لعلّ ممّا يضاعف عبء "الغيمة الرصاصيّة" على متابعة المتلقّي أن الكاتب قد شعّب الموضوع، على نحو يجمع بين التشتيت والتكرار. فها هو ذا في فصل قصير، بعنوان: "عتمة المصابيح، 3- الراوي"، يعود إلى الراوي ليحكي على لسانه ما واجهه من صعوبات في قراءة المخطوط الذي أعطاه إيّاه جاسم، وكيف أنه، في ظلّ انقطاع (جاسم) عن المجيء إليه ومعرفة ما أسفرتْ عنه ترجمة أجزاء النصّ في الرياض، ينتقل إلى الرجل المُسِنّ الذي كان قَصَدَه من قبل ليُرشِدَه إلى ضرورة استفتاء الشيخة زعفرانة. فيذهب بحثًا عنها إلى (الخَفْجي)، إلاّ أنه لا يضفر بها، فقد غادرت المدينة على "حمارتها الزرقاء!". ثم قَصَدَ (الظهران) بعد معلومة أسعفه بها "البنك" عن سهل الجبليّ، فوجد بيته قد بيع، ومكتبته قد حملتها زوجته إلى حيث منزلها الجديد، ولم يبق منها إلاّ "كرتون" صغير مليء بالأوراق وبعض الكتب، لم يجد فيه ما يفيد. سوى أنه قد عثر على دفترٍ صغير، وَجَد فيه نثارًا من مسوّدات زوجة سهل، وأطرافًا من مذكّرات عَزَّة. لينتقل من ثمّة إلى قِسم جديد، بعنوان: "عتمة المصابيح، 4- من أوراق عَزَّة".
إنه شتات في البناء لم يَبْدُ له ما يسوّغه سرديًّا، بل لقد أفسد سرديّة النصّ، وأبعد القارئ عن خاصيّتي التشويق والمفاجأة في متابعة نصٍّ يُفتَرَض أنه سرديّ. علاوة على أنها قد اختلطت فيه عناصر السَّرد بالشِّعر، بالتحقيق، بالبحث، بالجَدَل الفكريّ والسياسيّ، إلى آخر تلك الحمولات التي رصدها الكاتب في طوايا نصّه. ولقد جاءت بنية النصّ بعامّة بمنزلة تحدٍّ من الكاتب للقارئ، وبقَدْرٍ من الفوقيّة السلطويّة. بمعنى أنها لم تأت ذات نظامٍ فنّيّ تواصليّ، يترك بينها وبين قارئٍ ما- وإنْ نخبويًّا- جسرًا للتلاقي، بل هي تُمعن في لعبة الانبهام، وتنحية القارئ، حتى ليصل الأمر أحيانًا إلى ما يُشبه اللَّعِب، بالمعنى الحقيقيّ للكلمة لا المعنى الفنّيّ أو المجازيّ. ولعلّه كان بمقدور الكاتب- بعيدًا عن سُلطويّته التي اختارها، والتي تضاهي سُلطة ابن عيدان في وادي الينابيع!- أن يصوغ نصّه بكلّ ما أراد أن يمحضه من شِعريّة ورمزيّة وأسطوريّة وخياليّة، وفي بنية تجنّبه شتاته العدميّ ذاك. وقد كان من تقنيات الكاتب- إلى جانب الشاعريّة الأسلوبيّة والضبابيّة الحكائيّة- تقطيع أوصال النصّ وتفريقها وبعثرتها، تحت عناوين شتّى، وبطريقة هي أقرب إلى التحرير الصحفيّ في تقسيم الموضوعات إلى حلقات مرقّمة، متفاوتة المساحة، لا في فصول متكاملة البناء. نعم، قد ينظر إلى تلك الهيكليّة المفكّكة على أنها المعادل النّصّيّ لموضوع "الغيمة الرصاصيّة"، أي أنها تشكيل نصّيّ تعبيريّ عن مضمون النصّ نفسه. وهذا تعليل وجيه فنّيًّا، غير أنه لا يبدو مقنعًا تمامًا؛ من حيث إن هذه الفسيفساء التركيبيّة كثيرًا ما جاءت واضحة الافتعال، لا ملتحمة بواقعيّة النصّ السحريّة المتخيّلة. بل إن تعبير "الفسيفسائيّة" غير منطبق هاهنا؛ من حيث إن ما نشهده في هذا النصّ هو فوضى عارمة في البناء، لا فسيفسائيّة آخذ بعضها ببعض في تشكيلٍ متكامل. والأكثر وطأةً على قارئٍ أن يبدو جهدُ الكاتب الذهنيّ الواعي منصبًّا على تمزيق عُرَى نصّه بين يديه.
وفي القِسم المتعلّق بأوراق عَزَّة، تحت عنوان: "عتمة المصابيح، 4- من أوراق عَزَّة"، يسوق الكاتب على لسان عَزَّة مشاعرها حيال حمدان، ورأيها في زوجة سهل الجبليّ، وموقفها من مسعود الهمداني، إلى غير ذلك من الأمور التي تمثّل مواقفها من الأحداث التي مرّت في الفصول السابقة. ونحن نسمّيها فصولاً مجازًا وإنْ لم يتّخذ الكاتب لها هذا المصطلح، ولا هو ينطبق عليها.
وينقسم هذا القسم إلى 18 مقطعًا. بعضها لا يعدو سطرًا أو سطرين، يضربهما الكاتب مضرب الإشارة أو المَثَل. مبتدئًا بقوله: "(.)، والنقطة لا شيء لكنها فاصلة بين عالمٍ تحمله جملة وآخر."(1)
ولعلّ هذا القِسم يمثّل أقصى ما في النصّ عمومًا من الترميز، والاعتماد على اللغة الإشاريّة. ولا غرو، فهو على لسان عَزَّة. وتبدو تلك المقاطع الإشاريّة القصيرة المشار إليها في شكل مفاتيح، وربما صحّ القول إنها كعناوين لما بعدها.
فالمقطع الأوّل، المشار إليه آنفًا، يعبّر عن موقع عَزَّة، منتقلة من وادي الينابيع إلى غربتها في كَنَف زوجة سهل: بين تَحَقُّقها النصّيّ وغَيبتها. وتلك هي النقطة الفاصلة بين عالمٍ تحمله جملةٌ وآخر. وذلك هو ما تضمّن بثّه المقطع الثاني(2)، الذي جاء الأوّل إرهاصًا به.
ثم يأتي المقطع الثالث، وينصّ على أن: "من ليس معك ليس بالضرورة أن يكون معك، ومن يقف ضدّك ليس بالضرورة ألاّ يكون كذلك"(3)، مفتاحًا دلاليًّا لما يتلوه من وصف عَزَّة العلاقةَ النصّيّة بينها وبين مسعود، التي فَرَضَها الكاتب سهل الجبليّ. وهي علاقة ترفضها عَزَّة، وإن كانت ستحنّ بعد حين إلى مسعود، على الرُّغم ممّا بينهما من تناقض، هو تناقض تكامليّ، كما قالت. ذلك أن شرط الحُرّيّة هو ارتباطها بالوجود في علاقة، لا تكتمل بلا وجود الآخر. وهذه العلاقة الإشكاليّة التي يصوّرها الكاتب بين عَزَّة ومسعود تمثّل إشكاليّة العلاقة بين الحاكم والمحكوم/ بين المستبدّ والمستبدّ به/ بين الذكورة- في وجودها التقليديّ- والأنوثة، المتطلّعة إلى الحُرّيّة. فمسعود هو الذي كان منتظَرًا له أن يقترن بعَزَّة زوجةً، كما جاء على لسان ابن عيدان، حين قال- مخاطبًا سهلاً: "سوف تكتمل أفراحنا حين عَزَّة تخرج من كتابك المخبّأ في خزانة الكُتب، لنزفّها زوجة رابعة لمسعود الهمداني؛ لتسعد به ولنأمن ألاّ يحيلها مكر كتابتك إلى مخلوق نخشى منه على حياتنا ومستقبل وادينا".(4) ذلك هو فرض القبيلة على المرأة رجلاً لا تُحبّه، كما هو فرضها على الأرض حاكمًا لا تبغيه. ولكنّ عَزَّة- كما يذكر الكاتب- لا تُحِبّ سوى حمدان، الذي اكتشفتْ أنه ليس سوى ذلك الكهل (زوج الأميركيّة)، الذي قابلتْه مع زوجة سهل ذات مرّة في مطعم.
وقبل أن تسرد عَزَّة تلك المفاجأة التي فوجئتْ بها من اكتشاف أن زوج الأميركيّة ذا الشعر الأبيض ما هو إلاّ حمدان، تُقحم في المقطع السادس والسابع نَصّين، جعلهما الكاتب بلونٍ غامق لتمييزهما. يطرح أوّلهما سؤالاً مقتضبًا في أسئلة، عن: "من يخون النصّ، الكاتب أم الواقع؟... من يخون النصّ، ومن يفي له؟: الذي حرّض عليه؟، كاتبه؟، بطل حكايته؟، أم هو مؤوّله؟".(5) ويجب التذكّر هنا بأن "النصّ" في هذا السياق ما هو إلاّ رمزٌ لقضايا أكبر، تتعلّق بالوطن والمجتمع والتاريخ. وهذه هي حلبة الصراع الرمزيّة في "الغيمة الرصاصيّة". أمّا النصّ الآخر في المقطع السابع، فيجيء في شكل نصٍّ شِعريّ نثريّ، حول أسئلة المدينة الفاضلة. وفيه يستعيد الكاتب حُلم أفلاطون بمدينة طهوريّة، لا يُقبل فيها حتى عُبيد الراعي، بما أنه شاعر، ولا أُمّ عَزَّة، فقد سُمعت تُنشِد شِعرًا تتعشّق فيه عُبيدًا. وما أفلاطون هنا إلاّ ذلك الحكيم الذي حكَى السارد طَرْدَهُ عُبيدًا وأُمَّ عَزَّة من المدينة. وقد أغرَى بعُبيد- وهو يجادله حول العدل والقهر- القطيعَ، فانقضّ عليه نطحًا ودفعًا. وما القطيع هنا إلاّ الأتباع والرعايا من الناس، الذين تجيّشهم السُّلطات عادةً في حرب معارضيها. وهكذا طُرد الشِّعر، وسُرّحتْ الأسئلة من المدينة الفاضلة إلى البيداء، وصُودر الإبداع، بدعوَى الإفساد تارةً، وانعدام النفع تارةً، وثالثةً بسَلَفِيَّة تَرَى الإبداع بِدْعَة من عمل الشيطان، لا تحمل إلاّ ضلالة الكلام والأحوال والنفوس. وعندئذٍ كان لا مفرّ من أن يغطّ أرباب المشاريع في صمتهم، وأن تعود الحياة إلى سباتها.(6) ولعلّ الكاتب يُلمِع إلى أن هذه الحال هي من معوّقات عَزَّة وأُمّ عَزَّة، حينما تُقصَى الكلمة، ويهمّش الإبداع، بدعوَى الفضيلة والتقاليد، التي كثيرًا ما توظّف لمآرب سياسيّة أبعد. إذ هل تتحقّق الفضيلة بالوهم الملائكيّ الذي عبّر عنه حكيم المدينة الفاضلة؟ وهل واقعيٌّ ما يزعمه من نقاءٍ اجتماعيّ، وطوباويّة خُلُقيّة؟ أم أن الإنسان- بما هو إنسان- خطّاء، توّاب، منذ أن خُلِق، قَدَره أن يكون إنسانًا- بكل ما تعنيه الإنسانيّة من هشاشة وزَلَل- لا ملاكًا، بحالٍ من الأحوال.
لقد انزلقت عَزَّة في علاقة مع ذلك الرجل ذي الشعر الأبيض، (زوج الأميركيّة)، الذي اكتشفت أنه محبوبها العتيق حمدان، وقد "تأمرك". فسبحتْ معه في بحر الحُبّ والحنين. وذاب الحجاب، حين قفزتْ عَزَّة إلى ماء الحُبّ مع حمدان، "فأصبحتْ في الحِبْر جملةً مكسورةً، تُسمع وتُرى، لكنها لا تستطيع الحِراك."(7)
ويظلّ حمدان يسرد في أثناء التقائه عَزَّةَ مخاض الذّكريات حول نشوء شركة النّفط (أرامكو)، التي تمثّل التقاء الغرب بالشرق لأوّل مرّة في جزيرة العرب. ويقصّ ما صاحب ذلك من معاناة ومفاضلات بين الغربيّ والوطنيّ، تدفع إلى احتجاجات موظّفي الشركة من المواطنين على تمييز الآخر عليهم، وهو ما ينتهي إلى تحسين الأوضاع وإحلال المواطنين القادرين محلّ الأجانب.
وفي الحلقة الآتية نتتبع خطى حمدان في حكايته بوادي الينابيع، بين عتمات الماضي ومصابيح الآتي.
aalfaify@yahoo.com
http://alfaify.cjb.net
ــــــــــــــــــــــــــ
(1) الغيمة الرصاصيّة، 166.
(2) انظر: م.ن.، 166- 167.
(3) م.ن.، 167.
(4) انظر: م.ن.، 30.
(5) م.ن.، 170.
(6) انظر: م.ن.، 172.
(7) م.ن.، 174.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ملحق "الأربعاء"، صحيفة "المدينة "- السعوديّة، الأربعاء 8 رجب 1430هـ= 1 يوليو 2009م، ص8.
http://al-madina.com/node/154950/arbeaa
|