تطرّقنا في الحلقة العاشرة من هذه القراءة إلى ما صوّره القسم الخامس من "الغيمة الرصاصيّة" والسادس من علاقات اتصال وانفصال بين أطراف سيرة البطل (سهل الجبليّ). على أن القِسم السادس- المعنون بـ"وهج الذاكرة، 6- الأصدقاء (1)"- قد يبدو، كما أشرنا، مقحَمًا على سائر النصّ، مفتعَل الربط بجملته؛ وذاك لغرضٍ خاص، وهو مناقشة مسائل جزئية تتعلّق بظروف حرب الخليج الثانية، والقضايا الاجتماعيّة التي أفرزتها أو أثارتها. ثم ليثير جدليّتين: الأولى حول حرب الخليج والاستعانة بالأجنبيّ، والأخرى حول قيادة المرأة للسيّارة. وهنا يحتدم النقاش حول هاتين الجدليّتين بين: (مصطفى)، الذي يمثّل الصوت القوميّ، و(جاسم)، الذي يبدو ممثّلاً الصوت الخليجيّ تحديدًا، و(خالد)، الذي يبدو ممثّلاً الصوت السعوديّ، و(جواهر) زوجة خالد، الممرّضة التي التحقت بدورة الإسعافات الأوّليّة للمساعدة في ظروف الحرب، غير أن الحرب قذفتها وزوجها خارج المدينة مجبرَين، ثم (أبي أنَس)، الذي يمثّل الصوت الإسلامويّ، وإنما يَظهر بين الأصدقاء عقِب قَتْل (جواهر) عقربًا بكعب رجلها، وحينما سألها خالد: "لماذا لم تتركيها لعلّها تلدغ مصطفى، فنجرّب خبرتكِ الصحيّة وأدويتكِ؟ ضَحِكَتْ: لكنّني أخاف أن تلدغكَ أنتَ، أمّا مصطفى فهو شقيّ ولن تستطيع ملامسة أقدامه... خرج (أبو أنَس) من خيمته المجاورة لخيمة الأصدقاء وأطلّ عليهم..."(1)، وكأن هذه العقرب إشارة إلى أبي أنَس، لما يمثّله من فكرٍ منغلقٍ متطرّف- وقد مرّت بالقارئ دعوته أبناء سهل الجبليّ أثناء غيابه إلى محاضرة تُقام في المسجد ضدّ الحداثة- ولذا كان أكثر انسجامًا مع مصطفى، ذي الفكر القوميّ، وأخيرًا (سعد)، الذي كان توفيقيًّا، وأراد أن يكون حياديًّا.
وكان الجدل بين الأصدقاء في القضيّة الأولى (حرب الخليج) تعبّر عن الأصوات الاجتماعيّة العربيّة، بوُجهات نظرها المتباينة. أمّا في القضيّة الثانية (قيادة المرأة للسيارة)، فإن الوحيد الذي وقف ضِدّ الفكرة كان: أبا أنس. خالطًا في سلّة واحدة من محاذير ذلك بين ما يسمّيه: "عقيدتنا/ وعاداتنا/ وتقاليدنا"!(2)
ويصطنع الكاتب رابطًا بين هذا القِسم وبين صُلب النصّ من خلال ما يَذكره من أن خالدًا اكتشف مخطوطًا في إحدى التكايا، يتألّف من أوراق جِلد وقِطَع جرار فخّاريّة مكسّرة، "جَمَع أجزاء متناقضة عن عَزَّة من رواةٍ دَوّن شهاداتهم سهل الجبليّ."(3) فيشير عليه جاسم بأخذ تلك المخطوطات إلى صديق في الرياض يَدْرُس علم الآثار، علّه يستطيع فكّ رموزها. ولمّا قالت لخالد جواهر:
"يا خالد، مللنا من اهتمامكم بأثر من الآثار البالية، وكأنكم طلاّب في قسم الآثار.
- أجابها: النصّ خلاصة تجربة، ومفتاح لأخرى، لاسيما وقد وجدنا فيه نُتَفًا تعبّر عن إشكالات قديمة جديدة في آن، تتحدّث عن مصائر وأشخاص وأوطان، وكأنّها بنت اليوم."(4)
وفي إجابة خالد هذه يتكشّف مفتاح تأويل النصّ كلّه. كما يؤكّد الدلالة الرمزيّة لعَزَّة التي تُقابل في الطرف النقيض الدلالة الرمزيّة لحمدان، إذ تقول جواهر لزوجها خالد:
"أعطني مفتاح السيّارة، ودعني أتعلّم السياقة لعلّي أعثر على الوادي أو على مضارب عَزَّة، "اللي أبلشتونا بها إنت وربعك".
أجابها مازحًا: أتبحثين عن عَزَّة أم عن حمدان، يا جواهر؟
ضَحِكَتْ: بل عن ابن عيدان!
- ألا تخشين أن يضبطكِ أحد حرّاس الوادي وأنت تقودين سيّارتك هناك؟
- وماذا سيفعلون بي؟ ألا تركب نساؤهم الجِمال والحمير، متجوّلات بين المزارع والقُرى ومناطق الرعي؟
- بلى... لكن تلك مركوبات يا جواهر وهذه سيّارة، ولذا سيكتفون بوضعكِ في كهف سهل الجبليّ في المغارات.
- أعوذ بالله... أيمكن أن يحدث ذلك؟
صَمَتا حين عَبَرَ من أمام الخيمة جارهم أبو أَنَس، وخفض خالد صوت التلفزيون، واتّجه إلى أوراق القِصّة في طَرَف الخيمة."
فإذا كانت عَزَّة تمثّل معنى خُلاصة التجربة الأصيلة التي قد تحلّ إشكاليّات قديمة وجديدة، كما قال، فإن حمدان- مقابل ذلك- يمثّل البُعد الخارجيّ، أو الأجنبيّ. فيما يقف ابن عيدان مذبذبًا بين الطرفين، متجاذَبًا بينهما، يحمي نفسه، ويقمع مخالفي رأيه بقوّة السّلطان وواحديّة الرأي.
في هذا القِسم من النصّ كان صوت المؤلّف حاضرًا بشكل أقوى، وبأسلوب مباشر، يوجّه دفّته فِكرُه الشخصيّ، تلميحًا وتصريحًا، ويحرّك الشخوص فيه ليصل إلى الرسالة المعبّرة عن وجهة نظره، في سياقٍ حواريّ يعيد على ألسنة الشخوص جدَل الرأي العام، المنبثّ عبر وسائل الإعلام إزاء القضايا التي تطرّق إليها في هذا القِسم.
وفي ختام الجزء الأوّل المعنون بـ"وهج الذاكرة" يمكننا القول إن "الغيمة الرصاصيّة" سرديّةٌ تضحّي بالقارئ. ومن أوجه الصعوبة في قراءتها ما ينتج عن عدم تسلسل الأحداث؛ لما أعمله الكاتب فيها من تقديمٍ وتأخير. فالقِسم المعنون بـ"وهج الذاكر، 3- الراوي"، مثلاً، كان يُفترَض أن يجيء بعد القِسم السادس، بعنوان "وهج الذاكر، 6- الأصدقاء"؛ لأن ما ورد في القِسم الخاصّ بالراوي هو نتيجة لما ذَكَرَه في حكاية الأصدقاء، من اكتشاف المخطوط وأخْذه من قِبَل جاسم إلى مَن قد يستطيع أن يقرأه، وهو الراوي. وبهذا فقد قدّم القِسم الثالث من "وهج الذاكرة" على القسم السادس، وكان موضعه بعده، بصفته نتيجة. لأجل ذلك كان القارئ يجد نفسه أمام شخصيّات وأحداث لم يسبق له أن عَرَفَ ما وراءها من خلفيّات حكائيّة، فلا يتسنّى له ذاك إلاّ في صفحات لاحقة. وهذا الضرب من تقديم نتائج الأحداث على مقدّماتها كان يشوّش متابعة القارئ، ويضطرّه إلى أن يقرأ النصّ في بعض الحالات قراءة عكسيّة. أضف إلى هذا أن تلك الأقسام في النصّ ليست بمتراتبة على بعضها، وإنما تحمل أصوات أطراف الحكاية حول ما حَدَث من اختفاء سهل الجبليّ وما أعقب ذلك من تداعيات لدى كلّ طرف، وهو ما أورث النصّ المزيد من الغموض في تتابع نموّ شخصيّاته. وممّا يبيّن أن الكاتب قد قدّم بعض الأجزاء وأخّر، على نحو لا يبدو له منطق واقعيّ، ولا حتى فنّي، أنه يقول مثلاً- وهو يتحدّث باسم الراوي:
"امتدّ الحديث بكما عن ورق الجِلْد، والحشيّات، والتسجيلات مدّة طويلةً، وقال جاسم: لقد دخل خالد تجربة لم تكتمل عدّتها، فخالطت صحوه أشباح عَزَّة وسهل الجبليّ، ووجد نداءً ظنّه فاتحة للكتابة واستحضارًا للأرواح، فأحضر مسجّلاً لتسجيل ما توقّعه من حوار مع سهل، ولكن سهل الجبليّ لم يحضر، وطيف عَزَّة لم يجئ، وانعقد لسانه منذ ذلك اليوم... آلمني ما حدث لخالد ودفعني تشوّقي لإخراج عَزَّة من قِصّتها، فحاولتُ إقامة هيكل جديد للقِصّة، بدأته بحادثة اكتشاف الأصدقاء لأجزاء من النصّ لكنني أدركت مبكّرًا أنني عاجز عن إنجاز المهمّة ولذا قصدتك..."(5)
فهذا الكلام كان المفترض أن يأتي بعد الأحداث التي أُشيرَ إليها فيه، لكنها أحداث ستأتي لاحقة عليه! وهذا بعينه ما حَدَث حينما جعل الكاتب "في البدء" في آخر النصّ، وجعل "في الختام" أوّل النصّ، وكأنه يتوقّع أن يُقرأ النصّ من آخره إلى أوّله، لا من أوّله إلى آخره!
وهذا التشظّي الذي تعمّد الكاتب إجراءه على النصّ قد عمّاه أكثر ممّا أكسبه دلالته، ولاسيما حين يسرد ما لم تأت أسبابه ومقدّماته وممهّداته بعد، ثم يعود إليه في موضع منفصل تال. وكأنما هذا الشّتات الغريب هو في بنية "الغيمة الرصاصيّة" نظير ما حكاه السارد عن تشظّي نصّ عَزَّة. لكنه إذا كان قد ذَكَر أن نصّ عَزَّة لم يتحقّق لأنه مشتّت ومفرّق وضائع، فكذلك فَعَلَ هو بنصّ "الغيمة الرصاصيّة"؛ حيث مزّقه جذاذات متناثرة متعاكسة متناقضة، فجاء "غيمة كتابيّة" بحقّ. وهنا كان ينبغي التفريق بين طريقة إشكاليّة في السرد، بهدف إيصال رسالةٍ دلاليّة معيّنة، وبين ما يبدو محض بعثرةٍ لأطراف النصّ بلا مسوّغ فنيّ أو دلاليّ. ومن ثَمّ بين تقنية (الارتجاع الفنّي (Flash- Back- على سبيل المثال- وما كان يحدث في بنية "الغيمة الرصاصيّة" من تأخير وتقديم؛ وكذا بين اللعبة الحكائيّة لدى كاتب كغبريال غارسيا ماركيز- في نصّ كـ"خريف البطريرك"؛ يحكي قِصّة شخصيّة واحدة، يدور حولها ماضيًا وحاضرًا ومستقبلاً، بشكلٍ منتظم في نسقٍ واحد، وإنْ تحرّك من حوله وخلفه وأمامه وفوقه ودونه- وبين شتاتٍ من النصوص المتقاطعة المتعارضة المتداخلة المتناثرة، كما وقع في "الغيمة الرصاصيّة". بيد أن تلك في النهاية هي (القصيدة- الرواية)، بطبيعتها الشعريّة التهويميّة الغالبة، لا بواقعيّتها السرديّة واتساقها المنطقي، ولعلّ ما قد يبدو معيبًا في بنية السرد الروائيّ قد يُعدّ خاصيّة بنائيّة في نصٍّ كهذا.
(ونواصل).
aalfaify@yahoo.com
http://alfaify.cjb.net
ــــــــــــــــــــــــــ
(1) الغيمة الرصاصيّة، 125.
(2) م.ن.، 131.
(3) م.ن.، 129.
(4) م.ن.، 130.
(5) م.ن.، 79- 80.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ملحق "الأربعاء"، صحيفة "المدينة "- السعوديّة، الأربعاء 17 جمادى الآخرة 1430هـ= 10 يونيو 2009م، ص8.
http://www.al-madina.com/node/146861/arbeaa
http://www.al-madina.com/files2/arb/08-09.pdf
|