أورد (الصفدي، صلاح الدِّين بن أيبك، -764هـ= 1363م) في كتابه "الوافي بالوفيّات"- خلال إدراجه (ترجمة الأصمعي)، وفي سياق دفاعه عن الأصمعيّ ضدّ ما كان يُتّهم به من التزيّد على العرب في رواياته- قوله:
"أمّا ما يَحكي العوامّ، وسقّاط الناس من نوادر الأعراب، ويقولون: هذا ما افتعله الأصمعيّ، ويحكون أن رجلاً رأى ابن أخيه عبدالرحمن، فقال له: ما يفعل عمّك؟ فقال: قاعد في الشمس يَكْذِب على الأعراب! فهذا باطلٌ، نعوذ بالله منه، ومِن معرّة جهل قائليه! وكيف يكون ذلك، وهو لا يُفتي إلاّ فيما أجمع علماء اللغة عليه، ويقف عمّا ينفردون عنه، ولا يُجيز إلاّ أفصح اللغات."
وهذا نموذج خطابٍ يتلامع من أسلوبه شِبْهُ تنزيهٍ للعالِم عن النقد، بل تقديس له عن أن يقال فيه، من قريبٍ أو بعيد، قولٌ، أو يُرَدّ عليه مردود: "فهذا باطلٌ، نعوذ بالله منه! ومِن معرّة جهل قائليه، وكيف يكون ذلك؟!.. وما يقول بذلك إلاّ العوامّ وسقّاط الناس!" ومثل هذ الدِّفاع المطلق عن العلماء- غير الموضوعيّ في إثبات بطلان ما قيل فيهم أو إثبات خلافه، البالغ حدَّ مَلأَكَتِهم، وترفيعهم عن الخطأ، بل عن البشريّة- أمرٌ مألوفٌ لدى القدماء. كأنما قد وَقَر في بعض أذهانهم أن قول الرسول، عليه الصلاة والسلام: "العلماء وَرَثَة الأنبياء"، هو شهادةُ عِصمةٍ للعلماء. وما ذلك كذلك، بل "كلٌّ يُؤخذ من كلامه ويُردّ، إلاّ الأنبياء"، كما فَقِه ذلك الإمام مالك.
وعندما يبلغ الأمر مبلغه من تمجيد العلماء، يسقط العِلم. لأن الشَّخْصَنَة الثقافيّة حين تربط العِلم بالعالِم تجعل شَرَف العِلم شَرَفًا للعالِم، ثم تغالي في هذا حتى تجعل شَرَف العالِم فوق شَرَف العِلم، وليس هذا من الحقّ بإطلاق. أمّا حينما ننقد العلماء، فإننا نقدّم الموضوع على الشخص، والحقّ على حامل المعرفة، كائنًا من كان، على نهج عليٍّ، كرم الله وجهه، الذي لم يَنهجه أتباعه- كما أورد (الجاحظ) عنه في "البيان والتبيين"- قال: "نهض الحارث بن حَوطٍ اللَّيثيّ إلى عليّ بن أبي طالب، وهو على المنبر، فقال: أتظُنّ أنّا نظُنُّ أنّ طلحة والزُّبير كانا على ضَلال؟ قال: يا حَارِ، إنه ملبوسٌ عليكَ، إنّ الحقَّ لا يُعرف بالرّجال، فاعرف الحقَّ تَعرِفْ أهله". وهذا ما يعطي للعِلم حيويّته، وصحّته، وأسباب تطوّره. ولا يضير العالِم أن يُنتقد، أو أن يُؤخذ عليه السهو والخطأ والنسيان، أو أن يُقال إن أدواته لم تخوّله معرفةَ ما خوّلتْ معرفتَه غيرَه، من معاصريه أو من لاحقيه.
نعم.. وممّا له بتمجيد الأسلاف صِلة، أنْ قد رَسَخَ في الأذهان أن العرب الذين جاءنا إبداعهم الأدبيّ، وحفظنا أشعارهم وأمثالهم وحِكَمهم وخطابتهم وأطرافًا من فعاليات أسواقهم الاقتصاديّة الدينيّة الأدبيّة، كانوا محض أعرابٍ رعاع، يعيشون في مضارب البادية حينًا ثم يرتحلون خلف أباعرهم وقطعان أغنامهم حينًا، كتلك الصورة النمطيّة الأزليّة عن عرب الجزيرة وواقع حياتهم. وهي صورة ورثناها عن رواة الشِّعر والأخبار من علمائنا القدامى. وماذا بوسعك أن تقول لهؤلاء الذين يُنكرون على العرب من حضارتهم غير تلك الصورة الراسخة لأنهم يجهلونها أو لأنهم يتجاهلون؟ ومن ثَمَّ لا يرون ذلك التراث الحضاريّ بوصفه النسغ الذي يسري في دوحة الأدب العربيّ، بنِسَب متفاوتة- ما بقي أدبًا عربيًّا- غير منبتٍّ من جذور. ماذا بوسعك أن تقول لهؤلاء حين يطرأ الحديث- على سبيل المثال- عن نقشٍ عُثر عليه في جُبَة بمنطقة حائل، لم يلتفتْ إليه أحدٌ قط، نَشَرَتْ عنه (صحيفة "الوطن" السعوديّة، الجمعة 18 صفر 1430هـ= 13 فبراير 2009م العدد 3059)، بقلم بدر العمّار، ما ملخّصه: "أثار نقش على صخرة موجودة بجبل أم سنمان بجُبَة، (103 كيلومترات شمال غرب حائل)، ويعود لأكثر من سبعة آلاف سنة قبل الميلاد، الجدلَ بين علماء أمريكيّين وآخرين أوروبيّين حول قانون التسارع والبكرة الذي اكتشفه العالِم الإنجليزي نيوتن. ففي حين رأى عددٌ من الأمريكيّين المهتمّين بالآثار، الذين زاروا مدينة جُبَة، أن الرسمة التي على صخرة حائل تُثبت أن قانون التسارع كان معروفًا ومستخدمًا قبل نيوتن، يُصرّ الأوربيّون على أن نيوتن هو مكتشف قانون التسارع والبكرة. وسيظلّ الخلاف قائمًا حول هذه الصخرة حتى تُدرس بشكلٍ علميٍّ ومفصّل، مع تأكيدهم على أن الصخرة لا تقدّر بثمن، ولكنّها لم تَجِد من يهتمّ بدارستها. ويعود اكتشاف الصخرة لرحّالة أميركيّ، زار جُبَة قبل أربعين عامًا، ومكث فيها شهرًا كاملاً يبحث عن رسم العَرَبة، حتى دَلَّهُ عليها أحد أهالي جُبَة، (مبارك الزيدان)، حسب ما ذكر كبار السِّن. وإذا كانت العَجَلَة من أهمّ اختراعات البشريّة، فأوّل تطوير للعجلة كما تذكر الموسوعة البريطانيّة تمّ في منطقة بلاد ما بين النهرين، التي تشمل العراق وسوريا وتركيا، ويعود هذا الدليل إلى عام 3500 قبل الميلاد. وإذا كان هذا أقدم تاريخٍ معروف ومعترف به للبَكَرة حسب الموسوعة البريطانيّة، فإن الباحثين قد أرجعوا تاريخ آثار جُبَة إلى 7000 سنة قبل الميلاد، وإلى (نمط جُبَة) المعروف عالميًّا، لتكون بذلك (عَرَبَة جُبَة) أقدم ممّا عُثر عليه في منطقة بلاد ما بين النهرين."
كلاّ، ستُنكر عليك العقول المبرمجة على ما ورثتْ عن آبائها الزعمَ بأنها كانت للعرب في بعض أجزاء الجزيرة، وفي حقبٍ من تاريخها، حضارات أرقى ممّا نتصوّر؛ لأنهم لا يتخيّلون عرب الجزيرة أصلاً إلا كأعرابها المتخلّفين في العصور الإسلاميّة الأخيرة! لذلك فإن البحث الجيولوجيّ المعرفيّ، الذي يحفر عميقًا في تاريخ الجزيرة، مقارنًا آثارها القوليّة بآثارها التاريخيّة والحضاريّة، سيُنظر إلى محصّلاته كتخريفات! وذلك مثلما يُمكن أن يَنظر غير الباحثين المختصّين إلى أقول جيولوجيٍّ كفاروق الباز (رئيس مركز أبحاث الفضاء ببوسطن بالولايات المتحدة الأميركيّة)، حينما يَطلع على الناس زاعمًا أن الرُّبْع الخالي كان بحرًا من المياه، وأن المياه الموجودة فيه من الممكن أن تقينا أزمات المياه! أو يذهب إلى القول إن "شِبه الجزيرة العربيّة محاطة بحزامٍ من خزّانات المياه الكبيرة المخزّنة في الجبال العالية المحيطة بها."(1) إنه كلام فوق التصوّر، بل أشبه بهذيان المجانين لدى عقليّةٍ تجهل حقائق الأرض وثرواتها والتكوينات الجيولوجيّة التاريخيّة وألغازها. وكتلك النظرة هي نظرةُ بعضنا إلى ماضي العرب الثقافيّ وتراثهم، كما هي نظرتهم- عبر ذلك المنظار القديم الصدئ، الذي لا يَنْفُذ إلى ما وراء القشرة الظاهريّة من النصوص، إنْ هو لامس تلك القشرة- إلى شِعرهم وعموم أدبهم. وإذا فَعَل الدارس من هؤلاء أو قارب الفعل، فإنه لا يقارن النصوص بسياقاتها التاريخيّة والحضاريّة الحقيقيّة، بل بسياقتها الحكائيّة المتخيّلة المرويّة مع تلك النصوص عبر رواة الأمصار المتنائين، زمانًا ومكانًا وتمثّلاً وعِلمًا، من عرب وعجم وتلاميذ. ويبدو أننا سنبقى- كما حدث في اكتشاف النفط في الجزيرة العربيّة- ننتظر ذلك الغربيّ ليأتي فيفجّر لنا الأرض ينبوعًا من مخبوءاتها ومخبوءاتنا، ممّا طمسته الرمال والعقول! بل سنظلّ في شكٍّ ممّا تُخرج الأرض من الآثار وبدائع الأفكار؛ لأن تغيير الأفكار النمطيّة أكأد بكثير من تغيير الماديّات والاقتصاديّات النفطيّة وتحديث حياة الناس الاستهلاكيّة. لأجل ذلك فإن الانفصام في التصوّر بين لغة الأدب ولغة الحياة العربيّة القديمة قد ظلّ قائمًا إلى الآن، على الرّغم ممّا تكشّف عن تاريخ العرب وتراث الجزيرة، سواء الموغل في قِدمه أو المتأخّر إلى ما قُبيل ظهور الإسلام.
وفي غياب تلك النوعيّة من البحوث، يبدو متعذِّرًا وضع تاريخٍ علميّ صحيح، أو مقارب، لتطوّر اللغة العربيّة. وفي ظلّ ذلك الغياب، ستحوم أغربة من الأسئلة على ما يمكن أن يُؤمَّل من دورٍ لاتّحاد المجامع اللغويّة العربيّة في سدّ بعض تلكم الثغرات المعرفيّة؟ ذلك الاتحاد الذي أُعلن مؤخّرًا أنه سيُقام مقرّه الجديد بتكاليف قرّر تحمّلها حاكم الشارقة الدكتور محمد بن سلطان القاسمي، بمدينة السادس من أكتوبر غرب القاهرة. تُرى، إذن، ما الذي يُمكن أن يتمخّض عنه مشروع الاتّحاد المُعلَن عنه، تحت عنوان "مشروع المعجم التاريخيّ للغة العربيّة"؟ أيأتي اجترارًا لما سَلَف، أم سيُسهم في إنقاذ ما يمكن إنقاذه من تاريخ تطوّر لغتنا، ليأتي معجمه- في الأقلّ- على غرار "معجم أكسفورد للغة الإنجليزيّة"، لوليام ليتل وآخرِين، أو "المعجم التاريخيّ للغة الفرنسيّة"، لألين ري وآخرِين، أو "المعجم الإتيمولوجي والتاريخيّ الجديد"، لألبر دوزا وآخرِين؟ ذلك ما نُؤمّله، كما نُؤمّل أن يستفيد المشروع العتيد من التجارب السابقة في إنتاج معجمٍ تاريخيّ عربيّ، كتجربة فيشر، وتجربة الجمعيّة المعجميّة العربيّة التونسيّة، وتجربة معهد الدراسات المصطلحيّة بفاس، التي أعلنت مؤخَّرًا- مع مؤسّسة البحوث والدراسات العلميّة (مبدع) بفاس- عن ندوةٍ حول "المعجم التاريخيّ للغة العربيّة: قضاياه النظريّة والمنهجيّة والتطبيقيّة"، ستُعقد في فاس، 8-10 أبريل 2010.
حقًّا، لقد بقي يتناسل ذلك الانفصام بين لغة الأدب ولغة الحياة التراثيّة ومفاتيحها- إضافةً إلى ما سبق من العِلل المناقشة في هذا المساق والذي قبله- عن غيابٍ لأيّ تاريخٍ دقيقٍ وشاملٍ لتطوّر اللغة العربيّة ودلالات الألفاظ فيها؛ تلك الدلالات المحمّلة بترسّبات ميثولوجيّة جمّة وملامح حضاريّة لا حصر لها، ومنذ فجر التاريخ السحيق للمنطقة.
* (عضو مجلس الشورى)
aalfaify@yahoo.com
http://alfaify.cjb.net
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) من حوار أجراه مع (فاروق الباز) فهد العجلان، (صحيفة "الجزيرة"، الجمعة 20 جمادى الأولى 1430هـ= 15 مايو 2009م، العدد 13378، ص25).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* صحيفة "الجزيرة"، المجلة الثقافية، الخميس 16 رجب 1430هـ= 9 يوليو 2009م، العدد290، ص11.
http://www.al-jazirah.com/culture/2009/09072009/fadaat28.htm
http://www.al-jazirah.com.sa/culture/pdf/09072009/t11.pdf
|