الغيمة الكتابيّة-10 :3.دراسات: إضبارة د.عبدالله الفـَيفي http://www.alfaify.cjb.net

الغيمة الكتابيّة
قُبلات .. وصواريخ!
( قراءة في تماهي الشعريّ بالسرديّ في الرواية السعوديّة )
بقلم: الدكتور عبدالله بن أحمد الفَيفي

[ الحلقة العاشرة ]

شاهدنا في الحلقة التاسعة من هذه القراءة في "الغيمة الرصاصيّة" للشاعر علي الدُّميني، ما أسميناه "الانفجار النصوصيّ"، وذلك في القِسم الخامس من النصّ، بعنوان "وهج الذاكرة، 5- سهل الجبليّ"، حيث يصوّر الكاتب الصراع الرمزيّ والجدل الأيديولوجيّ بين أقطاب خطابه السرديّ. وأشرنا إلى أن شخصيّة جابرٌ تحمل إلى القارئ معادل الأمل الطوباويّ في مَن سوف يقبس مِمّا يسمّيه الكاتب "نصّ عَزَّة" ما يحوّل إشراقات التاريخ- التي رُمِز إليها بنصّ عَزَّة- إلى واقعٍ حيّ، متحدّيًّا السُّلطة التقليديّة بوجهيها، التشريعيّ والتنفيذيّ. على أن جابرًا يستشعر تقصيره السابق في ذلك المسعى، قائلاً: "توهّمتُ أن وظيفتي كعريفة لقرية الشماليّة ستهيّئني لممارسة دوري الذي حدّدتْه روايةُ عَزَّة، ثم اكتشفتُ مع مرور الأيّام أنني انغمستُ في مشاغلي الوظيفيّة اليوميّة، حتى كدتُ أنساه. أحيانًا أصرخ من عذاب المُراوحة بين الوفاء له وبين ما يُمليه عليّ الواقع، وكأنما أتحسّسني في ثياب الخائن لحقائق التاريخ ومسارِه."(1) وهذا ما دَفع سهلاً، وقد غادره جابر لدى هذه النقطة من الحوار، إلى القول: "وقفت أتأمّل نصّ عَزَّة في الذاكرة، وأتساءل: هل يمكن لواقع أن يُشابه نصّه، أو لنصٍّ أن يقترب من حقيقة واقعه؟"(2)
إن نصّ "الغيمة الرصاصيّة" إذن- كما أشير مرارًا- يبدو قصيدة رمزيّة، نَفَخ فيها الكاتب روح السَّرد ليحوّلها إلى سرديّة. في تخييلاتها يُشْبِه ما جاء في الحلقة السابقة من شَنْق مبروكٍ، عشيقِ مريم، فكرةَ صلبِ المسيح عليه السلام، (دلاليًّا). وإذا كانت عَزَّة تمثّل النصّ الشامل للمعاني والقِيَم المحلوم بها، فإن شخصيّة مريم يمكن أن يُقرأ فيها الوجه الحداثيّ والمستقبليّ، مقابل نورة، وجه الحضارة التراثيّة وإشراقات التاريخ. ولقد تنازعت سهلاً- كما عبّر- قُبلات هؤلاء الفاتنات الثلاث. حين تقبّله نورة يحضر فمُ مريم الطفليّ الشرس.(3) فثمّة- كما قال- "قوى سحريّة، وضباب برائحةٍ موغلة في حنين التاريخ تسكن جسد نورة ووجدانها، تغويه بالتأمّل، أمّا مريم، فإنها كيان منحوت من الواقع، يشاغبه بحسّيّته، في لذعة اخضرار الشجر، وسطوة بريق الماء الدافقة، وقوّة رغبات السُّلالات، وطفولة الهواء."(4) وبالرغم من محاولته تجنّب مريم فإنها تباغته بإغرائها، ودفء حضورها، بيد أنه يكتفي من معاشرتها برفيف الحُلم وبقايا حرقته. وهو يعزو هذا العجز في الاستجابة لمريم إلى احتماليّة أن نورة قد عوّدته على إحراق الرغبات دون بلوغها الذروة، أو أن مغارات ابن عيدان قد كسرت التدفّق العفويّ للروح. ليستنتج قائلاً: "ربما كان هذا أو ذاك، لكن الأهمّ أن نورة خارج نصّي، ومريم جزء منه، وهذا ما يَفْصِل بين الحالتين".(5) وتلك هي رمزيّة المعادلة الجدليّة بين (التراث/ نورة) و(الحداثة/ مريم).
وقد تعرّض نصّ عَزَّة- كما يشكو سهل- لتحريف ابن عيدان في سِجلاّته. والأدهى من ذلك "إخراج النصّ من كونه كينونة مكتملة إلى احتمالٍ يتحايل على واقعه لبلوغ أهدافه العصيّة."(6) تلك هي الحالة الإشكاليّة التي يبحث فيها النصّ، أو بلفظ آخر: يبحث فيها الكاتب، وهي: كيفيّة تحويل النصّ المتخيّل (المثاليّ) إلى واقعٍ حيّ قابل للتعامل معه، بصفته واقعًا لا محض نصّ؛ كي يهبط من عليائه ليشتغل في الواقع.(7)
ولمّا اجتمع جابر ونورة وعُبيد الراعي على العشاء لدى سهل الجبليّ دار الحديث بينهم حول تلك القضايا الضِّمنيّة التي في فلكها يدور النصّ. ومنها أنْ أَظْهَرَ جابر دوره في إدخال نورة وعُبيد إلى النصّ- الذي ذَكَر أنه لم يكن يتضمّنهما- ووافقه سهل على ذلك، وسَرّ هذا نورةَ وعُبيدًا. وفي هذا مؤكّد لما أشير إليه من تشخيص جابر دور ترجمان النصّ إلى واقع. والنصّ- كما خاطب جابرًا سهلٌ- "ليس صخرة، وإنما هو نِسغ شجرة، تُعيد أعضاؤها الولودة- ما دامت حيّة- رسم الأصل من جديد."(8) وبذا فإن علاقات الحضور والغياب في النصّ تتيح استدعاء عناصره، وإنْ لم تكن مباشرة الحضور فيه. وهذه البنية النصّيّة الموصوفة هاهنا هي الوجه الآخر للبنية الواقعيّة، التي رمّز الكاتب إليها من خلال فكرة "نصّ عَزَّة".
وفي هذا السياق النقاشي بين شخوص النصّ الأربعة (نورة وعُبيد وجابر وسهل) تُعرب نورة عن أنها تظلّ متجاذبة الأهواء بين: جابر، وسهلٍ، وحتى عمران وابن عيدان، وقبل هؤلاء عُبيد الراعي، الذي هو صوتها وشجاها، ولعل الصراع- كما قالت- قد حُسم لصالحه مبكّرًا؛ لأن الشاعر هو صوت الضمير والأصالة والتاريخ والجذور، في حين تتفاوت علاقات الآخرين بذلك الصوت. أمّا جابر، فلم يكن من سبيل إلى زواج نورة به من حيث لا يحقّ له الزواج بأكثر من واحدة. ذلك أن جابرًا يحمل وجه التوحيد لجميع الأطياف والأطراف والأصوات، ولا يمكنه أن يقترن بواحد منها دون الآخر. فهو لن يكون مُلك أحدٍ لوحده، بل هو مشترك بين الجميع، مثلما أنه- بفِكره الاشتراكي أيضًا، كما سيأتي(9)- لا يؤمن بالتملّك الفرديّ، كما يؤمن به عُبيد. وأمّا ابن عيدان، فمشغول- كما أبانت نورة- بالحُكم في الوادي، وذلك ما يشغله عن نورة وعمّا تعنيه، وإن كان ما ينفكّ يمنّي نفسه بها. ابن عيدان- كما قالت-:

"يحرس الماضي، وأنت [=جابر] تحرس النصّ، ولعلّك بهذه الخطوات تنفخ الحياة في رئة نصّ كاد أن يتجمّد.
- لا أدري إنْ كان الأمر سيُفضي إلى ذلك، ولكنني سأجتهد، وقد فكّرتُ في خطوة أخرى تجعل الرأي حصيلة حوار ومشاركة لا نتيجة رغبة محتومة، وسأفاتح ابن عيدان بها قريبًا.
عقّبتُ [=سهل] على كلامه:
- فليعمل كلّ حسب بوصلته، أمّا أنا فما زال الطريق أمامي طويلاً لإعادة كتابة النصّ من جديد حتى يأذن ذلك لعَزَّة بالخروج من طيّاته لتحرّرني هي!"(10)

ويُعَدّ خروج عَزَّة من طيّات النصّ- بحسب رؤية "الغيمة الرصاصيّة" تلك- تحقّقًا للهدف (الحُلم) في انتهاء الصراع والتنازع إلى حُرّيّةٍ مطلقة تشمل الجميع.
وتلك هي هواجس الكاتب الثقافيّة والحضاريّة التي قاربها من خلال هذا القِسم من سرديّته.
فإذا انتقل القارئ إلى القِسم المعنون بـ"وهج الذاكرة، 6- الأصدقاء (1)"، ألفَى الخلفيّة الواقعيّة التي يحاول الكاتب أن يستثمر ظِلالها لمناقشة تلك الأسباب الثقافيّة والحضاريّة وراءها، وذلك من خلال نَصّه الآخر الذي يدعوه "نصّ عَزَّة". فهو يتحدّث في هذا القِسم عن أهداف أزمة الخليج الثانية، وما سَرَدَه الأصدقاء من ظروفهم إبّانها. إذ يتبادل الشاعر الفصيح والشاعر الشعبيّ أناشيدهما:

ولمّا قذفنا في الرياضِ قلاعهمْ
تهاوتْ بيوتُ القومِ ثُم تهاوَوا

ليردّ عليه الشاعر الشعبيّ، بقوله: "وزرعنا الردَى في بطن بغداد... وتركنا البيوت بلا عناوينا." بيد أن (مصطفى) يقف غاضبًا أمام هذه الحرب الشّعريّة، المظاهِرة للحرب الفعليّة، قائلاً: "لا بارك الله في شاعرهم ولا في شاعرنا؛ فالرياض وبغداد قلاعٌ عربيّة، ولا خير في من يفرح بالشُّهُب المتساقطة كلّ ليلةٍ على أيّ منهما."(11)
في الحرب- كما صوّر النصّ- يمتزج الشعور الإنسانيّ بالشعور القوميّ. ولقد يتحمّس المرء للقوميّ حتى يُحْدِق به هو، فإذا هو ينقلب على عقبيه، وذلك كموقف خالد في ما دار من حوار بينه وبين جاسم ومصطفى؛ إذ كان يفرح لقصف الصواريخ العراقيّة (تلّ أبيب)، حتى حطّت على رأسه هو، فأخذ يلعنها ويلعن مطلقها.(12)
على أن هذا القِسم من النصّ يبدو مقحَمًا على سائره، مفتعَل الربط بجملته؛ وذاك لغرضٍ خاص، وهو مناقشة مسائل جزئيّة تتعلّق بظروف حرب الخليج الثانية، والقضايا الاجتماعيّة التي أفرزتها أو أثارتها. ثم ليثير جدليّتين: الأولى حول حرب الخليج والاستعانة بالأجنبيّ، والأخرى حول قيادة المرأة للسيّارة.

ونستمر في الحلقة المقبلة في تفكيك "الغيمة الرصاصيّة"، وتتبع ما دار في هذا القسم منها.



aalfaify@yahoo.com
http://alfaify.cjb.net
ــــــــــــــــــــــــــ

(1) الغيمة الرصاصيّة، 112.
(2) م.ن.
(3) انظر: م.ن.، 113.
(4) م.ن.، 113- 114.
(5) م.ن.، 115.
(6) م.ن.، 116.
(7) انظر: م.ن.، 117.
(8) م.ن.، 116.
(9) انظر: م.ن.، 228- 229.
(10) م.ن.، 118.
(11) م.ن.، 121.
(12) انظر: م.ن.





ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ملحق "الأربعاء"، صحيفة "المدينة "- السعوديّة، الأربعاء 10 جمادى ا لآخرة 1430هـ= 3 يونية 2009م
http://al-madina.com/node/144279/arbeaa




شكراً لزيارتك هذه الصفحة!

جميع الحقوق محفوظة ©