إن الاستعداد لاستقلال الفِكْر، والاستعداد لقبول النقد، فضلاً عن قبول الاختلاف في الرأي، هي عملاتٌ نادرة في بيئات تربويّة تقليديّة، منغلقة، كبيئاتنا العربيّة. فهنا تنشأ العقولُ على الرأي الأوحد، والتعصّب لكلّ موروث، وتقديس الماضي، والتسليم بما ترك الأوّلون، وطَوْطَمَة السادة، والدفاع عن الباطل، وإنْ حَكَم التجرّد العقليّ ببطلانه، بل بضَرَرِه.
وما ردّات الفعل الهوجاء على ناقدٍ لذلك الواقع، أو مبدي رأيٍ في ممارسةٍ تتعلّق به أو ظاهرة منه، ولا عدم التفريق بين (مشروعيّة النقد) و(لا أخلاقيّة الهجاء)، ولا (شَخْصَنَة الخلاف) عِوَض (مَوْضَعَته)، إلاّ دلائل صادمة على ثقافة سكونيّة (رِعْدِيْدَة)، تُثبت بحساسيّتها المفرطة من النقد، وحنقها المريض على وجهات النظر المغايرة، أنها مهدّدة في مناعتها الحيويّة ضدّ الاندثار والفناء، ناهيك عن عدم تأهيلها للتطوّر والارتقاء. وما الدفاع المستميت في سبيل الباطل من العادات والتقاليد، ولا التمجيد للعاديّات والطقوس الموروثة، بعجرها وبجرها، وبحمولاتها الخرافيّة الشعبيّة.. ما ذاك كلّه بسبب خَبَلٍ لدى المدافعين، أو لفقدان تمييزٍ بين الغثّ والسمين لدى المستميتين، بل هو بحوافز مستكلبة من الهوى، أو الميل، أو الانتماء، أو المصلحة؛ وبالجملة لتبعيّةٍ ما لقطيعٍ ما؛ فكلٌّ في مجتمع متخلّف كهذا قد رَبَطَ عقله وروحه بمتبوع، لا فكاك له منه، ولا مناص له من تبعيّته ولا محيص، بل لا يرى العالَم ولا حياته- وكأيّ مخلوق ذي تركيبة ذهنيّة بدائيّة- إلاّ من خلال سيّد، أو كبير، أو مرجع، أو شيخ، أو حَبر، أو راهب. وهكذا درجتْ بعض القطعان البشريّة على مرّ التاريخ.
لأجل هذا فإن التعلّم- وذلك الشيء الذي يُنعت مجازًا بالثقافة لدينا- لا يعملان غالبًا على انعتاق العقل، ولا إلى أخذه بمنهجيّة موضوعيّة في الاستدلال، والحُكم، والنقد لما ألِفَ المرؤ أو المرأة في مجتمعاتنا. كلاّ، بل هما يعملان بعكس ذلك، على تثبيت ما هو سائد، والمضيّ وراء الماضي، وتقييد العقل أكثر، ضمن اندغاميّة طائفيّة، أو مذهبيّة، أو تيّاريّة، أو حزبيّة، أو قَبَلِيّة، أو مناطقيّة، أو وطنيّة، أو إقليميّة، أو عِرقيّة، ليلغيَ التعلّمُ والثقافةُ المدّعاةُ الفطرةَ النقيّةَ التي خُلق الإنسان عليها، والحريّةَ الأولى التي وُلد فيها، ومن ثَمّ توظيف الأدوات المعرفيّة التي حصّلها المتعلّم، والتي لا تتاح للعامّة من الناس، لإيجاد آليّات ذهنيّة مبتدَعة لتطوير قوانين الشَّطط، والظُّلْم، والتسلّط في الفعل، والسلاطة في القول، والجهل فوق جهل الجاهلين! ذلك لأن متعلّم اليوم العربيَّ- والمثقف، ذلك النتاج المعتلّ بتربيتنا وتعليمنا- إنما يُعِدَّان نفسيهما ليتقمّصا درع عمرو بن كلثوم العصر الحديث، في حربه البربريّة، وحميّته الجاهليّة، لترسيخ أوتاد الطائفة، أو المذهب، أو التيّار، أو الحزب، أو القبيلة، أو المنطقة، أو الوطن، أو الإقليم، أو العِرق، دفاعًا تارة وهجومًا أخرى. كيف لا، والمثقّف هاهنا يبدو- ومهما ادّعَى أو كان توجّهه- محض مجنّد في كتيبة، يأتمر بأمرها، ويتقاضى مكافآته ماديّةً أو معنويّةً منها، وينتظر تصفيقها، (التشجيعيّ المباح طبعًا!)، وليس- مطلَقًا- حُرّ رأيه، ولا نتاج عقله المستقلّ، أو فردانيّته الإنسانيّة. إنها العبوديّة للبشر لا لربّ البشر! وما نماذجنا الإعلاميّة، التي تسمّى الحواريّة الفضائيّة- من نمط أشهرها: "الاتجاه المعاكس" على قناة (الجزيرة)- إلاّ شواهد ثقافيّة على فضائح شخصيّتنا، وعُرْيٌ حضاريّ لعقليتنا الحقيقيّة المتخندقة، التي لا تَقبل التنوّع ولا التعدّد ولا حتى الحوار، فإمّا أن نكون في اتجاهٍ واحد جميعًا، أو فنحن بالضرورة في اتجاهات متعاكسة متدابرة متنابحة!
وهذه التكتّلات النفسية والجماعيّة ما تنفكّ تَبذر في الأوساط العامّة والخاصّة الكراهيّة، والتنافر، والتنابذ، والتنابز، والتناحر، فتُمزّق الأُسَر، وتُهدر الصداقات، وتُفرّق الجماعات، وتُفسد المواطنة، وتُشتّت العلاقات، مهما كانت في الأصل أواصرها الإنسانيّة متينة راسخة. من حيث إن الحَكَم بيننا ليس العقل المجرّد، ولا العِلم الخالص، ولا المنهجيّة النزيهة؛ ولأن جرثومة التعصّب لمبدإٍ من تلك المبادئ، وبتلك الصورة- أعني: على طريقة "أنا مع قومي على الحلوة والمرّة، والخير والشرّ، والحقّ والباطل"، أو "أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمّي على الغريب"- وراء مرضٍ قِيْمِيٍّ مستوطن قديم، ووباء أخلاقيّ مستشر معاصر، ينتقل وراثةً واكتسابًا وعدوَى، يُعمي أهله ويُصمّهم، ويفرّق ما لا يجتمع منهم عادةً إلاّ تحت لواءٍ واحدٍ من الفِكْر والرأي والطريقة والتوجّه، ومن شَذَّ شَذَّ في النار!
ويصوّر لنا يوسف زيدان، في روايته "عزازيل"، شاهدًا بالغ الدلالة على تلك الحالة من التشظّي اللا إنسانيّ- بل بالأصحّ (اللا حيوانيّ)؛ لأن عالم الحيوان أكثر هُدى في كثيرٍ من عالم الإنسان المؤدلج، الذي ما تنفكّ تعبث به عزازيل الأدلجة وأبالستها- وكيف أن الأيديولوجيا، أيًّا ما كانت، تُفسد النفوس والطبائع والعقول، وتقلب العلاقات رأسًا على عقب، فتصيّر الودّ كرهًا، والآمال آلامًا. يأتي ذلك من خلال شخصيّة (أوكتافيا)، تلك الفتاة التي هامت إعجابًا وعشقًا ببطل الرواية، الراهب هيبا، وإلى درجة جنونيّة.. لكن متى؟ كان ذلك قبل أن تكتشف أنه على غير معتقدها، ورأيها الموروث، وقناعاتها التي هي مؤمنة أنها الحقّ المطلق الذي لا ريب فيه، وما سواها الباطل الذي لا يقترفه إلاّ هالك. وهي لذلك مستعدّة أن تدفع أيّ ثمن في الذود عن حياض ما تعتقده وما تُؤمن به. فما أن عرفتْ أن صاحبها الحبيب مخالفٌ لها في الرأي والمعتقد، حتى كانت النقطة الفاصلة المباغتة بينهما، فانقلبتْ إلى شخصيّة أخرى في لحظةٍ صاعقة، وانقلب هو في نظرها إلى عكس الصورة الرئعة التي كانت له في نفسها، فصار كأنه غير ما كان، ذلك الشاب الذي تُحبّ، بل صار حبُّها له بغضًا، وتعلُّقها به عداءً قاتلاً. يصوّر الكاتب هذا الموقف المأسوي بقوله:
"سادت لحظة صمتٍ طويلة، ممزوجة بالذهول.. وبعد إطراقةٍ مقلقة، نظرتْ أوكتافيا نحوي، وقد اكتسَى وجهها بحمرة الحنق، واحتقنت عيناها بحزن كظيم، فجأة انتفضت واقفة وقد صارت لها هيئةٌ كتلك التي تكسو التماثيل الضخمة القديمة. وبكلّ ما فيها من عنفوان وَثَنِيّ، ومن مرارةٍ موروثة، مدّت ذراعها اليُمنى نحو الباب، وزعقت فيّ بصوتٍ هائل، مثل هزيم رعد سكندريّ، أو صرير ريحٍ وثنيّة عاتية: اُخرج من بيتي يا حقير، اُخرج يا سافل!"(1)
وهكذا يُفسد التعصّب أخلاقنا دائمًا، ويُدمّر عقولنا، ويُسمّم طبائعنا، ويحطّم أجمل ما يمكن أن يَنشأ بيننا من شؤون محبّةٍ وأُلفة وسلام.
وتلك هي العقلية الوثنيّة الفِصالية الخالدة، التي ما فتئت تعاني منها ثقافاتنا ومجتمعاتنا، والتي لا تحتمل الاختلاف، ناهيك عن النقد، ولا تتصوّر تنوّع الرؤى والأفكار، ولا تطيق حوارًا مع آخر، ولا تقبل التعايش إلاّ مع نفسها أو مع مَن على شاكلتها. فأنت إمّا أن تكون معها فيما ترى وتفعل، وإلاّ فأنت عدوّها، لا محالة، وستكيد لك كيدًا لتتغدّى بك قبل أن تتعشّى بها! ولقد تتشدّق تلك العقلية الوثنيّة في فراغٍ نظريّ ببعض المفاهيم الحضاريّة، وتصطنع لك الشعارات البرّاقة، ولاسيما حول حُريّة الفِكْر والرأي والحوار والعقلانيّة، وقد تملأ الأجواء والصحف ضجيجًا بالدعوة إلى التحلّي بذاك كلّه، حتى إذا تعلّق الأمر بوجهة نظر عن ذاتها المعصومة، أو عن بلدها الكريم، أو عن موروثها المقدّس، انكشف زيف ما تقول مقارنةً إلى ما تفعل، وتلوّنت عليك تلوّن الحرباء، وأخذتها العِزّة بالإثم من جميع أقطارها، فألقت بها هيستيريا التعصّب في يمّ لا ساحل له من الظلاميّة وضيق الأفق! إنها روحٌ تحسب كلّ صيحةٍ عليها عدوًّا، فينحاس حالها؛ والرأي فينا حينما لا يوافق الهوى- هو على حدّ قول الشاعر: "يَحُوسُ قبيلةً ويُبِيرُ أُخْرَى"، فتنقلب تلك الشعارات منقلَبات لا يمكن التنبّؤ بحماقاتها، فإذا عقولها الخربة بدورها تحوس خلال الديار، تبحث- بأيّ ثمنٍ- عن مخارجها من ساحة حقّ حاصرها وحقيقة أحرجتْها، عائدة إلى معدنها الكالح البشع، الذي طالما تظاهرتْ نظريًّا بعكسه؛ غير أن الطبع غلاّب!
(ونواصل تفكيك تلك العقليّة الخبيصة في المساق المقبل، إن شاء الله).
ــــــــــــ
(1) رواية "عزازيل"، نهاية الرَّقّ السادس "النقطة الفاصلة". وقد نالت الرواية، بجدارة، جائزة بوكر العربية 2009. وعدا ما يظهر من دوافعها الفكريّة المبيّتة، فإنها بحقّ تُعِيْدُ إلى الرواية العربيّة احترامها اللغويّ والفنّي والفكريّ، مُزاوِجة ًالمعرفيّ بالسرديّ ببراعةٍ نادرة، بعد حين من الدهر تخطّفت الروايةَ العربيّة حساباتٌ تجاريّة وباتت في مهبّ الأدعياء.
* (عضو مجلس الشورى)
aalfaify@yahoo.com
http://alfaify.cjb.net
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صحيفة "الجزيرة"، المجلة الثقافية، الخميس 18 جمادى الآخرة 1430هـ= 11 يونيو 2009م، العدد 287، ص10.
http://www.al-jazirah.com/culture/2009/11062009/fadaat26.htm
|