كانت من بشارات التغيّر الأوسع المرتقب في وادي الينابيع من ماضيه إلى مستقبله- كما صوّر الشاعر علي الدميني في سرديّته "الغيمة الرصاصيّة"- أن تزوّجت أُمّ عَزَّة عُبيدًا الراعي(1)، مُؤْذِنَةً بانقضاء عصرٍ وبداية عصر. انقضاء عصر نورة والماضي والتاريخ، وبداية عصر التزاوج بين كُلّ القُرَى، كما طالبتْ بذلك أُمّ عَزَّة وزوجة حمدان في المظاهرة النسويّة التي قادتاها أمام قلعة ابن عيدان.
وها هو ذا جابر- الشخصيّة البراجماتيّة- منهمكٌ في التغيير:
"تغيير ضمائر المِلكيّة وحذف حرف (الياء) من الأبجديّة... كان يحلم بمفتاح سِحريّ يبدّل (ياء) المِلكيّة إلى (نا) الجماعة، وتساءل: ماذا سيحدث لو أنّا حذفنا حرف الياء من اللغة؟ ألا نستطيع أن نقول: هذه القُرَى لنا، وهذه الأرض أرضنا، والهواء هواءنا، والماء ماءنا، والمزارع تخصّنا معًا، فردّدت الجبال والشِّعاب العميقة صدَى صوته، وصاح عطيّة: هذه أرضي ومائي ومزرعتي لي وحدي، ووالله إنّه لأسهل عليّ أن أخلع رقبتي من أن أخلع مِلكيّة الطِّين والشجَر والزمن من قلبي."(2)
في تعبيرٍ عن هذا الفِكر الاشتراكي الجديد الذي كان جابر رائده في وادي الينابيع. لكن (ياء المِلكيّة) كان مصيرها إلى مِلكيّة ابن عيدان، وهو ما اصطدم فيه مع جابر، الذي أفهمه أن مِلكيّة المواشي هي لجمعيّة المواشي، ولا بُدّ من دفع ثمنها من بيت المال.
وإذ يَلحظ جابر أن عطيّة وأبا محماس يسرقان أغنام الجمعيّة لضمّها إلى قُطعانهما، تتأكّد لديه ضرورة إقامة السدّ أو السّور لحماية نظام الوادي الجديد، هذا إلى جانب وجود الحُرّاس؛ "فالحَقّ لا يحميه الحَقّ ولكن تحميه القوّة"، كما قال(3).
وهذا النظام الاشتراكي في وادي الينابيع هو ذلك الحُلم الذي صوّره الكاتب واقعيًّا من خلال حكاية التنظيم الذي بسببه اعتُقل بطل النصّ سهل الجبليّ، قبل أن ينتقل بالسّرد من واقعيّة الحكاية إلى مجازيّتها؛ كي يقول رمزيًّا ما لم يستطع قوله واقعيًّا.
وهكذا فبغياب نورة- تلك الشخصيّة الرامزة إلى نور الماضي الحضاري- تصدّع القوم؛ وبغياب قنديلها ورؤيتها غاب الطريق القويم أمام أهل الوادي، فتفرّقت بهم السُّبل. نورة التي لم تكن مع جابر وحزبه في مشروع الجمعيّات التعاونيّة، فيما وقفتْ مع حمدان في شأن المدرسة الليليّة في وادي الينابيع. إذ لم تكُ نورة ذات فِكرٍ اشتراكيّ، وحديثها عن الحُريّة ورفض تملّك عُبيد إيّاها (زوجةً) لا يُرادف رفض التملّك، بمعنى رفضه الاشتراكيّ، كما قد يتبادر من حوارها مع عُبيد، بل على عكس ذلك، من حيث إن مفهوم الحُريّة لديها هو بمعنى الفردانيّة والاستقلال والطهوريّة، ولذا انتحرتْ لمّا شعرتْ أن حرّيتها قد انتُهكت بما وَقَعَ من عُبيد معها من ملامسة، كما تروي "الغيمة الرصاصيّة".
ولقد أغرَى حمدان- الذي يمثّل البُعد الثقافي الغربيّ في الوادي- عُبيدًا وأُمّ عَزَّة بإقامة مقهاهما بجوار منزله، كما أقام أبو محماس وعطيّة(4) خيامهما بجوار السوق الحُرّة، قائلاً لهما حمدان: إن ذلك سيكون فيه أَضعاف دخلهما بجوار التعاونيّات.(5) وبذا يُمسي الوادي أمام تجربتين: تجربة جابر في التعاونيّات، وتجربة حمدان في السوق الحُرّة؛ حيث نشأت قريته المضاءة بالكهرباء، وصدحتْ في جوانب مقهاها أغاني "بكب" حمدان، وبرامج إذاعات الراديو. وكان قد اجتمع هنالك في القرية المسماة باسم ابنه راشد بن حمدان: أبو عاصم، وأبو معصوم، ومسعود، وعُبيد، وأُمّ عَزَّة. وقد أُنشئت المدرسة، وأُسّست شركة للمقاولات، وأُخرى زراعيّة. وبَدَت تجربة القرية الحمدانيّة تلك مختلفة عن تجربة الوادي، بل خارجة عليها- كما عبّر جابرٌ مخاطبًا حمدانًا(6)- ومن مظاهر خروجها ما منحته من الحُرّيّة لأمثال الشاعر عُبيد الراعي، الذي استطاع من خلال نظامها أن يتزوّج بأُمّ عَزَّة، وذلك ما كان مُحالاً من قبل لما بينهما من عدم تكافؤ.
وإزاء حزن سهلٍ لِما حلّ به، ولفقده زوجته التي استولى عليها حمدان، قرّر مغادرة الوادي، مصطحبًا معه بقايا كُرّاس نصّ عَزَّة (الحُلم)، والأوراق الجلديّة في كيس نورة، ومضى يقطع الوادي. لكنه يواجه مريم، ويكتشف أنها حُبلى، ليست تدري ممّن؟ ربما من مبروك، أو سعيدان، أو جابر، ولكنّ أبا جنينها فيه شَبَه كبير من سهل الجبليّ.(7)
وها القارئ على مشارف ولادة النصّ، ومع هذا فمريم ما زالت عذراء. "ربما كان حملاً كاذبًا، أو شبيهًا بقِصّة عَزَّة"(8)، كما قال سهل. إنها ولادة أشبه بمعجزة، ومع ذلك فقد فكّرت مريم بإلحاق ابنها بنَسب سهل الجبليّ. وقد خضع سهلٌ لرغبة مريم، فعاد إلى صومعته، كما يسميها، مشيرًا بها إلى خيمته الحَجَريّة التي ابتناها واعتزل الناس. وحَمْل مريم إنما هو حَمْل حُلميّ، بطبيعة الحال، وبشارة بولادة رمزيّة.
ولمّا رأى سهلٌ أن مغامرة الرواية قد اكتملت، قرّر التخلّص من كُرّاس قِصّة عَزَّة، فقذف به في النار، ونَثَرَ رماد النصّ، ونام. ليصحو مساءً على مشهدٍ سورياليّ؛ تحوّل النصّ فيه إلى غيمة تحجبه عن الوادي، لا يستطيع الهبوط من فوقها ولا يستطيع أهالي الوادي الصعود إليه. إنها غيمة الحُلم وقد باتت تفصله عن الواقع.(9) فما كان أمامه إلاّ أن يُراقب الواقع من على غيمته الرّصاصيّة النّصّيّة، عاجزًا عن فِعل شيء. لكنه يوقظه ذات فجرٍ أذانُ عُبيد الراعي على صوت مسعود الهمداني وهو يحتثّ زوجاته لإخراج قطيع الأغنام- بما في ذلك أغنام البنك الخاصّة بسهل الجبليّ، التي كانت سداد قرض من سهل اقترضه في بداية الحكاية- من الوادي إلى الصحراء واللحاق بعطيّة وأبي محماس، فرارًا قبل أن تأخذ القطيعَ جمعيّةُ المواشي. ثم سمع زوجة حمدان- التي كانت زوجة سهل نفسه سابقًا، (أُمّ راشد)- في مخاض ولادة جديدة. ملخّصًا مأساته بقوله:
"ضاع برنامج التنظيم، ودفعتُ الثمن من عمري في الزنزانة الانفراديّة، وحين قرّرتُ أن أكتب قِصّة عَزَّة لأصوغ شخصيّاتها وأحداثها حسب إرادتي، اختطفني أبطال النصّ وأودعوني المغارات، وها هو مسعود يسرق قطيع الغنم لتكتمل إدانة البنك لي، وسأكون مُدانًا بتهمة(10) تبديد أمواله أو تهمة الاختلاس. وهذه المرأة الصحراويّة، التي تعرف أنه لم يعد لي في هذا الوادي سوى انتظار طلاقها من حمدان ورحيلنا من هنا، ما فتئت تحمل بالواحد والاثنين معًا." (11)
بل لقد شهد من موقعه فوق الغمامة نعيًا، ظنّه لابن عيدان شيخ الوادي، ليفاجأ أنه نعيه هو شخصيًّا، أي نعي سهل الجبلي، ثم شهد الصلاة عليه ودفنه، ولم يُجْدِ صياحه بأنه لم يمت بعد. (12) لقد مات المؤلّف سهل الجبليّ، منغمسًا في الغياب، مستحضرًا- كنهج كُتّاب (القصيدة-الرواية)- الشِّعرَ، أسلوبًا، أو اقتباسًا من خلال قطعة من شِعر المقالح. (13)
وإذ تنتهي قِصّة عَزَّة إلى ما انتهت إليه، وينتهي سهل الجبليّ إلى الموت، ويُحلّق الحُلم (عَزَّةً) أو غيمةً رصاصيّة في السماء، ويذهب الماضي (نورةً) بمجده تحت التراب، ها هو ذا الراوي يفتح بابًا جديدًا هو الباب الأخير، قبل باب "بدء الرواية"، بعنوان: "الأبواب، 2- الرواي". ليعود إلى ما هو أشبه بواقعيّة السّرد، مسمّيًا الأشياء بأسمائها، حتى إنه ليشير إلى اسمه الحقيقيّ: (عليّ). وفي هذا الباب يستكمل ما كان سَرَدَه في "وهج الذاكرة، 3- الراوي"، و"عتمة المصابيح، 3- الراوي".
وذلك هو المصطرع الثقافي والحضاري، كما خاض الكاتب غماره من خلال "أطراف سيرة سهل الجبلي" الرمزيّة.
aalfaify@yahoo.com
http://alfaify.cjb.net
ــــــــــــــــــــــــــ
(1) يُلحظ هنا، أن الكاتب سها فأشار إلى (زواج عُبيد وأُمّ مريم)، والصواب: (زواج عُبيد وأُمّ عَزَّة). (انظر: (1998)، الغيمة الرصاصيّة، (بيروت: دار الكنوز الأدبيّة)، 227)).
(2) م.ن، 228- 229.
(3) م.ن، 228.
(4) ذَكَرَ الكاتب هنا، (ص230)، أبا محماس و(عيضة)، مع أنه قد ذكر من قَبْل أن رفيق أبي محماس هو (عطيّة) لا عيضة، (انظر: ص226).
(5) انظر: م.ن، 230.
(6) انظر: م.ن، 231.
(7) انظر: م.ن، 234.
(8) م.ن.
(9) انظر: م.ن، 235.
(10) في الأصل: "وسأكون م بتهمة".
(11) الغيمة الرصاصيّة، 237.
(12) انظر: م.ن، 237- 238.
(13) انظر: م.ن، 238.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ملحق "الأربعاء"، صحيفة "المدينة "- السعوديّة، الأربعاء 28 شعبان 1430هـ= 19 أغسطس 2009م، ص6.
|