الغيمة الكتابيّة-22 :3.دراسات: إضبارة د.عبدالله الفـَيفي http://www.alfaify.cjb.net

الغيمة الكتابيّة
استعادة كلكامش من عالمه السفلي!
( قراءة في تماهي الشعريّ بالسرديّ في الرواية السعوديّة )
بقلم: الدكتور عبدالله بن أحمد الفَيفي

[ الحلقة الثانية والعشرون ]

في الباب الأخير من نصّ "الغيمة الرصاصية" للشاعر علي الدميني، بعنوان: "الأبواب، 2- الرواي"، يحكي الكاتب أن الراوي (عليّ) ذَهَب إلى مخيّم الأصدقاء، باتجاه الطريق السريع بين الدمّام والعاصمة، حتى وقف على الكثيب الذي وقف عليه خالد، وأسرج قنديل الجرّة المكسورة، ووضع الخرزة الزرقاء إلى جوارها، وسَكَب قليلاً من الزيت المشتعل على ما أوصاه الرجل المسنّ بجَمْعِهِ من أشياء(1) لطقس استحضار سهلٍ الجبليّ، مستعينًا، كما قال، "بإيقونة خطّها صائغ نشيد أوروك"(2)، في إشارةٍ إلى ملحمة (كَلكَامش)، الذي ظلّ يبحث عن عشبة الحياة. (3) لتظهر للراوي نورة صارخة: "كفَى، يا عليّ". ثم حدّثتْه عن أمرين: أوّلهما، "أساطير الجدّات، وانكسار تاج الأحلام في مسيرته الحُلميّة الطويلة"، وثانيهما، "أجزاء من حياتها، وخفايا من قصّة صفوان، لا تستطيع تدوينها".(4) ما يدلّ على الترابط بين هاتين الفكرتين في ذهن الكاتب، وأن نورة تعبّر عن هذا الامتداد بين مجد الماضي وحُلم المستقبل، ذلك الحُلم المرتبط بنظريّة التغيير الاقتصاديّ والاجتماعيّ التي كان يقودها صفوان، أحد أبطال النصّ الذي يمثّل منظّر التغيير والتفكير والرأي في وادي الينابيع.
كما ظهرتْ له هنالك عَزَّة، قال: "حتى بَلَغَتْ بكَ عتبات سهل الجبليّ، وعلاقته بنورة ومريم والوادي، فاختلطتْ التفاصيل... حتى أبصرتَ شبحًا لمريم يخفق بصوتٍ مجروحٍ من بعيد، فلَمَعَ في ذهنك، في لحظة خاطفة، سؤال يباغتك لأوّل مرة: أتكون النساء الثلاث وجوهًا متعدّدة لوجه عَزَّة؟"(5) نعم، إن الكاتب يقدّم إلى قارئه هاهنا مفتاحًا لرمزيّة تلك الأسماء الثلاثة الواردة في نصّه، (عَزَّة- نورة- مريم)، وأنها وجوه ثلاثة لعُملة واحدة، بيد أن عَزَّة هي صورة الماضي، ومريم صورة المستقبل، ونورة الواشجة بينهما. ولقد غابت عَزَّة إلى غير رجعة، وانتحرت نورة في ظرفٍ غامض، ولكن مريم- بالرغم من صوتها الجريح- لم تزل حبلى بمستقبل.
وبغتة يستيقظ الراوي من حُلم طقسه هذا على أضواء سيارة الدوريّة العسكريّة وهي تقترب منه. وكان الضابط أجنبيًّا، ولا بُدّ أن يكون كذلك؛ فما يسعى إليه الراوي هو انبعاث لنور حضارة، يمثّل تهديدًا أمنيًّا للضابط الأجنبيّ. إلاّ أن الضابط، بعد أن تُرجمت له أوراق الراوي، لم يكتشف فيها سوى نوعٍ من تعاطي السِّحر، كان مثار ضَحِكِهِ لا خوفه(6). وهذا جدير أن يُذهب روع الراوي من اكتشاف ما وراء النصّ من نصوص، وما وراء مسوّدات الكتابة من بياض تأسيس.
ولمّا أطلق الضابط سراح الراوي وأعاده أحد مساعديه إلى مكانه، حذّره المساعد من الاقتراب من الشبك المشبوه هناك. وقد أدرك- كما قال- السبب، فجمع أوراقه وأطلق لَعناته على قائمة من الملعونين، كان على رأسهم: (صدّام حسين)، و(شوارتزكوف) (7). فثنائيّة المستبدّ العربي والمستبدّ الأجنبي هي الشَّبك الذي لا ينبغي الاقتراب منه؛ فما قام إلاّ ليَحُوْل دون شُبهة استحضار الغائب المنشود، حتى ليصبح ذلك الاستحضار ضربًا من طقوس تحضير الأرواح، أو إنكاح الثُّريّا سهيلاً، "عمركَ الله كيف يلتقيان؟!"
وقد أعاد الراوي الكَرَّة مستخدمًا قنديله وخرزته، وقراءة ما يعرف، لكن الأصوات الثلاثة لم تزره، وإنْ أصبح لسانه بالقراءة طليقًا لا يتلعثم، ولكن دون جدوى. فأوجس في نفسه خيفة أن تكون صواحب تلك الأصوات قد هربن منه إلى الأبد. لكنه علّل نفسه بأحد أمرين: إمّا أن الدوريّة أفزعتهنّ، وذلك أمرٌ مؤقّت، أو أنهنّ يرين أن ما بُحن به كان كافيًا. إن معوّقات القراءة وتحقّق الدلالة- كما يريد الكاتب أن يقول- هي، من جانب، لاحتباس ظرفيّ بسبب عامل خارجي، (الدوريّة)، ومن جانب آخر، فإنه ليس من المنتظر أن يكون دور النصّ تلقينيًّا، وإنما على القارئ أن يستنبط من إشاراته ما يكفيه للمعرفة. وهنا يُدرك القارئ أن الكاتب لا يستخدم بعض التعبيرات الشاعريّة توخّيًا لجماليّة التعبير وبلاغيّة التصوير، ولكنه يومئ باستعاراته إلى معاني أبعد من مجرّد الأهداف الأسلوبيّة. يتبدّى ذلك على سبيل المثال من قوله في هذا السياق: "نظرتَ إلى ما تجمّع لك من خيوط الكلمات، وجذوع الجُمل، وهياكل الأحداث، فبدأتَ في ترتيب الفصول...". فما تجمّع لدى الراوي من عناصر النصّ ينبغي أن يكون شاملاً للحياة، بجمادها، ونباتها، وحيوانها. وهو، وإن كان جزئيًّا كخيوط، إلاّ أنه مادّة أساسيّة لنسيج كامل. وهو جذوع، لكنه حريّ بأن يكون جذوع نخلٍ، تساقط رُطبًا جنيًّا. وهو هياكل، لكنها بنْياتٌ أساسيّة لجسد كامل.
وفي حكاية الراوي حول سهل الجبليّ ما يشير إلى خصائص المرموز إليه (سهل الجبليّ)، فهو- كما قال- يظنّه في مكان قريب. وقد أعلن في الجرائد داعيًا إيّاه للاتّصال به، وهذا ما حدَثَ بالفِعل، إذ اتّصَلَ به شخصٌ ذَكَر أنه سهل الجبليّ. أي أن المرموز إليه بسهل ما زال حيًّا، بالرغم من إشاعة موته في وادي الينابيع، وما زال متابعًا، ويقرأ الجرائد. وما زال معاصرًا، ويتّصل حين يقرأ إعلانًا باستدعائه، ومع هذا فهو- كما وصف صوته الراوي- ذو جَلَبَةٍ صخريّة، وفي حديثه بلاغة تراثيّة. يقول: "أنا سهل الجبليّ... وقد اتّصلتُ بك لأُبلغك وأصدقاءك فقط أنني هنا."(8) إنه هنا، ولكن أين؟ لا يَذْكُر شيئًا. وهو يريد أن يُبْلِغَ الرسالة إلى الراوي وأصدقائه "فقط"، ممّن ينتظرونه. إنه الماضي والراهن، والقريب والبعيد، والحاضر والغائب، والتراثي والمعاصر. وحين يطلب إليه الراوي أن يراه، يردّ قائلاً:

"مثلي لا يزور ولا يُزار.. حلُمتُ حتى اخضلّ حُلمي في المياه، ومطالع النجوم، ومنابت الأشجار.. ومثلما تتيبّس زهرة الربيع في سوابق الصيف، جفّ النبع، وتاهت أقدامي في شواظ الزمن وغلَس الأسحار.
قلتُ له: أرجوك أن تسمح لنا برؤيتك؛ لأننا أوّلنا نصّ عَزَّة، وملأنا بياضه المحجوب باجتهادنا فيه، ونريد أن نصحّح أخطاءنا قبل نشره، فأجابك بهدوءٍ قاتل: دعوني أتسلّى بتأويلاتكم المفعمة بالشطح والاختلال لأتجرّع ما بقي في عمري من أيّام."

أما وقد بقيتْ من عمره أيّام، إذن- ولم تذهب جميعها، وإنما تيبّست زهرة أحلامها الربيعيّة- فإنها قابلة للإزهار في ربيع آخر.
ولقد صار الناصّ (سهل) كالنصّ (عَزَّة)، لا يمتهن الشرح والتلقين، ولكنه يترك حرّيّة القراءة والتأويل لأصدقاء النصّ، مهما شَطَحوا أو اختلّوا. سهل الجبليّ، الذي خاض مغامراته من أجل نصّ عَزَّة كما صوره الكاتب، كان قد توصّل إلى بعض النتائج والإنجازات، فتحوّل نصّه إلى غمامة رصاصيّة تحجبه عن الواقع، وتَحُوْل بينه وبينه، حتى أُشيع موته. وربما كان موت المؤلّف ضروريًّا لقراءة النصّ وتأويله، بحسب نظرية (رولان بارث)(9)، وعلى القارئ عند ذلك أن يقرأ النص بنفسه، وأن يُأَوِّل إشاراته دون حاجة إلى الاستعانة بالمؤلّف. هذه النظريّة النصوصيّة في علاقة المؤلّف بالنصّ من جهة، وعلاقتهما بالقارئ من جهة أخرى(10)، يوظّفها الكاتب للتعبير عن التجربة الإنسانيّة والحضاريّة، التي ما هي إلاّ نصّ ألّفه أعداد لا تُحصى من سهل الجبليّ، وغابوا خلف غمام نصوصهم، ولا سبيل إلى إضاءة تلك النصوص، واستنبات ربيعها، واستثمار حقولها، إلاّ بالبدء في كتابة الرواية- كما قال الكاتب عن نفسه- بعد موقف سهلٍ من طلبه: "لم تعُد تنتظر شيئًا، فقررتَ البدء في كتابة الرواية"(11). ليس هناك إذن ما يسوّغ الانتظار، أو تأخير القرار، بل لا بُدّ من البدء في كتابة الرواية. وكتابة الرواية لا تتأتّى إلاّ بإعادة القراءة. وهذا ما كان بالفعل، فقد بدأ الكاتب في كتابة الرواية من آخرها، وجعل عنوانًا جديدًا، هو "الأبواب، 3- سهل الجبليّ"، وكأن هذا العنوان هو عنوان الرواية التي قرّر البدء بكتابتها؛ إذ لا يأتي بعد صفحة هذا العنوان شيءٌ إلا الموضوع الذي ختم به النصّ، وهو تحت عنوان "في البدء".
فليكن البدء من حيث المنتهى، ولتكن (الكتابة الصفر) سبيل العودة والنجاة.

aalfaify@yahoo.com
http://alfaify.cjb.net
ــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: (1998)، الغيمة الرصاصيّة، (بيروت: دار الكنوز الأدبيّة)، 78، 162.
(2) م.ن، 240.
(3) انظر مثلاً: الأحمد، سامي سعيد، (1984)، ملحمة كَلكَامش، (بيروت: دار الجيل؛ بغداد: دار التربية).
(4) الغيمة الرصاصيّة، م.ن.
(5) م.ن، 240- 241.
(6) م.ن، 241.
(7) الجنرال الأميركيّ المعروف في حرب تحرير الكويت.
(8) م.ن، 242.
(9) إشارة إلى كتابه المشهور "الكتابة بدرجة الصفر"، S/Z.
(10) حول السِّيْمَوِيَّة اللغويّة- بصفة جوهريّة- والقول بعلاقات إشاراتها الاعتباطيّة بموضوعاتها العينيّة، التواطئيّة بمتصوّراتها الذهنيّة، يمكن الرجوع إلى:
Barthes, Roland, (March, 1977), Elements of Semiology, Translated from French Language by: Annette Lavers and Colin Smith, (New York), p.50- 51; Scholes, Robert, (1982), Semiotics and Interpretation, (New Haven: Yale University Press), p.23- 24
وكذا: شولز، روبرت، (1984)، البنيويّة في الأدب، ترجمة: حنّا عبود (دمشق: اتّحاد الكتّاب العرب)، 27- 28.
(11) الغيمة الرصاصيّة، م.ن.



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ملحق "الأربعاء"، صحيفة "المدينة "- السعوديّة، الأربعاء 5 رمضان 1430هـ= 26 أغسطس 2009م، ص6.




شكراً لزيارتك هذه الصفحة!

جميع الحقوق محفوظة ©