الغيمة الكتابيّة-12 :3.دراسات: إضبارة د.عبدالله الفـَيفي http://www.alfaify.cjb.net

الغيمة الكتابيّة
بين وهج الذاكرة وعتمة المصابيح!
( قراءة في تماهي الشعريّ بالسرديّ في الرواية السعوديّة )
بقلم: الدكتور عبدالله بن أحمد الفَيفي

[ الحلقة الثانية عشرة ]

وقفنا في الحلقة الحادية عشرة على التشظّي الذي تعمّد كاتب "الغيمة الرصاصيّة" إجراءه على نصّه، وأشرنا إلى أنه قد عمّاه أكثر ممّا أكسبه دلالته، ولاسيما حين يسرد ما لم تأت أسبابه ومقدّماته وممهّداته بعد، ثم يعود إليه في موضع منفصل تال. وكأنما هذا الشّتات الغريب هو في بنية "الغيمة الرصاصيّة" نظير ما حكاه السارد عن تشظّي نصّ عَزَّة. وإذا كان السارد قد ذَكَر أن نصّ عَزَّة لم يتحقّق لأنه مشتّت ومفرّق وضائع، فكذلك فَعَلَ هو بنصّ "الغيمة الرصاصيّة"؛ فجاء "غيمة كتابيّة" بحقّ. وألمحنا إلى الفرق بين طريقة إشكاليّة في السرد، تهدف إلى إيصال رسالةٍ دلاليّة معيّنة، وبين ما يبدو بَعْثَرَةً لأطراف النصّ بلا مسوّغ فنيّ أو دلاليّ. ومن ثَمّ بين تقنية (الارتجاع الفنّي (Flash- Back- على سبيل المثال- وما كان يحدث في بنية "الغيمة الرصاصيّة" من تأخير وتقديم؛ وكذا بين اللعبة الحكائيّة لدى كُتّاب الواقعيّة السحريّة، كغبريال غارسيا ماركيز، وبين ما وقع في "الغيمة الرصاصيّة". وكأنّ الكاتب كان يُلقي مهمّة بناء نصّه وكتابته على القارئ! بيد أن تلك في النهاية هي (القصيدة- الرواية)، بطبيعتها الشعريّة التهويميّة الغالبة، لا بواقعيّتها السرديّة واتساقها المنطقي، ولعلّ ما قد يبدو معيبًا في بنية السرد الروائيّ قد يُعدّ خاصيّة بنائيّة في نصٍّ كهذا.
إلاّ أنه، مهما قيل بأهميّة القارئ في علاقته بالنصّ، فمسؤليّة الكاتب مقدَّمة دائمًا؛ لا يمكن التخلّي عنها وإيكالها إلى القارئ، إلاّ بمعنى تأويليّ لا بنائيّ. ذلك أن قارئ "الغيمة الرصاصيّة" سيجد نفسه أمام ما يشبه بيادق شطرنج نوقلت بشكل غريب ثم طُلب إليه أن يصل بها إلى تركيبٍ جديد ينتهي إلى الفوز بالمعنى. وهي فوضويّة لا تخلو من متعةٍ لدى قارئٍ صبور، غير أن من سلبيّاتها أنها قد جاءت، لا مربكة لذهن القارئ، ومؤثرة على الاتساق السرديّ النِّسبيّ فحسب، بل كانت وراء إرباك الكاتب نفسه أحيانًا؛ إذ يقع في بعض الخلط السياقيّ، أو بين أسماء الشخوص، ومن ذلك قوله في وصف اختطاف مسعود الهمداني سهلاً إنه كان يُقلّه "بعيره الضخم"، ثم إذا به يشير في الصفحة التالية إلى أن مطيّة مسعود كانت "ناقته"(1). أو تسميته (أبا عاصم) بـ(أبي معصوم)، في سياقٍ الحديثُ فيه من الثاني عن الأوّل(2). أو تسمية (أُمّ عَزَّة) بـ(أُمّ مريم)، في حديثه عن زواج (عُبيد بأُمّ عَزَّة)(3). أو تسميته (أُمّ عَزَّة) بـ(أُمّ نورة) في حديثه عن إقامة "عُبيد الراعي وأُمّ نورة عشّة المقهى الجديد"، والصواب: "عُبيد الراعي وأُمّ عَزَّة"(4). وكذا الحديث عن (أبي محماس وعيضة) في مكانٍ الحديثُ فيه عن (أبي محماس وعطيّة)(5).
ومن هذا يتكشّف أن الغموض في "الغيمة الرصاصيّة" ليس وليد غموض في الموضوع، ولا عن ضبابيّة في الرؤية، وإنما أيضًا عن عمليات أجراها المؤلّف على النصّ- ربما بعد إنجازه- لدوافع خارجيّة؛ أي لضرورات سياسيّة أو اجتماعيّة. وهذا هو الفرق بين غموضٍ نوعيّ أو رؤيويّ وتغميضٍ مصطنع؛ ناجم عن إحداث تغييرات قسريّة في بناء النصّ.
ويعود كاتبنا في القِسم السابع إلى قِصّته الأُولى مع (سهل الجبليّ) في (وداي الينابيع)، تحت عنوان "عتمة المصابيح، 1- سهل الجبليّ". ولا بُدّ من الإشارة إلى التحوّل الذي يشهده النصّ هاهنا؛ إذ إن الأقسام الأولى كانت تُصَدَّر بعبارة "وهج الذاكرة"، وقد جاء السرد فيها في ستة أقسام، كلّ قِسم يحكي على لسان إحدى الشخصيّات؛ فالأوّل والثاني على لسان سهل الجبليّ، والثالث على لسان الراوي، والرابع على لسان الزوجة، والخامس على لسان سهل الجبليّ مرةً أخرى، والسادس حول الأصدقاء. وهنا ينتقل إلى لازمة جديدة للعنونة، هي: "عتمة المصابيح"، في ستة أقسام كذلك، وهذا ما يوحي بأننا إزاء تبلّجٍ للنور، وإضاءة لتلك الذاكرة، وإنْ جاءت إضاءة ما تزال مصابيحها معتمة.
وتزداد كثافة الشعريّة في هذا القِسم- كما في الأقسام الأخرى التي يحوكها الكاتب حول سهل الجبليّ ووادي الينابيع- لا في المستوى اللغويّ فحسب، ولكن في مستوى التخييل والتصوير كذلك.
ويستهلّ الكاتب هذا القِسم بحديث الشوق الذي قاد سهلاً إلى مريم، تلك الخُلاسيّة من أعراق مختلطة وفتنةٍ طفوليّة. فلمّا استقرّ به المجلس لدى أبي مريم عريفة الرمليّة، دار بينهما السؤال حول الخلاف بين الرمليّة وأهل العبادل، وحول الأرض الواسعة القريبة من الماء التي لا تُزرع وإنما يقع الخلاف بين أهالي القريتين على الأرض الوعرة البعيدة؟ فكان تعليل أبي مريم بأن تلك الأرض مهدّدة بالسيول، وأنهم ما زالوا موعودين بتحديد مكان السدّ، الوارد في قِصّة عَزَّة. وأن ابن عيدان كان يحلم بالسدّ، لكنه يخشى الخلاف حول موقعه. كما أنه حلُم ذات منامٍ ببنتٍ تتمتّع بذكاءٍ وحنكة، هي التي ستُرشدهم إلى موقع السدّ حين تبلغ العشرين، وقد سمّاها عَزَّة.
ويُلحظ في شخصيّة (مريم)- إلى جانب أنها بنت (عريفة الرمليّة)- أن أُمّها أَمَةٌ (لابن عيدان)، وزُوّجت بـ(عطيّة، عريفة قرية العبادل)، ثم طلّقها ابن عيدان ليزوّجها بجار عطيّة (عيضة: أحد عرائف العبادل)، وعَشِقَتْ (مبروكًا) حارس ابن عيدان وعَشِقَها، وهي كذلك تعشق (عريفة الشماليّة: جابر)، ويحدث هذا فيما الصراع بين القرى على أشدّه. ممّا يعني أن مريم تمثّل ذلك القاسم المشترك بين كلّ هذه الفئات والقبائل والقُرى المتناطحة، والشرائح والطبقات المتناقضة. إنها الأمل في تجميع هؤلاء جميعًا ولمّ شتاتهم، رغم كل التناقض والصراع الدائر بينهم.
وحين يتجاذب سهلٌ أطراف الحديث مع مريم وأبيها حول مكان السدّ: هل هو في قرية الينابيع، كما رأى عريفة العبادل عيضة في المنام؟ أم في قرية العبادل نفسها، كما ذكَر سهلٌ أنه قرأ في الأجزاء المحرّفة من قِصّة عَزَّة المنقوشة في المغارات؟ يخبره أبو مريم أن هذه الفكرة الأخيرة هي من أفكار (منصور وسعيدان)، اللذين يطمحان إلى تغيير كلّ شيء في الوادي وبدء حياة جديدة. منصور وسعيدان اللذان يمثّلان فِكر (مصطفى) القوميّ، و(أبا أَنَس) الإسلاموي في التغيير، كما بَدَوَا في القِسم السابق على هذا. وقد ذكَر أبو مريم أنه- على شَطَط الفكرة- يوافق عليها للخروج من أسوار الوادي المحصور بين الجبال. على أن أبا مريم قد ألمحَ إلى أن ابن عيدان لم يَعُدْ متحمّسًا لفكرة السدّ، حيث رأى فيها تهديدًا لسلطانه، إذ قال:

"لقد أخبرني، يومَ كنتُ مستودع سِرّه منذ زمن بعيد، بأنه حَلُم ذات ليلةٍ فرأى عَزَّة تُشير إلى موقع السّدّ وهو يمتدّ من باب المغارات إلى حوش القلعة، وأنه أبصر جدران القلعة تتهاوى تحت ضغط الماء، فأيقن أن عَزَّة تُهدّد وجوده ذاته، وتمنعه من التحكّم في الماء والمصائر؛ لذا لم يعُد متحمّسًا لخروجها من كتابكَ."(6)

وفي هذا السياق إشارات سياسيّة إلى ما يمثّله ابن عيدان من مصالح سُلطويّة يهدّدها التغيير المرتقب، المُعبّر عنه من خلال موضوعة (السدّ) هذه. يتساوق هذا مع ما حدّثت مريم به سهلاً- وهو في طريقه منصرفًا عن أبي مريم- من أن ابن عيدان كان يتجسّس عليه وعلى نصّ عَزَّة، ولمّا عَلِمَ أن النصّ قد غرق في الماء، وأن عَزَّة قد مرضتْ واختفتْ من بيتها، ابتهج.
لينحدر سهلٌ من هناك إلى مقهى نورة، الذي بات يُشْبِه سوقًا ثقافيّة لوادي الينابيع. وهناك تبعث نورةُ الأمل في سهل بإخباره أن بإمكانه الاطلاع على سجلاّت ابن عيدان لمعرفة ما يتعلّق بنصّ عَزَّة فيها. وبعد أن زوّدته بعدّتها من التفاصيل، وأوصته بالحذر والسرعة، انطلق، حتى إذا أتى قَبْوَ قلعة ابن عيدان، خَدَّر الحارس بالبخور الذي جهّزته نورة به، ووَلَج إلى خبايا المكان في القلعة، ليفتح صندوق الأسرار، فيجد أوراقًا، حَمَل بعضُها تدوينًا للصُّلح بين أهالي القُرى، وبعضُها رسومًا لحدود بعض المزارع، وأمورًا أخرى مختلفة. واستمرّ في بحثه حتى وجد ما أسماه: "كتاب السجلاّت". وبدأ في قراءة النصّ المحرّف. وقد استقرأ في النصّ: ذلك التنافس التجاري والاقتصادي بين عريفة قرية العبادل وعريفة قرية الينابيع على مقهى نورة، وأن الأمر وصل بينهما إلى الاشتباك القتاليّ، لولا أنْ حاول أهل الرمليّة والشماليّة التفريق بينهما. في تصويرٍ رمزيّ لبعض الخلافات القائمة في أساسها على خصومات اقتصاديّة، وكيف أنها عادةً تنشأ متلبّسة ببنًى أعمق، قائمة في الخصومات الثقافيّة، لتتمخّض من ثَمّ عن صراع سياسيّ. ويأتي هذا نظير ما تحدّث عنه الكاتب في القِسم السابق من جدليّات دائرة حول أزمة الخليج الثانية وقطبَي رحاها: العراق- الذي يمكن أن يكون رمزه قرية العبادل- ودول الخليج العربي، التي يمكن أن تكون القُرى الأخرى رموزها.
وقد أشار سهلٌ إلى أنه كان مع سجلاّت ابن عيدان إزاء ثلاثة نصوص، هو مضطر للتوفيق بينها ونَفْي الاختلافات عنها: النصّ الأصليّ في الذاكرة، (الذي يبدو معبّرًا عن الأصالة والجذور المثاليّة التي كانت سبيلاً للخلاص)، وما سمّاه نصّ المغارات، (وكأنه يومئ به إلى النصّ الذي كتبتْه المصالح السياسيّة التاريخيّة، وعاثتْ فيه أهواء الدول والحكومات فحرّفته عن مساره ليستقيم على غرار مصالحها)، والنصّ الثالث هو نصّ الواقع والعصر.(7) قال: "وكان عليّ أن أنقل المتماهي مع الأصل في الأوراق، وكشْط المختلف من كتاب السجلاّت، حتى لا يُلغي تضارب النصّين إمكانيّة خروج عَزَّة".(8) وهنا يعالج الكاتب قضيّة المنهج والمنطلقات النظريّة، بين: الحقيقة الغائبة- من الماضي، والموروث المتلبّس بالأهواء والميولات والثغرات- وبين متطلّبات الحاضر، وضرورات المستقبل. وهذه الثلاثيّة هي التي كانت تشغله في هذا المعترك البحثيّ وراء ما يسمّيه نصّ عَزَّة، الذي سيكون سبيل الخلاص من التنازع والتضارب بين النصوص، المفضي إلى الانقسام والاقتتال.
ونتابع في الحلقة الثالثة عشرة سهلاً الجبليّ في قراءته في سجلاّت ابن عيدان، التي يقف فيها على أسرار ما كان يحدث من تنازعٍ بين القُرى، ينتهي إلى سفك الدماء والإفساد في الأرض.



aalfaify@yahoo.com
http://alfaify.cjb.net
ــــــــــــــــــــــــــ

(1) قارن: الغيمة الرصاصيّة، 16- 17.
(2) انظر: م.ن.، 37.
(3) انظر: م.ن.، 227.
(4) قارن: م.ن.، 227؛ 230- 231.
(5) قارن: م.ن.، 226؛ 229- 231.
(6) م.ن.، 137.
(7) انظر: م.ن.، 141.
(8) م.ن.




ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ملحق "الأربعاء"، صحيفة "المدينة "- السعوديّة، الأربعاء 24 جمادى الآخرة 1430هـ= 17 يونيو 2009م، ص8.




شكراً لزيارتك هذه الصفحة!

جميع الحقوق محفوظة ©