يصوّر كاتب "الغيمة الرصاصيّة" اندلاق الأضواء العلميّة في وادي الينابيع- الذي رأيناه في الحلقة السادسة عشرة من هذه القراءة- عبر وصفه مسيرة ليليّة نحو المدرسة التي ستبعث البهجة في قلب نورة، وقد استحال اسمها رمزًا للنور، مضحّية بالمقهى، وبعمل عُبيد الراعي إلى جوارها في المقهى، من أجل مرافقة الطلبة في مسراهم آمّين نور العِلْم. ويتداخل هذا بتصوير الكاتب مغامرةَ سهلٍ الاستئنافيّة كي يُنجز مهمّته في تغيير النصّ المحرّف في سجلاّت ابن عيدان. وقد واجه مفاجآتٍ في مسبحه عبر القناة المائيّة إلى مستودع السجلاّت، إلاّ أنه وصل آخر الأمر بسلام، وأنجز مهمّته المتعلّقة بكشط الأجزاء الطويلة المحرّفة في النّصّ. وإنْ كان في عودته قد تعرّض للسقوط في قناة الماء، فكُسرت يده، واقتيد إلى مغارات الظلام، وانكسرت لأجله نفس نورة.
أمّا حكاية المدرسة، فقد استمرّت بين مدٍّ وجزْر. وجعل الساخرون- كعريفة العبادل، وجاره عيضة، وأبو عاصم؛ الذين يمثّلون المحافظة باسم المجتمع أو الدِّين- يَسْخَرون من مسيرة التعليم تلك. وبالرغم من ذلك فقد أخذت فتنة العِلم تسري في النفوس، وبدأ التأمّل والتفكير يتجاوز رمزيّة الحروف، وتلاوة القرآن، وأشعار الأقدمين، إلى التفكّر في ما أبدعه العِلم من إنجازات، كمحرّك السيّارة، ومولّد الكهرباء، ومضخّة الماء. كلّ ذلك قد دفع معارضة المدرسة إلى التراجع، بل جعل عيضة يصطحب ذات مساء "زوجته الكُبرى وبعض جيرانه" إلى المدرسة التي أشعلت أضواءُها مداخل الوادي".(1) وهذا التلازم بين حكاية المدرسة وحكاية تغيير النصّ أو إصلاحه يدلّ على تلازمٍ بنيويّ بين الفكرتين في ذهن الكاتب؛ إذ لا سبيل إلى تغيير النصّ أو إصلاحه إلاّ بالعِلم وتغيير العقول. والنصّ في هذا السياق يرمز إلى الواقع المتخلّف المضطرب الفاسد، الذي كان ضاربًا بأطنابه في الوادي والقُرى المجاورة. وقد كان لا بُدّ من إنجاز ذلك المشروع التنويريّ، وإنْ بتضحيات وانكسارات وإخفاقات. ولئن كان التعليم مَدخلاً للتغيير لا مراء في مشروعيّته، فإن الكاتب قد ربط هذا النور وذاك التغيير بحمدان ربطًا يَرى العِلْم والتغيير صناعة غربيّة، لا مناص من اعتناقها. وهي وجهةٌ فكريّة فيها نظرٌ؛ من حيث إن النصّ بذلك إنما سينحرف في الاتجاه المعاكس. وإنْ كان الكاتب- للحقّ- قد وازن في صورة التعليم المتوخّاة بين إشاراته إلى التعليم الدينيّ والأدبيّ وإشارته إلى التعليم الحديث.
ثم انتقل الكاتب إلى مشهدٍ جمع جابرًا بابن عيدانٍ ونورة، إذ شكتْ نورةُ من تعدّيات (أبي معصوم) عليها وعلى روّاد مقهاها، واقتياده إيّاهم إلى المغارات للتحقيق. وهو ما لم يُثِر لدى ابن عيدان سوى الضحك، والقول: إنه هو الآخر قد تعرّض لمثل ذاك! لتجيب نورة بألم: "ليتك تبحث لهم عن عمل مفيدٍ آخر!"(2) مومئًا الكاتب بهذا إلى تغلغل السُّلطة الدينيّة الاجتماعيّة في حريّاتِ الناس بلا حدود. وبالرغم من هذا، فقد بدأتْ عتمة المصابيح تنبلج، إذ أَذِن ابن عيدان بإضاءة الطريق من المدرسة إلى مقهى نورة، وإنْ ظلّ يرفض إيصال النور إلى قلعته. كما بدأ يقتنع بأن المدرسة ستقلّل من مشاكل أهل الوادي؛ ممّا جرّأ جابرًا على استئناف مفاوضته إيّاه حول فكرة التعاونيّات، وهو ما قابله ابن عيدان بلهجة راضية، معربًا عن أنه يفكّر في الأمر بجديّة.
وتتبدّى من مشهد التحقيق في المغارات- الذي أعقب سقطة سهل الجبليّ في قناة الماء عائدًا من تلصّصه على سجلاّت ابن عيدان- ومن محاورة سهل مع منصور وسعيدان مواقف الكاتب التي تتكشّف نموذجيّتها في سهل. فمن قوله لنفسه: "رُبّ كسرٍ ينبت ضلعًا جديدًا"(3) ينطلق سهلٌ إلى استقراء ظلام الكهوف والرسوم على الجدران، ومنحوتات أشخاصٍ، ذكَر أنه يعرفهم، ومنهم مفكّرون، قابَلَ منهم في المغارة ساعتئذٍ منصورًا وسعيدان وصفوان. وقد احتدم الخلاف مع منصور وسعيدان، اللذين يمثّلان نموذجي التغيير الثوريّ الجذريّ في المجتمع، فيما يمثّل سهل شخصيّة الإصلاحيّ، الذي يرنو إلى ترميم الماضي بالمعاصر. وهو ما لم يكن سعيدان يتقبّله، قائلاً لسهل- في سخرية: "ألم أقل لكَ إن نصّكَ إصلاحيّ، لا يخدم سوى أوهامك؟ ولو أنّك طوّرته مثلما رأيتُ أنا ومنصور، لكُنّا قد خرجنا من هنا، وكنتَ قد عُدتَ بأغنامك إلى البنك منذ زمن بعيد، ولكن يبدو لي أنك لا ترى الأشياء كما ينبغي."(4) هكذا يقع الخلاف بين سهلٍ وصاحبَيه في المغارات، وكأنما يمثّلان شخصيَّتَي ثوريَّين مؤدلَجَين من نمط شخصيّات الستينيّات في القرن الماضي، ويمثّل صفوانُ لمنهجهما الأبَ الروحيّ والفكريّ. وقد فارقهم سهلٌ على أملٍ- كما عبّر عنه منصور- كان وميضُه يتبجّس في البُعد القصيّ.
ثم يتحرّك السارد من هذا السياق إلى سياق آخر، للحديث عن (عَزَّة) وحُلم الوادي. فلقد مثّلت عَزَّة للوادي حُلمه الأرضيّ العصيّ، "لكنّ عَزَّة [كما قال] ما زالت غافيةً في فراغها البعيد عنّي، فلا يعود أمام الحِبْر إلاّ هذه (البابليّة) الفاتنة"(5)، في إشارة إلى نورة. وإذ يحضر (جابر) إلى خيمة سهل، عارضًا عليه إشكاليّة التعاونيّات، ناعيًا على نورة أنها لم تشفع له لدى ابن عيدان في شأن التعاونيّات، مثلما شَفَعَت لحمدان في شأن المدرسة، طالبًا إلى سهل أن يطلب منها فعل ذلك، يجيبه سهلٌ: "إنني منشغل ببناء النصّ ككتابة وأنت منهمك في تحقيقه في الواقع؛ وبيننا اختلاف في الأداة والاستراتيجيّة." فيجيبه جابرٌ: "عَزَّة غائبة ولو كانت حاضرة لقامت بدورها، فماذا أفعل؟"(6) ومن خلال هذا يتبيّن أن نورة تمثّل الوجه الآخر الحضوريّ لوجه عَزَّة الغائب، وإنْ كانت نورة بدورها ضوءًا ماضيًا، هو مكوّن من مكوّنات البذار الحُلميّة، لكنه ليس الحُلم كلّه في دوحته المشتهاة. بمعنى آخر: أن هناك حُلمًا موروثًا، ذا محجّة بيضاء، يعبّر عنه الكاتب عبر شخصيّة عَزَّة، وهناك أثارة من ذلك الحُلم حاضرة تتبدّى في شخصيّة نورة. وإلى جوار هذه الجدليّة، بين الماضي والراهن والغائب والحاضر، تبرز جدليّة أخرى بين البُعد النظريّ للطموح وبُعد التطبيق. البُعد النظريّ الذي يتطرّق إليه الكاتب من خلال فكرة النّصّ، والتطبيق الذي يتطرّق جزئيًّا إليه من خلال فكرة مشروعات التعاونيّات التي يتبنّاها جابر. تلك المشروعات التي تصوّر فكرة تنزيل النصّي والنظريّ والحُلُميّ على فِقه الواقعيّ والتطبيقيّ الاجتماعيّ. بما أن قضيّة التعاونيّات ليست إلاّ إيماءة إلى التحوّل من المجتمع المركزيّ، الذي يمثّل سُلطته العُليا ابن عيدان، إلى المجتمع المدينيّ، الذي تحكمه قوانين المؤسّسات الأهليّة والجمعيّات التعاونيّة، مع ما يؤدّي إليه ذلك من نقلةٍ ثقافيّة وحضاريّة على المستوى الاقتصاديّ والاجتماعيّ والسياسيّ.
فما الذي كان يحدو بالكاتب إلى إبعاد الشُّقّة عن ملامسة تلك القضايا خارج الخطّ الرمزيّ الذي اختار؟ أهي قوانين النصّ الأدبيّ، أم قوانين الواقع الاجتماعيّ؟ لعلّ الأمرين يشتركان في ذلك. وهو ما أودى بالنصّ إلى مأزقه الفنّيّ والثقافي معًا؛ فبدا من الوجهة الفنّيّة نصًّا تخييليًّا غرائبيًّا- يبتعد عن طبيعة السرديّة، التي لا بُدّ أن تقترن بالواقعيّة نسبيًّا، حتى وإن جاءت واقعيّة سحريّة- ووصل إلى طريق معتم، بل مسدود، في خطابه الثقافيّ الذي توخّاه. والعلّة من الوجهة الفنّيّة تكمن في أن الكاتب كان يكتب نصًّا سرديًّا بأسلوب شاعر، ومن الوجهة الثقافيّة في أنه كان حبيس المحاذرة من المباشرة في طرح المضامين الفكريّة.
ولقد اعتذرتْ نورة مبدئيًّا عن مساندة جابر في مسألة التعاونيّات، لافتة النظر إلى أن مثاليّتها الموروثة، بوصفها قَبَسًا نورانيًّا إلهاميًّا من الماضي، لا يؤهّلها كيما تكون وسيطًا واقعيًّا إلى تحقيق مشروعات الحاضر وأحلام المستقبل. ليردّ عليها جابرٌ بقوله: "أنتِ تطرحين نفسك هنا كحرف بلا لون، وصفحة بلا تشكيل، وكأنما تتوهّمين العودة إلى البدايات القديمة، [بينما] وجودك معنا يؤكّد لكِ قبلنا أنّكِ سلالة تعيش حاضرها وإرثها معًا."(7) ومحاولة الربط هذه بين الإرث والحاضر هي ما كانت تؤرّق جابرًا، ساعيًا إلى أن تُصبح نورة عضوًا فاعلاً ورئيسًا في المشروع الحضريّ الذي يصبو إليه.
ولا شكّ أن مثل هذه المحاورة الفلسفيّة بين جابرٍ ونورة هي من صُنع الكاتب نفسه. وهي تمثّل ثغرة ضعفٍ، من وجهة نظرٍ روائيّة، سبَق أن لحظناها خلال الأعمال الأخرى من هذا الضرب السّرديّ الذي نسمّيه (قصيدة-رواية). ولعلّ أهمّ عاملٍ وراءها سيطرةُ الفِكرة على مَلَكات الكاتب التعبيريّة، وحيلولتها دون ما ينبغي لنصٍّ روائيّ من رسمٍ للشخصيّات، بما يتناسب بينها من تفاوتِ مستوياتٍ لغويّة وفِكريّة. ومردّ هذا إلى أن نبض الشاعر (المتفلسف) أَجْهَرُ صوتًا من حِرفيّة الكاتب الروائيّ وآلاته إلى إيصال المضامين، وأشدّ مراسًا من سياسته ذلك سرديًّا. من حيث إن البناء السرديّ لا يتماثل لروائيّته من خلال منبريّات الخطاب الشعريّ، ولكن من تفويض ذلك إلى تشكّلات الشخصيّات والأحداث، على كيفٍ يوهم بعفويّته، ويفرض حياديّةَ المؤلّف في نقله.
ولنا في الحلقة الآتية مضطرب آخر مع هذا النص الممتع الملبس العجيب.
aalfaify@yahoo.com
http://alfaify.cjb.net
ــــــــــــــــــــــــــ
(1) الغيمة الرصاصيّة، 200.
(2) م.ن، 202.
(3) م.ن، 204.
(4) م.ن.
(5) م.ن، 205.
(6) م.ن، 206.
(7) م.ن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ملحق "الأربعاء"، صحيفة "المدينة "- السعوديّة، الأربعاء 29 رجب 1430هـ= 22 يوليو 2009م، ص6.
|