الغيمة الكتابيّة-20 :3.دراسات: إضبارة د.عبدالله الفـَيفي http://www.alfaify.cjb.net

الغيمة الكتابيّة
مَفارِق الدِّين والشِّعر والتاريخ !
( قراءة في تماهي الشعريّ بالسرديّ في الرواية السعوديّة )
بقلم: الدكتور عبدالله بن أحمد الفَيفي

[ الحلقة العشرون ]

في قراءتنا في "الغيمة الرصاسيّة" للشاعر علي الدميني، يلفتنا ما أسماه حاشية الرواي على الفراغ الوارد في النصّ الشعري الطويل على لسان نورة، الذي ساقه تحت عنوان "عتمة المصابيح، 6" من العمل، والمتعلّق بدخول ابن عيدان إلى رحاب قلبها. وتشير تلك الحاشية إلى أن دخول ابن عيدان إلى قلبها لم ينتج عنه إلاّ الفراغ، فلم يُثمر شيئًا كما حدث مع عشّاقها الآخرين. وكذا الحاشية المتعلّقة بمعنى "الرجل الواحد"؛ فموات القلب الذي يعشق رجلاً وحيدًا قد يكون لمركزيّة العشق، أو لقِدَم المعشوق وانقضاء شبابه، أو لعجزه. ولا تحضر دلالة هذه الإشارات إلاّ بجعلها في سياقاتها الرمزيّة، المتعلّقة بالمخاض الفكريّ الذي يناقش شؤون الثقافة والحضارة من خلال الشخوص المشار إليهم في نصّ "الغيمة الرصاصيّة"، ولا علاقة للأمر في نهاية الأمر بالمرأة أو بالرجل أو بالعشق.
وهناك ترثي نورة حالها، في نَصّها الشعريّ الثالث، لِما حدث لها منذ ألف عامٍ من تقاسمها بين عيون الرقباء والحسّاد والطامعين/ بين: مطاردة عمران الفقيه، وابن عيدان القديم الجديد، وحُلم عُبيد الراعي بأن تكون له وَحْدَه، ومحاصرة سهل الجبليّ ليُخرجها- كما عبّرت- من كونٍ مفتوحٍ إلى نصّ مغلق. وفي هذا محاكمة يجريها الكاتب لواقع الثقافة العربيّة والحضارة الإسلاميّة من خلال هذه الصورة التي ترسمها نورة عن نفسها، بين سُلطة الدِّين والسياسة والشِّعر والتاريخ.
ومع أن نورة، كما صورها الكاتب، كانت تسعى إلى ينابيع البكارة الأولى- وقد عبّرتْ عن ذلك باتجاهها للاغتسال في برودة النهر- فإن رجال الوادي ما لبثوا أن أطلّوا عليها من المزارع المجاورة يراقبونها بشبق مفزع.(1) وحينما عادت من مائها إلى خيمتها فوجئتْ بأحدهم يحاول أن يقطف جمرها، لولا عودة عاشقها عُبيد من لقاء صاخب مع أُمّ عَزَّة. وعلى الرغم من استعصامها متمتمةً في منامها: "أنتِ آخر الورثة المعصومين من اللّذة، يا نورة"، فقد وَقَعَ المحظور، واكتشفتْ أن عُبيدًا الراعي، الذي يمشي على ثلاث، قد فعل فعلته، وافتضّ درّتها التي خبّأتها كلّ تلك السنين، ومن ثَمّ قرّرتْ الرحيل والانتحار.
وكأن الكاتب، بانتقاله بعدئذٍ إلى القِسم المعنون بـ"الأبواب، 1- سهل الجبليّ"، يشير إلى أن عتمة المصابيح- التي استطردتْ عناوين الجزء الثاني من النصّ- قد آذنت بتبلّجها عن أبواب النهايات في حكاية سهل الجبليّ؛ وها هو ذا الباب الأوّل الذي يسوقه على لسان بطل النص سهل.
وفي هذا الباب يبدأ حِوار سهل مع مريم حول أوراق حُلمه التي داهمها اليباس، حين لم تخرج عَزَّة الموعودة من نصّها. وجديرٌ بالتأكيد هنا أن عَزَّة ونورة ومريم هي أوجه ثلاثة لشخصيّة واحدة تمثّل حُلم الراوي الضمنيّ، وهو ما سيصرّح به، إذ يقول: "سؤال يباغتكَ لأوّل مرّة: أتكون النساء الثلاث وجوهًا متعدّدة لوجه عَزَّة؟"(2) وكلّ وجهٍ يحمل جانبًا رمزيًّا لحُلم سهل الجبليّ، بين: نور الماضي، وأمل المستقبل، ومولد الآتي.
وبينا سهل في حواره مع مريم، جاء جابر ببشارة طرح ابن عيدان، شيخ وادي الينابيع، فكرة التعاونيّات على العُرفاء، قائلاً: "لقد غدونا قريبين إلى جوار بدايات بوّابات الحُلم، يا سهل، فاشحذ ذهنكَ، واستعد مخيّلتكَ، وجرّب كتابة القِصّة من جديد."(3) فهذه إذن هي البوّابات، بوّابات الحُلم المقصودة في عناوين هذه الأقسام من نهايات "الغيمة الرصاصيّة"؛ حيث تتكشّف الأمور، وتتجلّى النصوص، وتنقشع الغيوم، ويُطِلّ فجرٌ جديد.
وقد بدأ سهلٌ في إعادة تدوين النصّ، مستعينًا بريشة نورة التي صنعتها لأجله، في إيماضة إلى ما سبق قوله من دلالة نورة على الرصيد الماضي الذي لا غَناء عنه لتحقيق أحلام المستقبل.
غير أن سهلاً يستيقظ فجرًا على عويل عُبيد الراعي، ليعلم أن نورة قد قُتِلَتْ أو انتحرتْ. لقد "كان الجَسَد المدلّى ينوس بجوار سِلك "لمبة" الكهرباء التي علّقها حمدان قبل يومين على أغصان السّدرة".(4) وكأن نور العصر، الكهربائيّ- هذا النور المرتبط بالأجنبيّ، أو بعميل الأجنبيّ، المتمثّل في شخصيّة حمدان- قد قَتَل نور الآباء اللازورديّ، المتجسّد في نورة.
وبعد حَمْل نورة إلى مثواها الأخير، أو قصرها الأخير كما سمّاه الكاتب، وبعد حسْم الخلاف حول مكان دفنها، وإتمام مراسيم ذلك- بما أحاط به الجميع من حزنٍ قاتل- عاد سهلٌ إلى خيمته، مصطحبًا معه عُبيد الراعي. وقد وقع الخلاف في مقتل نورة، حتى إن ابن عيدان- كما نقلتْ عنه مريم- كان يهذي بأنه هو الذي قتلها، وكان الفقيه عمران يقول مثل ذلك، فيما حامت الشّبهات حول أبي عاصم. أمّا عريفة العبادل، فقد اتّهم أحد الغرباء، عُبيدًا الراعي أو سهلاً الجبليّ. على أن عريفة الينابيع قد رجّح أن تكون انتحرتْ. والكاتب من خلال هذا يوزّع تهمة مقتل نورة- بما ترمز إليه- بالتساوي على السُّلطات السياسيّة والدينيّة والثقافيّة، وفي آن؛ فكلّ هؤلاء شركاء في ما حدث لها. أمّا عُبيد الراعي- الذي يُفترض أنه الوحيد الذي يعلم الحقيقة لقربه منها- فقد ذهب إلى أنه إنما قتلها هو؛ لأنه لم يستطع إخراج أُمّ عَزَّة من قلبه. أي أنه قد قَتَل ما تعنيه نورة، من مؤثّل الماضي والحضارة والتاريخ والتراث، بطموحه الحُلميّ الذي ترمز إليه عَزَّة وأُمّها. وهذا التنازع على قلب عُبيد الراعي هو التنازع بين هذين البُعدين اللذين ترمز إليهما شخصيّتا نورة وأُمّ عَزَّة، من حضارة وانتماء. وما رحيل نورة منتحرة إلاّ لذاك، إلى جانب شعورها بالخطيئة بعد أنْ أصبحتْ وعاء لذّة حسّيّة لا قيمة روحيّة. ولنا أن نعود إلى تلك الجدليّة بينها وبين مريم، إذ كانت ترفع صوتها- مخاطبة مريم بحِدّة:

"لا.. أنا لا أربط هذه بتلك. ليس للّذّة ما يربطها في ذهني بالإنجاب لأنه يمكن أن يحدث بأيّ شكل عابر. أنا أعيش الحالة لذاتي، لروحي، لبهجة الخَدَر الرهيف دون السقوط في ابتذال النهايات. أنا حرارة دائمة وأعزو إلى ذلك سِرّ متعتي اليوميّة وبهجة روحي المملوءة(5) بالحياة كما هي بحلوها ومُرّها، بعذبها وسقمها."(6)

وقد حَمل سهلٌ بقايا نورة وتراثها إلى خيمته. مشيرًا إلى دلالة التراث بما ذكره من لُقى عَثَر عليها عُبيد في كوخ نورة، متمثّلة- كما قال- في "حساب المقهى وما دوّنتْه من بقايا ذكرياتها القديمة بأبجديّة لا أعرفها. كان الضوء الأزرق الذي ينسلّ من خرزتها يشي برائحة نومها وخَفْقة يديها اللتين لا تتعبان من التأمّل. فحملنا الأوراق والملابس وكِسَر الجرار وصعدنا إلى الخيمة النائية." (7)
وإذ خرج سهلٌ وعُبيدٌ من الحزن، "مثلما يخرج الثّعبان من جِلده كُلّ شِتاء"(8)، صعدتْ إليهما أُمّ عَزَّة منبئةً بأنه قد تبيّن لابن عيدان أن نورة انتحرت لأسباب غير معروفة، مردفةً بأنها وُجِدَت عذراء حين غَسْلها.
وفي صباح اليوم التالي، وبعد أن اغتسل الجمع من أهل الوادي في النبع البارد الذي اغتسلتْ فيه نورة قبل أن تنتحر، أخبرهم ابن عيدان بموافقته على مشروع الجمعيّات التعاونيّة الذي ظلّوا يفاوضونه في الموافقة عليه، وبناء السدّ حيث تشير إلى موقعه عَزَّة حين عودتها. غير أن أهالي القُرى قد اختصموا في الأمر، واعتزل عريفةُ العبادل (عطيّة) وعريفةُ الينابيع (أبو محماس) هذا المشروع، بل اعتزلا الجُمعة والجماعة. فيما ساند جابرٌ وأبو مريم (عريفةُ الرمليّة) ابنَ عيدان وشجّعاه على المضيّ في المشروع. وأوشك النزاع أن يُفضي إلى حربٍ أهليّة في الوادي. وهذا النزاع يشير به الكاتب إلى النزاع بين النظامين الرأسماليّ والاشتراكيّ، كما يتكشّف لاحقًا في النصّ.
وإذ استدعتْ زوجة حمدان سهلاً الجبليّ لزيارتها لأمر ما، اكتشف- ويا لهول ما اكتشف!- أن زوجة حمدان ما هي إلاّ مَن كانت زوجته هو، وأنها حُبلى من حمدان. وقد اعتذرتْ إليه بأنها تعلّقتْ بحمدان بعد أن يئست بعد رحلته إلى وادي الينابيع من عودته. ثم أعطته بعض كتبه التي كان خلّفها قبل الرحيل ومعها نصّ عَزَّة، إلاّ أن حروف النصّ كانت قد اختلطت بالماء، وغادرت عَزَّة النصّ إلى مكان مجهول. وهكذا فقد استولى حمدان- الذي يمثّل، كما يشي النصّ، شخصيّة الغازي الأجنبي أو العميل- على زوجة سهلٍ نفسها، مثلما كان قد استولى على عَزَّة من قبل، مغريًا إيّاهما بما لم تجداه مع سهلٍ، الذي غرّبته عنهما نصوصٌ كثيرة ومغارات عديدة. بل كأن (عَزَّة) ما هي في جانب من رمزيّة النص إلاّ زوجة سهل، وما هي إذن إلاّ عِرضه وقد انتُهك، وعِزّته وقد ضاعت، وكرامته وقد أُهينت. وبذا تسقط كبرياؤه، وينهزم في نفسه وأهل بيته، ولا يتبقّى له من ماضيه سوى الآثار والذكريات وبقايا الكتب.(9) وقد أنجبتْ زوجة سهلٍ (=سابقًا) من حمدان طفلاً، اتّخذ له اسم (راشد).
وهكذا انقسم الوادي على نفسه بين نظامين: نظام ابن عيدان، الذي تبنّى أخيرًا الاشتراكية، ونظام حمدان الرأسماليّ. فقد استقطب حمدان في أطراف الوادي عُبيدًا الراعي وأُمّ عَزَّة(10) لتأسيس المقهى الجديد. كما وسّع حقوله الزراعيّة، وأنشأ مؤسّسة حمدان للمقاولات، وأسّس شركته الزراعيّة الجديدة، وعلى مقربة من هناك قامت خيمتان من الوَبَر لأبي محماس وعطيّة، يعرضان فيهما بضائعهما.
وبذا تتشكل الشبكة الرمزيّة في "الغية الرصاصيّة"، في لغتها الشاعريّة وبنيانها الذي توخّى الكاتب فيه ضخّ مضامين فكريّة شتى من خلال ما نسمّيه: "قصيدة-رواية"، لا "رواية"، بمعناها التقليدي.


aalfaify@yahoo.com
http://alfaify.cjb.net
ــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: (1998)، الغيمة الرصاصيّة، (بيروت: دار الكنوز الأدبيّة)، 217.
(2) م.ن، 241. وفيه: "أتكون... وجوه".
(3) م.ن، 220.
(4) م.ن، 221.
(5) في الأصل: "المملؤة".
(6) م.ن، 194.
(7) م.ن، 223.
(8) م.ن.
(9) انظر: م.ن، 226.
(10) يُلحظ هنا، (ص227)، أن الكاتب سها فأشار إلى (عُبيد وأُمّ نورة)، والصواب: (أُمّ عَزَّة). (انظر: ص230).


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ملحق "الأربعاء"، صحيفة "المدينة "- السعوديّة، الأربعاء 21 شعبان 1430هـ= 12 أغسطس 2009م، ص6.




شكراً لزيارتك هذه الصفحة!

جميع الحقوق محفوظة ©