الغيمة الكتابيّة-18 :3.دراسات: إضبارة د.عبدالله الفـَيفي http://www.alfaify.cjb.net

الغيمة الكتابيّة
جدليّة القدامة والحداثة!
( قراءة في تماهي الشعريّ بالسرديّ في الرواية السعوديّة )
بقلم: الدكتور عبدالله بن أحمد الفَيفي

[ الحلقة الثامنة عشرة ]

كانت المحاورة الفلسفيّة بين جابرٍ ونورة بشأن إنشاء التعاونيّات في وادي االينابيع من صُنع كاتب "الغيمة الرصاصيّة" نفسه، بطبيعة الحال، كما أشرنا في الحلقة السابقة. وهي تمثّل ثغرة فنّيّة، من وجهة نظرٍ روائيّة. ويمكن أن يُلمَح من وراء محاورة نورة وجابر نقاشٌ آخر فكريّ في قضايا المال والإنتاج وشؤون الاقتصاد والاحتكار. فجابر يتبنّى فكرة المشاركة- لا (الاشتراكيّة) بالضرورة- من خلال ما يسمّيه "التعاونيّات"، إذ يقول: "المشاريع وسائل للتخفيف من البؤس والحرمان الذي ينتج من تفاوت الحظوظ والقوَى والأنصبة، ومن خلالها يتمّ الانتصار لقوَى الخير الكامنة في الإنسان ومحاولة لتشكيل نواميس أكثر حكمة وعدلاً."(1) فيما عارضت نورة رأيه بقولها: "كلّ فكرة تُخفي في أذيالها رغبة في التحكّم والسيطرة حتى وإنْ لم تُعلن ذلك، والمحصّلة في الأخير توضح لنا أن هناك مستفيدًا وخاسرًا(2)، لذا أقول لنفسي: لندع الأشجار والألوان تتفتّح على سجيّتها وبالقدر الذي تستطيع فيه الدفاع عن نفسها."(3)
وإيمان نورة بالحُرّيّة المطلقة، لتنمو الأشجار في غابة الحياة على سجيّتها فتحقّق وجودها أو عدمه، تظلّ تراودها حتى في أمر اقترانها زوجةً لعُبيد الراعي، الذي ترفضه لما ترى خلف فكرة الزواج من نزوع تملّك وسيطرة.(4) وبذا ينتقل الكاتب بالحواريّة من مستواها الاقتصاديّ الاجتماعيّ إلى مستواها الفرديّ والعائليّ؛ ليناقش قضيّة الشراكة الزوجيّة التي يتمنّاها عُبيد مع نورة، إذ يقول: "أريد شيئًا خاصًّا بي، أتحسّسه لوحدي، ولا يشاركني فيه الآخرون."(5) على حين تجيب هي: "ها أنت مثلهم تبحث عن طريق لتثبيت حقّك في السيطرة عليّ. أنا لا أحصر مهمّة وجودي في هذا الإطار المحدّد سلفًا بالتكاثر.. لا.. تلك مهمّة أخرى لا تُرضي ذاتي ولا وجداني."(6) وهنا توقّف الحوار- كما يقول الكاتب- أمام العقبة، أيْ كما "وقف حمار الشيخ في العقبة"، بحسب التعبير الدارج. فانصرفت نورة وعُبيد عن مجلس الحوار بلا ناتج. وإنما كانت غاية الكاتب من إثارة هذه الإشكاليّات طرح سؤال الحُريّة بإزاء سؤال الشراكة والتعاون، وإمكانيّة إقامة المعادلة بينهما دون أن يطغى أحدهما على الآخر، إنْ في البنية الاجتماعيّة أو في البنية الأسريّة.
وبعد تلك المساءلات بين الحُريّة والاشتراكيّة يَروي سهلٌ أنه اعتزل في "خيمته"، التي ستصبح عمّا قريب "غيمته". وهناك انقطع عن الناس بسبب الشتاء. ولولا أن مفردة "الشتاء" هنا هي- كمفردات النصّ كافّة- تعبيرٌ مجازيٌّ رمزيٌّ عن العزلة والانكفاء على الذات- بحسب استخدامها لهذه الأغراض التعبيريّة في نصٍّ شعريّ- لعُدّت غلطًا سرديًّا لم يتنبّه إلى عدم اتساقه السارد، من حيث إنه سيعقب وصفه ذاك بالقول: "دخل عليّ جابرٌ والعَرَق يتقاطر من وجهه"!(7) بيد أن الكاتب لا تعنيه حقائق ما تدلّ عليه الكلمات بمقدار دورانه في فَلَك ما توحي به وترمز إليه؛ فهو حينما يشير إلى "الشتاء" لا يعني ذلك الفصل من السنة، ولكنه يعني به إيحاءاته من: الانكفاء والعزلة والانقطاع عن المحيط العامّ.
ولقد وافق ابن عيدان على مشروع التعاونيّات، وبدأتْ تظهر ملامح ذلك المشروع التي تدلّ بالفعل على أنه كان يقف وراءها فِكرٌ اشتراكيّ؛ إذ يقول جابر- عن ابن عيدان: "لقد رأى في ما عرضتُه عليه حلاًّ لمشاكل الحدود والتعدّيات والامتناع عن دفع الضريبة، وأحسّ بأن كل المِلكيّات ستعود إليه: (جدّ الوادي والمتصرّف بحكمته في ما يحدث فيه)."(8) ذاكرًا أنه قد عَرَضَ عليه كلّ التفاصيل، ومقدار حصّة الفرد، وما زاد عن ذلك يعود إلى بيت المال! وهو ما كان يتخوّف منه حمدان، الذي يشير- كما يقول سهلٌ- إلى أن هذه الفكرة "ستوطّد سُلطة الانفراد باتخاذ القرار".(9) وهنا يبرز التقابل بين الفِكر الاشتراكيّ والفِكر الرأسماليّ من خلال موقف حمدان الذي يمثّل التصوّر الرأسماليّ- الأميركي تحديدًا. وعند هذه النقطة يظهر للقارئ أنه أمام نصٍّ يحمل الهموم نفسها من الجدليّات الاقتصاديّة والفكريّة التي عبّرت عنها نصوص أخرى لكُتّاب من السعوديّة، ولاسيما سلسلة كتابات تركي الحمد السرديّة- السابقة على صدور "الغيمة الرصاصيّة"- تحت عنوانٍ مشترك: "أطياف الأزقّة المهجورة"، كـ"العدامة"، و"الشميسي"، و"الكراديب". بيد أن جابرًا يجيب على ما كان أثاره حمدان من تحفّظات بما ذَكَر من احترازات ساقها لابن عيدان، بيّن له فيها "أن الغالبيّة لن تمضي في المشروع إلاّ بتكوين لجنةٍ يقرّها أهل الوادي تُشرف على أوجه صرف بيت المال، وقد وافق." وهي احترازات كانت تسعى فقط إلى أن لا يستبدّ ابن عيدان بسُلطة القرار في الوادي، لا غير ذلك من المشروع الاشتراكيّ الذي كان ماضيًا إلى تأميم الممتلكات الكبيرة، وإعادة ملكيّة الأراضي إلى بيت المال. ولم يَعُد إذن- كما أوضح جابر، مخاطبًا سهلاً- "سوى تحديد مكان السدّ". وكأنما ذلك السدّ (سور برلين) لحماية النظريّة والالتزام بها، إلاّ أن تحديد السدّ "يستدعي اكتمال نصّ عَزَّة وخروجها منه". وقد استمهل سهلٌ جابرًا لتحضير لوازم طقسٍ سحريٍّ للاحتفال بخروج عَزَّة، وطَلَبَ إليه تحضير بعض مستلزمات ذلك.(10)
وأُحضرت العدّة لحفل خروج عَزَّة، ودار الجدل بين نورة ومريم وأُمّ عَزَّة حول ما طلبه سهلٌ: من إحضار خصلةٍ من شَعر امرأة لم تُعاشر رجلاً، وثوب امرأة لم تُعاشر رجلاً. وكان جدلاً يكشف عن الموقع الرمزيّ لكُلّ شخصيّة من هذه الشخصيّات النسويّة الثلاث. فمريم كانت ترمز للطُّهر. وإذ تُبدي أُمّ عَزَّة، كالمعتاد، غيرتها من نورة- غيرةَ الأصالة من المعاصرة، وتيّار المحافظة من تيّار التنوير- تتجلّى رمزيّة كلٍّ منهما في النصّ.(11)
ويصوّر السارد في لغة شِعريّة مشهد الاحتفال وخيبة استحضار عَزَّة، إذ يقول:

"أمام الخيمة، وبين ضيوف الحضرة المتحلّقين حول عشائهم الشهيّ، ... أشعلتُ النار في الحروف، وأدنيتُ النائي في خلوته إلينا، وحفرتُ في السحاب آبارًا، وأجريتُ في كلّ وادٍ نهرًا.
خضضتُ متن الكلام، وأحرقتُ الشَّعر والأوراق وثوب عَزَّة، فارتفعتْ سُحُب الدّخان، وومضتْ خرزة الجدّات وصرختُ: يا عَزَّة زعفرانة، يا عَزَّة زعفرانة؛ فلاح لنا شبه بها، أو هكذا ظننّاه في البدء، يهتزّ في أعالي الدخان، لكنه لم يُشِر إلى موقع السدّ، وتبدّد كما يتبدّد سواه فوق أعالي الجبل.
جفّ الهواء في الوادي، وتيبّس الماء في أصابعي وانعقد لساني، حتى صرتُ شجرةً عطشى، ولم تخرج عَزَّة من نصّها، فألجمتْ الخيبة ألسنتنا، وحشرجتْ الأصواتُ المكتومة في الحناجر، وكانت الهزيمة تبسط سخريتها فوق الرؤوس، حتى انثنى سواد الليل كرمح في الأعماق.
غادرتْ أُمّ عَزَّة وهي تعوي، ومضى الحاضرون عنّي، فدخلتُ إلى خيمتي واعتزلتُ الناس مدّة طويلة." (12)

وهنا يُدرج الكاتب مُلحَقًا، بعنوان "مُلحَق من أوراق نورة، فكّ طلاسمها طالب الآثار ونشرها في جريدة (...)".(13) ليسوق ثلاثة نصوص من أوراق نورة، بعد أن خاب استحضاره عَزَّة، فهي من أوراق الحاضر (نُوْرُهُ)، المستمدّ نسغه من الماضي (عِزُّهُ)، ذلك الماضي الذي صار أشبه بروحٍ خرافيّة لم يتسنّ استحضارها، على الرُّغم من تلك الطقوس التي أعدّها سهل.
وفي النصّ الأوّل من أوراق نورة تكشف عن أن صحو ابن عيدان من مرضه لم يكُ إلاّ وهمًا. فلقد اتّجهتْ- كما قالت- إلى القبو السفليّ المظلم من القلعة، حين بدأت تشكّ في أن يكون ابن عيدان- بما عهدتْه فيه من عجزٍ وبؤس- هو من أُعلن شفاؤه ودُعي أهل الوادي إلى زيارته. وقد تأكّد لها ذلك بما أدهشها من روح ابن عيدان (الجديد) وجسارته وشَبَقه. ثمّ بما وقفتْ عليه في القبو من مشهد جثوّ الفقيه عمران أمام قبرٍ، بدا طينه نديًّا، وهو يهمهم: "رحمك الله يا الشيخ ابن عيدان الرابع".(14)
فابن عيدان، إذن، لم يَعُد ابن عيدان. بل إن ابن عيدان ليس الجدّ الأوّل، كما توهّم الراوي حسب ما ذَكَر في حاشيةٍ على هذا النصّ الأوّل، وإنما هو الجدّ الرابع، كما سمعتْ نورةُ الفقيهَ عمران يقول.(15) وسُلالة ابن عيدان- التي تُغطّي عادةً وجوهها باللثام إمعانًا في تأكيد معنى الخلود- لا معنى لتأكيدها ذاك، فما هو إلاّ وهمٌ كوهم الراوي حين لم يُشِر إلى موت ابن عيدان طيلة صفحات النصّ، وظلّ يناديه بالاسم نفسه. يأتي هذا كلّه في مجرّةٍ من الإشارات الرمزيّة إلى انقطاع عهدٍ- ما كان له أن يستمرّ- وبداية عهدٍ جديد يستشرف مستقبلاً آخر. وتلك هي جدليّة القدامة والحداثة، والماضويّة والمستقبليّة، التي تدور في فَلَكِها رموز النصّ قاطبة.
ونواصل هذا التحليل النقديّ في مقالنا الآتي، بإذن الله.

aalfaify@yahoo.com
http://alfaify.cjb.net
ــــــــــــــــــــــــــ
(1) الدميني، علي، (1998)، الغيمة الرصاصيّة، (بيروت: دار الكنوز الأدبيّة)، 207.
(2) في الأصل: "أن هناك مستفيد وخاسر".
(3) م.ن.
(4) انظر: م.ن، 208.
(5) م.ن.
(6) م.ن.
(7) م.ن، 209.
(8) م.ن.
(9) م.ن.
(10) انظر: م.ن، 210.
(11) انظر: م.ن، 211.
(12) م.ن، 212.
(13) م.ن، 213.
(14) م.ن، 214.
(15) انظر: م.ن.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ملحق "الأربعاء"، صحيفة "المدينة "- السعوديّة، الأربعاء 7 شعبان 1430هـ= 29 يوليو 2009م، ص6.




شكراً لزيارتك هذه الصفحة!

جميع الحقوق محفوظة ©