الغيمة الكتابيّة-15 :3.دراسات: إضبارة د.عبدالله الفـَيفي http://www.alfaify.cjb.net

الغيمة الكتابيّة
الجذور .. ونهر الإبداع !
( قراءة في تماهي الشعريّ بالسرديّ في الرواية السعوديّة )
بقلم: الدكتور عبدالله بن أحمد الفَيفي

[ الحلقة الخامسة عشرة ]

في الحلقة الرابعة عشرة من هذه القراءة في "الغيمة الرصاصيّة" للشاعر علي الدُّميني أشرنا إلى أن عَزَّة كانت قد انزلقت في علاقة مع ذلك الرجل ذي الشعر الأبيض، (زوج الأميركيّة)، الذي اكتشفتْ أنه محبوبها العتيق حمدان، وقد "تأمرك". فسبحتْ معه في بحر الحُبّ والحنين. وذاب الحجاب، حين قفزتْ عَزَّة إلى ماء الحُبّ مع حمدان، "فأصبحتْ في الحِبْر جملةً مكسورةً، تُسمع وتُرى، لكنها لا تستطيع الحِراك."(1) ويظلّ حمدان يسرد في أثناء التقائه عَزَّةَ مخاض الذّكريات حول نشوء شركة النّفط (أرامكو)، التي تمثّل التقاء الغرب بالشرق لأوّل مرّة في جزيرة العرب. ويقصّ ما صاحب ذلك من معاناة ومفاضلات بين الغربيّ والوطنيّ، كانت تدفع إلى احتجاجات موظّفي الشركة من المواطنين على تمييز الآخر عليهم، وهو ما ينتهي إلى تحسين الأوضاع وإحلال المواطنين القادرين محلّ الأجانب. ولقد كان مخاضًا من المعاناة، تمخّض عن جنينٍ من تحقيق المصالح المشتركة بين الطرَفَين. وهو ما صاقبه على المستوى الفرديّ ما تحدّثتْ عنه عَزَّة من تمخّض علاقتها بحمدان عن كُرّاسٍ صغير آخر أخذ ينمو في داخل قِصّتها(2)، في إيماءٍ إلى حَمْلها من حمدان. وهو ما انتهى بحمدان إلى مفارقة زوجته الأميركيّة، وانتهاء ذلك الحُلم بالزواج بين الشرق (حمدان) والغرب (زوجته الأميركيّة) إلى عودة المياه إلى سواقيها بعودة حمدان إلى عَزَّة. ليُدرك حمدان أنه قد كُتب عليه، بحسب النصّ الذي كتبه المجنون سهل الجبليّ، أن يرتبط بعَزَّة؛ فعلاقة حمدان بعَزَّة لا تُشْبِه إلاّ تاريخهما، كما قالت زوجة حمدان، فكان لا مناص من حسم الأمر، إمّا هي أو عَزَّة، فكانت عَزَّة.
والخُلاصة التي يستخلصها الكاتب في المقطع السادس عشر من هذا القِسم من النصّ- المتعلّق بأوراق عَزَّة، تحت عنوان: "عتمة المصابيح، 4- من أوراق عَزَّة"- أن "الأطفال يتحرّكون في كلّ مكان، حتى في حِبْر الكتابة."(3) إنها حركة العودة إلى الجذور، كذلك الجنين الذي أعاد حمدان إلى عَزَّة، وأبعد الأخرى إلى فلوريدا.
وفي آخر هذا القِسم يتحدّث الكاتب عن آراء النّقّاد حينما نَشَر الراوي هذه "الرواية"، كما يسمّيها. فلقد اقترح بعضهم حذف فصل "الأصدقاء"، و"تدوينات الزوجة". وهو أمرٌ وافقهم الكاتب عليه ونفّذه. وهو مُحقّ في ذلك؛ فقد سبقت الإشارة إلى ما في فصل "الأصدقاء" ممّا يبدو ترهّلاً في النصّ! ورأى ناقد آخر أن (نورة) مقحَمة، وأن دورها كدور عَزَّة. فيما رأى ثالثٌ أن يستبعد الكاتب الفصل الخاصّ بأوراق عَزَّة. في الوقت الذي شكا آخرون من غموض النّصّ، وانغماس بعض تفاصيله في الوصف العاطفيّ والحِسّيّ. وعلى الرغم من حنق الراوي على النّقّاد، وهجائه إيّاهم بقصيدة، كما قال، فإنه قد قرّر الاستجابة لمقترحاتهم، وعدم نشر شيء إلاّ ما لم يستبعدوه. وحينما "جمع ما تبقّى، لم يكن ذلك أكثر من غلاف الرواية فقط".(4) فنَشَرَها، وصفّق النّقّاد، وسمّاها أحدهم: "رواية الصمت الفاتنة". ما دَفَعَه إلى مغامرة روائيّة أخرى، غير أنه لم يجد لها ناشرًا، فخبّأها، وأعلن اعتزال الكتابة نهائيًّا.
كأن الكاتب يقول هنا: إن النّقّاد كثيرًا ما لا يحتفون من النصوص إلاّ بما لا يقول شيئًا، وإن الكاتب لو استجاب لهم لم يكتب حرفًا واحدًا، وإن الثقافة في عمومها- مثلما أن المدينة الفاضلة في خصوصها- ضِدّ الإبداع والمختلِف عمّا أُلِف. ويأتي هذا في ما يشبه اعتذارًا مسبقًا عمّا قد يوجّه إلى نصّه السرديّ من سهام نقد، وإن لم يكن الاعتذار في ذاته هو المقصود، بل المقصود هو التعبير عن أن رضى الناس غاية لا تُدرَك، وأن الإشكاليّة النصوصيّة ما هي إلاّ صورة عن الإشكاليّة الحياتيّة بعامّة. فهل مَثَلُ ما يتطلّبه النّقّاد في رواية الراوي إلاّ كمَثَل ما تطلّبه الناس من حمدان؟! فما كان ليرضيهم اقترانه بامرأة أميركيّة، وما كان ليرضيهم اجتماع نَصّين في نَصّ واحد، بعد أن حَمَلتْ عَزَّة منه. وهو ما عبّرتْ عنه زوجة سهل الجبليّ، إذ قالت: "ألا يكفيني نَصّ واحد فكيف بنَصّين في مستودعٍ أحمله على ظَهري وأدفع ثَمن كتابته من عُمري؛ سوّاها حمدان... سوّاها حمدان.. ماذا ستفعلين بنَصّكِ وماذا سأفعل بنفسي؟" إنها إرادة الحياة تمضي رغم أنف النّقّاد والمجتمع في كلّ الأحوال.
وينتقل الكاتب إلى القِسم ما قبل الأخير من "عتمة المصابيح"، بعنوان "عتمة المصابيح، 5- سهل الجبليّ". وفيه يروي سهلٌ أحداث وادي الينابيع بين صُلحٍ وعِراك. فالصُّلح قد استتبّ بعد شفاء ابن عيدان، وإعادة المياه إلى مسالكها التي قُطعتْ عن أهالي الرمليّة- بسبب امتناعهم عن دفع الضريبة بنِسبةٍ مساوية لما يدفعه العبادل، وذلك لوجود ثأرٍ لأحد أبنائهم على العبادل.(5) وقد تمّ هذا الصُّلْح بعد وساطة جابر لدى أهل الرمليّة، وحضور عريفتهم أبي مريم لتهنئة ابن عيدان بإبلاله من مرضه. ومِن ثَمّة طلب ابن عيدان من عريفة العبادل دفع الدّية لأهالي الرمليّة، فتعهّد عريفة العبادل بنِصفها مع طلب النِّصف الآخر قرضًا من غَنَم سهل الجبليّ. وهو ما وافق عليه ابن عيدان، وقَبِل به عريفة الرمليّة على مضض، وأغضب سهلاً الجبليّ.
ثم يهطل المطر على الوادي، ويقع الاضطراب نتيجة فيضان النهر، وخراب "دِشّ" ابن عيدان الذي يستخدمه لمراقبة الأمن، ويتّجه كُلٌّ إلى وادٍ نفسيّ يبحث فيه عن مصلحته. لقد أصبح كُلٌّ لا يفكّر إلاّ في نفسه، باستثناء نورة وعُبيد، اللذين يصوّر الكاتب ما بينهما من دفءٍ وأُلْفة، في قوله: "كان دفء لاذع يتسرّب من جسديهما وأمامهما استقرّت جرّة نورة وخرزتها الزرقاء تضيء بشحوب آسر وشفيف، وحمامة تنسج عشّها فوقهما، وتنقط بهديلها على عتمة المكان، ولمع المطر على ضوء جسدين في لحظة الطوفان يلتقطان غصن زيتون على اليابسة ويتدثّرون بحرارة اللقاء الأخير." ماضيًا الكاتب في هذا التهويم الشِّعريّ والرمزيّ، المعبّر عن رمزيّة الحُبّ الذي يرتفع على كلّ المصالح الأنانيّة، سبيلاً لخلاص الروح والأرض.
في هذا المضطرب كان ابن عيدان يرتجف خوفًا لضياع الأمن بسبب انكسار مرايا "الدِّشّ". هذا على الرغم من أنه لا يرى السدّ حلاًّ لمشكلة الفيضانات في الوادي، فالحلّ لديه حلٌّ أمنيٌّ، كما يتبيّن من مواقفه، في تمثيلٍ لدور الحاكم المستبدّ الذي يجد في الاضطراب هدفه الاستراتيجيّ للسيطرة على الناس، وفرض الرأي الواحد عليهم، واتخاذه هو مرجعيّة أولى وأخيرة، لا ثاني لها.
وإذ تأتي استغاثة العبادل أن السيل قد جرف سيّارة حمدان- وفيها زوجته، لولا أنْ أُنقِذت السيارة والزوجة إلى داخل القرية- يأخذ ابن عيدان يتحدّث عن المحرّمات والحدود والضرورات، وأن مركبة حمدان يجب أن لا تتجاوز مكانها، وأن عليه أن يعيد زوجته الأجنبيّة إلى سيارته من الغد، فالضرورات تبيح المحظورات، لكنها لا يمكن أن تبيحها بإطلاق. وعلى الرّغم من جدل جابر معه، ودعوته إلى الرحمة، فقد تمسّك برأيه، وأعرب عن أن للبلاد حدودًا وقوانين، هي ثوابت، تخطّيها سيجرّ إلى اختلال الموازين. وفي هذا المشهد محاكمةٌ من قِبَل الكاتب للفكر الذي يستند إليه الحُكم التقليديّ، عندما لا يَقبل مناقشة ما يسمّيه ثوابته، بل يسعى إلى تقنينه وتقديسه، وإنْ تناقض مع مسلّمات العقل والعدل؛ لأنه من غير ذلك ستختلّ بالفعل الموازين التي أقام عليها دولته وسلطانه.
وما أن تستقرّ أوضاع القرية بعد ذلك الطوفان الذي ألمّ بها، وما أن يُرمّم الناس منازلهم، ويُعيد ابن عيدان مرايا "دِشّه" إلى سابق عهدها، وتُعيد نورة وعُبيد جزءًا من عرائش مقهاهما، ويخلد سهل الجبليّ إلى أجوائه التأمّليّة الشاعريّة، وهو يسمع أغنية محمّد عبده:

يقول من عَدَّى على راس عالي
رِجْمٍ طويلٍ يدهلهْ كلّ قِرناسْ
في راس مرجومٍ عسيرِ المنالِ
تلعبْ به الأرياح معْ كلّ نسناسْ(6)

في رمزيّة إلى الآمال الطوال التي تكتنفها عقبات كأداء؛ ما أن تنتهي الأمور إلى ذلك كلّه حتى ينشب اضطرابٌ من نوعٍ آخر، هو اضطرابٌ فكريّ نظريّ في إدارة شؤون الوادي بين (حمدان) و(جابر).
وذلك ما سنعرضه في الحلقة المقبلة، بحول الله.

aalfaify@yahoo.com
http://alfaify.cjb.net
ــــــــــــــــــــــــــ

(1) الغيمة الكتابيّة، 174.
(2) انظر: م.ن.، 179.
(3) م.ن.، 180.
(4) م.ن.، 182.
(5) انظر: م.ن.، 147- 148.
(6) البيتان لمحمّد الأحمد السديري. والرُّجم، في العربيّة: جمع رُجْمة، ومن معانيها: الحجارة المجتمعة؛ وقيل: هي كالرِّضام، وهي صخورٌ عظام أَمثال الإبل، وهي الرِّجامُ أيضًا. يدهله: يهابه، أو يحار فيه، فالدّهْل، الخوف؛ جاء في (الفراهيدي، العين، (دهل)): "(لا دَهْلَ) بالنَّبطَية: لا تَخَفْ، قال بشّار يَهْجو الطِّرِمَّاحَ:

فقلتُ له: "لا دَهْلَ مِ الكَمْلِ" بعدما
مَلاَ نَيْفَقَ التُّبّانِ منه بعاذِرِ."

وفيه (عذر): "لا دهلَ مِلْقَمْلِ"، وقال في شرحه: "يقول: خاف المهجُوُّ من الجمل، فكلَّمَهُ الهاجي بكلام الأنباط. قوله: لا دهل، أي لا تَخَفْ بالنبطيّة، والقمل: الجمل." وفي (الأزهري، تهذيب اللغة، (دهل)): "لا دَهْلَ من قَمْل". قال: "وليس لا (دَهْل) ولا (قَمل) من كلام العرب، إنما هما من كلام النَّبَط، يقولون للجَمَل: قَمل. وإنما تهكَّم بالطّرمّاح وجعله نبطيَّ النَّسَب، ونفاه عن طيِّء... وروى أبو العباس عن ابن الأعرابي قال: الدَّاهِل: المتحيِّر. قلتُ: وأصله الدَّالِه فقَلَبَه." وقد يكون "الدّاهل" لغة من "الذّاهل"، بالمعجمة. والقرناس: أي الصقر أو البازي؛ فقَرْنَس الصقرُ: سقط ريشه. وقيل: قَرْنَس الصقرُ، إذا سقط ريشه، وخِيطَتْ عَيْناه أَوّلَ ما يُصاد. والقُرْناس والقِرْناس: شبيه الأَنف يتقَدَّم في الجبل؛ قال شاعر، يصف الوعل:

تاللَّه يَبْقى على الأَيام ذو حِـيَدٍ
بمُشْـمَخِرٍّ بـه الظَّـيَّانُ والآسُ
في رأْس شاهقَة أُنْبوبُها خَصِرٌ
دون السماء له في الجَوِّ قرناسُ

وليس هذا معنى "قرناس" في البيت العامّي، بل معناه ما ذُكر أوّلاً، وإنما ذُكر البيتان هنا لتشابه الصورتين بين الشاعرين العامّي والفصيح إجمالاً. والمرجوم: الجبل المركوم بالرّجام. والرَّجائم: الجبال التي ترمي بالحجارة، واحدتها رَجِيمةٌ؛ قال أَبو طالب:

غِفارِية حَلَّتْ بِبَوْلانَ حَلَّةً
فَيَنْبُعَ، أَو حَلَّتْ بَهَضْبِ الرَّجائمِ

ونسناس: نسيمُ هواءٍ بارد؛ فالنَّسِيسُ والنَّسِيسَة: بقية النَّفْسِ ثم استُعمل في سِواه. وريح نَسْناسَةٌ وسَنْسَانَةٌ بارِدَةٌ، وقد نَسْنَسَتْ وسَنْسَنَتْ إذا هبّت هبوبًا باردًا. (انظر: ابن منظور، لسان العرب، (رجم)، (قرنس)، (نسس)).


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ملحق "الأربعاء"، صحيفة "المدينة "- السعوديّة، الأربعاء 15 رجب 1430هـ= 8 يوليو 2009م، ص8.




شكراً لزيارتك هذه الصفحة!

جميع الحقوق محفوظة ©