ما أن استقرّت أوضاع قرية وادي الينابيع بعد ذلك الطوفان الذي ألمّ بها- كما أشرنا في الحلقة الخامسة عشرة من هذه القراءة في "الغيمة الرصاصيّة" للشاعر علي الدُّميني- وما أن رَمَّم الناس منازلهم، وأعاد ابن عيدان مرايا "دِشِّه" إلى سابق عهدها، وأعادت نورة وعُبيد جزءًا من عرائش مقهاهما، وخَلَد سهل الجبليّ إلى أجوائه التأمّليّة الشاعريّة، حتى نَشِب اضطرابٌ من نوعٍ آخر، هو اضطرابٌ فكريّ نظريّ في إدارة شؤون الوادي بين (حمدان) و(جابر). فلقد كان حمدان يرى أن الوادي لم يتغيّر عبر تاريخه الطويل، فيما كان جابر لا يرى التغيير بل التطوير، ما جعل حمدانًا يتّهمه بأنه قد وَقَع فريسة تدجين ابن عيدان منذ عيّنه عريفة على الشماليّة. في هذا الجدل يكشف الكاتب عن رؤيته هو إلى المجتمع والمدينة والإدارة: بين رؤيتين، يمثّل إحداهما جابر، الذي جاء يحتجّ بأن الوادي سيقيم جمعيّاته التعاونيّة التي تمهّد لمجتمع مدنيّ، لتصبح في ذلك فكرة ذرائعيّة- كما قال- نحو تطوير الآليّات الإداريّة والرقابيّة مستقبلاً. ويمثّل الرؤية الأخرى حمدان، الذي لم ير هذا التدرّج الذي رآه جابر، بل لم ير الفكرة من أساسها إلاّ رجعيّة وتكريسًا لبطريركيّة أبويّة لرجلٍ واحد، هو ابن عيدان. وبذا يظهر جابر وحمدان على طرَفي نقيض، من حيث إن الأوّل يتبنّى فِكرًا اشتراكيًّا والآخَر يتبنّى فِكرًا رأسماليًّا، وقد كان خلافهما بدايةً لانقسام الوادي كلّه إلى حزبين. في حين لم يكن لسهل الجبليّ بينهما إلاّ الحياد وترك هذه الأصوات في جدليّاتها لتحتدم، وإنْ كان يرى أنها تُنشِب بين الطرفين معركة قبل أوانها.(1) ومن خلال هذا يحاول الكاتب طرح رؤاه على ألسنة شخوصه، وعبر صراع الأفكار والمواقف بينهم، حول إشكاليّات المجتمع العربيّ والحُكم.
ثم ينتقل من العتمة الخامسة إلى العتمة السادسة، بعنوان: "عتمة المصابيح، 6"، دون أن تكون هذه العتمة الأخيرة على لسان أحدٍ من أبطال النصّ، كما كان في العتمات الخمس التي عَقَد لها الأقسام الخمسة السابقة.
ويبدأ هذا القِسم من النصّ بصفحة مذيّلة بتوقيع (الراوي)، يتحدّث فيها عن فصولٍ مسلسلةٍ من رواية مترجمةٍ نُشِرَت في كُبرى الصحف اليوميّة المحلّيّة، لاحظ فيها أن المترجِم تحدّث عن (سهيل الجباليّ) بدل (سهل الجبليّ)، وأنه قد أفاد من الأجزاء المتعالقة من تلك السلسة المترجمة، فأدخلها إلى مواضعها الملائمة في فصول روايته، وأبقى ما لا يمكن دمجه من أوراق نورة في الملحق المثبت في آخر هذا الفصل من "الغيمة الرصاصيّة".(2)
ويستهلّ الكاتب هذا القِسم، بعد تلك المقدّمة، بتعبيره عن خوفه من لعبة الكتابة بأن تقتله، كما كاد الشِّعر يقتل عُبيدًا، وكما قتلتْ حُرّيّة التعبير والاختيار مبروكًا. ومع ذلك فقد جعل يناقش نورة في بابٍ جديدٍ لاستكمال النصّ، لكنها لم تر له من بابٍ مناسبٍ سوى الدخول من قناة الماء الرئيسة التي تمرّ من الدور الأرضيّ في قلعة ابن عيدان، وصولاً إلى السّجلاّت التي يسعى من خلالها إلى استكمال النصّ.
واستكمال النصّ لا يتأتّى إلاّ بعَقْد مثل تلك المحاورة بين (مريم) و(نورة) في حضرة سهل. تلك المحاورة التي ترمز من خلال هاتين الشخصيّتين إلى جدليّتي الماضي والحاضر، والمثاليّ والواقعيّ. الماضي والمثالي اللذان تحمل التعبير عنهما شخصيّة نورة، والحاضر والواقعيّ اللذان تحمل التعبير عنهما شخصيّة مريم. مريم التي ما زالت متلبّسة بحزن لا ينغسل؛ باكيةً مبروكًا الذي قُتِل، لا لشيء إلاّ لأنه أحبّها وأحبّته؛ حانقةً على سهلٍ الذي رسم مصيرها؛ غيرَ راضية عن عَقْد مصيرها- من قِبل ابن عيدان- بشجرةٍ يابسة، هي عطيّة؛ ولا متصوّرة لذّةً دون تناسل. وشخصيّة نورة النقيضة التي تربط عمرها- رغم حُرّيتها- بابن عيدان؛ زاعمةً أنها تجد لديه صليل الرغبات الذهبيّة المنكسرة؛ متعلّلة بثلاث مباهج تعايشها يوميًّا: من الغناء والرقص وتوهّج الرغبات التي لا تطفئها النهايات الباردة؛ فاللّذة لا ترتبط في ذهنها بالإنجاب، كمريم(3). وهاهنا يقف سهل الجبليّ على طَرَفَي نقيض بين فكرتين تمثّلتا في شخصيّة نورة ومريم، هما: فكرة (الماضويّة والخياليّة واللّذة المثاليّة)، وفكرة (الراهن والغد والمستقبل)، واشتراطاتها المادّيّة لا الشّعريّة. وتلكم الجدليّة الذهنيّة بين ضرورات الانتماء واشتراطات الحداثة هي ما كانت تشغل فِكر الكاتب فيُديرها من خلال حوار شخصيّاته.
وإذا الكاتب ينتقل في مقطع آخر من هذا القِسم إلى الحديث عن مسعى (حمدان) و(نورة) لدى ابن عيدان لفتح مدرسةٍ ليليّة يتعلّم فيها الكبار، رجالاً ونساءً. وعلى الرغم من محاولة إقناع ابن عيدان بأن العِلم نورٌ، ومفتاحٌ للمجهول، وأن صراع الكلمة خير من صراع "المشاعيب"(4)، فقد ظلّ متردّدًا؛ خوفًا ممّا سينبثق عنه قمقم المجهول حين يملك كلّ امرئ مفتاحه، فَزِعًا من تمرّد الحرف على حكومة الحرف.(5) في إشارات إلى سُلطتَي العِلم والإعلام، اللتين تشكّلان خطرًا في عُرف دولةٍ كدولة ابن عيدان.
وما انفكّت نورة عَوْنَ سهل الجبليّ على البحث في سجلاّت ابن عيدان؛ ممّا يؤكّد ارتباط شخصيّتها بالرمزيّة التاريخيّة لتلك السجلاّت. فقد عاد الكاتب إلى وصف مغامرة سهلٍ لدخول قصر ابن عيدان، عبر قناة الماء، بمساعدة نورة، وذلك لاستكمال مشروعه المتعلّق بالنصّ المدوّن في كتاب السّجلاّت. وهو ما نجح في تحقيقه.(6)
ثم يصوّر الكاتب على لسان سهل الجبليّ تفجّر الخلاف بين الناس يوم الجُمُعة في إنشاء المدرسة التي اقترحها حمدان. ففرحتْ النساء؛ منهنّ من فرحتْ لأنها ستقرأ القرآن الكريم قبل أن تموت، ومنهنّ من فرحتْ لأنها ستنقش عشقها على جذوع الشجر، ومنهنّ من فرحتْ لأنها ستستطيع كتابة الشِّعر. كما فَرِحَ عُبيد الراعي لأنه سيستطيع تدوين قصائده. سوى أن (أبا عاصم)، الذي يمثّل الوجه الدينيّ في الوادي، لم يَقْبَل الفكرة إلاّ بشرط: أن يتولّى هو و(الفقيه عمران) تعليم الكبار كما يتوليان تعليم الصّغار. أمّا النساء- كما قال أبو عاصم- فلم يُخلقن للكتابة ولا للحُرّيّة، وإنما للجِنس!- مستشهدًا بقول الشاعر- "ولهنّ منّا أن ينمن على جنابة!"(7) وفي هذا إشارة إلى ما يرد في بعض كتب التراث العربي من نظرة دونيّة إلى المرأة، كمثل ما ساقه (الراغب الأصفهاني)(8)، عن "ذم الكتابة إذا تولاّها النساء"، حيث يورد:
"قال عمر رضي الله عنه: جنّبوهنّ الكتابة. وقال دقنس الفيلسوف، وقد رأى جارية تتعلم الكتابة: تسقي سهماً سمًّا لترميك به يوماً. وقال البسّامي(9):
ما للنسـاءِ وللكـتا *** بةِ والعمالةِ والخطابةْ؟!
هذا لنا، ولهنّ مـنّا *** أنْ يبتنَ على جَنابـةْ!!
.. سمع جرير شِعرًا، فسأل عن قائله؟ فقيل: امرأة فلان. فقال: إذا زَقَتْ الدجاجة زُقاءَ الدّيك، فاذبحوها!"
وشاهدُ أبي عاصم ذاك قد أضحك ابن عيدان، دلالة على تأمينه على الفِكرة. وانقسم الجمع على نفسه حيال تأسيس المدرسة وحول مكانها. منهم من يعارض فكرتها من الأساس، كعريفة العبادل، ومنهم من يُعارض مكانها فقط، كعريفة الرمليّة؛ إذ كان يريدها في قريته. وهو ما أضجر ابن عيدان ودفعه إلى تأجيل الفكرة حتى آخر الصيف، ودفع حمدان إلى أن يعلن تبنّيه بناء المدرسة قريبًا من موقع سيّارته، ووافقه عريفة الشمالية، جابر. وانفضّ الجمع على وعد مدرسةٍ غير مؤكّد.
وفي الحلقة المقبلة نواصل القراءة في "الغيمة الرصاصيّة" وما دار في وادي ينابيعها.
aalfaify@yahoo.com
http://alfaify.cjb.net
ــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: الغيمة الرصاصيّة، 189- 190.
(2) ويذكّرنا هذا- فضلاً عمّا كان يشي به عنوان "الغيمة الرصاصيّة" الفرعيّ: "أطراف من سيرة سهل الجبليّ"- بنصّ سرديّ كان نشره د. معجب الزهراني، بعنوان "سهيل الشماليّ"، قبل نشر "الغيمة الرصاصيّة" بسنوات، وذلك في جريدة "الرياض"، (لعلّ ذلك كان عام 1992/ 1993). وكأن الكاتب هنا يومئ إلى أن نصّه جاء بإيحاء من نصّ الزهرانيّ، الذي كان نصًّا رمزيًّا، قائمًا على أسطورة اقتبسها من "موسوعة الأساطير الشعبيّة في شبه الجزيرة العربيّة"، لعبدالكريم الجهيمان. وكان ذلك النصّ يعالج قضايا المرأة والمجتمع بمثل ما فعل الدمينيّ في نصّه هذا، وبأنفاسٍ شعريّة تتماهَى في النسق السرديّ. بيد أن تعالق النصّين منحصر في تشكيل شخصيّة نورة، كما ذكر الكاتب نفسه.
(3) انظر: الغيمة الرصاصيّة، 194.
(4) المشاعيب: جمع مِشْعاب، ويعني في لهجة غامد وزهران وغيرهما: العصا الغليظة. سُمّيت بهذا لما يكون لها من شُعَب. وأَنشد أَبو عُبيد لعليّ بنِ غَديرٍ الغَنَويِّ في الشَّعْبِ بمعنى التَّفْريق:
وإِذا رأَيتَ المرْءَ يَشْعَبُ أَمْرَهُ، *** شَعْبَ العَصا، ويَلِجُّ في العِصْيانِ
وشُعَبُ الغُصْنِ: أَطرافُه المُتَفَرِّقَة. ويقال: هذه عَصاً في رأْسِها شُعْبَتانِ؛ قال الأَزهري: وسَماعي من العرب: عَصاً في رَأْسِها شُعْبانِ، بغير تاء. والمَشْعَبُ: الطَّريقُ. ومَشْعَبُ الحَقِّ: طَريقُه المُفَرِّقُ بينَه وبين الباطلِ. (انظر، ابن منظور، لسان العرب؛ الزبيدي، تاج العروس، (شعب)).
(5) انظر: الغيمة الرصاصيّة، 195- 196.
(6) انظر: م.ن، 196.
(7) انظر: م.ن، 197.
(8) (1961)، محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء، (بيروت: دار مكتبة الحياة)، 140. وذَكَر الأبيات في موضوع آخر، بعنوان "ذمّ إمارة الصِّبيان والنساء"، منسوبة إلى (ابن بادان). (انظر: 283). ولتتبّع هذا التصوّر المريض عن المرأة، الذي يمثّل امتدادًا للنظرة الجاهليّة المتأخّرة، (انظر: الفَيْـفي، عبدالله بن أحمد، (2006)، نقد القِيَم: مقاربات تخطيطيّة لمنهاج علميّ جديد، (بيروت: مؤسسة الانتشار العربي)، 83- 100).
(9) هو: أبو الحسن علي بن محمد بن نصر بن منصور بن بسّام البغدادي، ويقال له: "البسّامي"، (230- 302هـ= 844- 914م). شاعر هجّاء، من الكُتّاب، عالم بالأدب والأخبار، من أهل بغداد، نشأ في بيت كتابةٍ، وتقلّد البريد. وأكثر شعره في هجاء والده! وهجا إخوته وسائر أهل بيته، كما هجا جماعة من الأمراء والوزراء. بل لم يَسلم من هجائه صغير ولا كبير، كما جاء في أخباره. ومَن هذه أخلاقه فلا غرابة أن يرى في المرأة ما رأى. له كُتب، منها: "أخبار عمر بن ربيعة"، و"كتاب المعاقرين"، و"مناقضات الشعراء"، و"أخبار الأحوص"، و"أخبار إسحاق بن إبراهيم النديم"، و"ديوان رسائله". (انظر: ابن خلّكان، (1972)، وفيّات الأعيان، تح. إحسان عباس، (بيروت: دار صادر)، 3: 363- 366؛ الزِّرِكْلِي ، خيرالدِّين، (1984)، الأعلام، (بيروت: دار العلم للملايين)، 4: 324).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ملحق "الأربعاء"، صحيفة "المدينة "- السعوديّة، الأربعاء 22 رجب 1430هـ= 15 يوليو 2009م، ص8.
|