوديّة، ابتنَى له خيمةً من حَجَر، هي "خيمة الرُّوح"، كما يسمّيها(6) ، يخلو فيها إلى نفسه، فوق أعلى الجبال الشماليّة. وقد رتّب مع نورة أن تساعده على الاطّلاع على السجلاّت التي يخبّئها ابن عيدان، لِما فيها من محتوى النصّ المحرّف- كما قال- من قِصّة عَزَّة. وقد وَعَدَتْه بذلك. في حين ما يفتأ ابن عيدان يذكّر سهلاً بأنه معتقلٌ لديه، وأنه هو (أي ابن عيدان) المهيمن على التاريخ والتقاليد من غوائل التحديث والتغيير، سواء لما يمنحه من أدوار لأبطال قِصّة عَزَّة، أو لما يحمله من عبء متابعة نورة ومقهاها، الذي ما برح (الفقيهُ عمران) و(أبو عاصم) يعترضان على ما يدور فيه من مناوشات ومن غناء ورقص.(7) إنه صراع القِيَم والثقافة، والماضي بعاداته وتقاليده مع الطموح إلى الآتي والمستقبل والحريّة.
وفي هذا القِسم يتجلّى دور (جابر) في هذه السرديّة. جابر، الذي سيبدو له من اسمه نصيب: "جابر عثرات"، ساعيًا إلى جَبْر ما انكسر بين أبناء الوادي، داعيًا إلى قيام تعاونيّات بينهم، تجعلهم شركاء في الأرض والخيرات.
وقد حكى جابرٌ لسهل كيف أنه لمّا وصل الفقيه عمران إلى الوادي تحمّس له حمدانُ ولمدرسة الكتاتيب، إلاّ أنه حينما لم يجد لديه ما يُغْنِي رغباته، غادر الوادي. أمّا أبو عاصم وأبو معصوم فقد وَجَدا في ما لدى الفقيه ضالّتهما، وقد عيّنهما بدوره أهلاً للحسبة، وثنّى ابن عيدان على ذلك بأن أناط بهما مهمّة أمن الوادي.(8) وفي هذا يومئ الكاتب إلى العلاقة بين الحضور الدينيّ، الذي يمثّله الفقيه (عمران)، والآخر الغربيّ الذي يمثّله (حمدان). هذا في المستوى الخارجيّ، وفي المستوى الداخلي يومئ إلى ما يدور بين الفقيه- بوصفه سُلطة تشريعيّة- وابن عيدان وعاملَيه، أبي عاصم وأبي معصوم- بوصفهم السُّلطة التنفيذيّة، من عَقْدٍ ضمنيّ؛ إذ وَجَدَت السُّلطة التنفيذيّة ضالّتها لدى الفقيه، لمنحها الشرعيّة في سُلطانها، ووَجَدَت السُّلطة التشريعيّة ضالّتها لدى السُّلطة التنفيذيّة، لمنحها قوّتها وهيمنتها ونفوذها.
ثم يحدّث جابر سهلاً عن غياب أخوَي عَزَّة: منصور وسعيدان، اللذين يرمزان إلى فِكرتَي "النصر" و"السعادة"، أو "القوّة" و"الرخاء". لكن سهلاً خالف جابرًا في اعتقاده أن منصورًا وسعيدان قد اختفيا، وهو- كما قال- لم يدوّن في قِصّة عَزَّة موتهما أو اعتقالهما، بل ترك الاحتمال غائمًا. ليخبره جابر أن تلك الثغرة الغائمة هي التي أتاحت تسلّل أبي عاصم وأبي معصوم وابن عيدان لتأويل النصّ، والإعلان بأن مسعودًا الهمداني- الذي يمثّل وجه الشرّ والفُرقة في الوادي- قد قتلهما. فيخبره سهلٌ بأنه بالفعل قد وجد منصورًا وسعيدان في المغارات، وأنهما كانا سجينين معه فيها.(9) فيُظهر جابر دهشته لهذا الخبر، معبّرًا عن أن ذلك يؤكّد حدسه: أن ابن عيدان ظلّ يسعى إلى تغييب منصور وسعيدان، يدعمه في ذلك أبو عاصم وأبو معصوم؛ لأنهما "لم يكونا يرتاحان أيضًا لأفكار الأخوين اللذين كانا يؤمنان بمبدأ التغيير الجذري؛ وهكذا تفرّق أبطال النصّ، وتشتَّتَتْ حروفه في المغارات وكتاب السجلاّت، بيد أن عزائي [يقول جابر لسهل] هو وجودك بيننا لتحفيز العامل الذاتي على استعادة وعيه وحركته."(10)
شخصيّة جابرٌ إذن تحمل الأمل الطوباويّ في مَن يقبس مِن نصّ عَزَّة ما يحوّل إشراقات التاريخ- التي رَمَزَ إليها الكاتب بنصّ عَزَّة- إلى واقعٍ حيّ، متحدّيًّا السُّلطة التقليديّة، بوجهيها التشريعيّ والتنفيذيّ.
ونواصل القراءة في تفاقم هذا المصطرع الثقافيّ الحضاريّ، الحلقة العاشرة، إن شاء الله.
aalfaify@yahoo.com
http://alfaify.cjb.net
ــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: الغيمة الرصاصيّة، 97.
(2) انظر: م.ن، 98.
(3) م.ن.
(4) انظر: م.ن.، 102.
(5) م.ن، 104.
(6) انظر: م.ن، 110.
(7) انظر: م.ن، 109.
(8) انظر: م.ن.، 110- 111.
(9) انظر: م.ن.، 111.
(10) م.ن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ملحق "الأربعاء"، صحيفة "المدينة "- السعوديّة، الأربعاء 3 جمادى ا لآخرة 1430هـ= 27 مايو 2009م
http://www.al-madina.com/node/141545/arbeaa
|