إن هناك فرقاً بين صدق القضية العلمية وصدق التعبير الشعري، بما أن صدق القضية العلمية يتأتّى عن طريق التحقيق المخبري، على حين أن الصدق الشعري ينبني على قبولنا التعبير قبولاً عاطفياً لتوافقه مع موقف عاطفيّ معيّن، ومن هناك قبول الموقف العاطفيّ نفسه الذي تضمنه التعبير الشعري. ذلك ما انتهى إليه المساق السابق. ولكن ما شأن تلك القضايا المهمة التي يبدو الشعر دائماً كأنه يقررها؟
سؤال يستعيد جدلية أرسطو مع أفلاطون. حيث كان يرى الأول أن ليس سبيل المعرفة بسبيل العقل وحده، فمحاكاة الفنّ عموماً هي محاكاة للقيم الجوهرية في الأشياء لا للأشياء ذاتها، لإكمالها وجلاء أغراضها والاعتبار بها، ولذلك فهي أعظم من الحقيقة ومن الواقع.
وبهذا يصبح الشعر فوق الفلسفة والتاريخ منزلة، لأنه يتعمّق من المعاني ويبصر من الدلالات ما لا يتعمّقان ولا يبصران. (عن «طبيعة الأدب»، ينظر مثلاً: رينيه ويليك وأوستن وارين، نظرية الأدب، الفصل الثاني، أو ديتشس، مناهج النقد الادبي، الباب الأول). إلا أن كيفية جريان ذلك ما تزال مكتنفة بالأسرار التي تتأبّى على البرهنة العلمية.
لأجل هذا فإن الأديب عموماً والشاعر خصوصاً الذي هو فنان قبل كل شيء يستحيل عليه تصوّر انضواء الأدب تحت أي شعار فكريّ أو حزبيّ، إلا إن كان قد بلغ من التماهي مع ذلك الشعار مبلغّا يمكّنه من عرض الحقيقة عرضاً صادقاً إلى أقصى حدّ، فنحن كما يقول (ستيفن سبندر، الحياة والشاعر) يمكننا أن نستخلص نتائج سياسية ثورية من مجرد اطلاعنا على الحياة التي وصفها كل من تولستوي وتورجينيف وهنري جيمز في رواياتهم، دون أن نقول إن هؤلاء أنفسهم كانوا كتّاباً اشتراكيين.
ولذا تغيب العلاقة التطابقية المتينة بين النصّ الأدبي- الشعري بخاصة- والحقيقة الواقعية، الأمر الذي يستدعي الحذر الشديد من اتخاذ الشعر وثيقة، لأنه بمقدار ما يمكن أن يعكس الشعر وجه الحياة يمكن أن يعاكسه ويناقضه. وذلك جزء من طبيعة الشعر ووظيفته. فالحقيقة والصدق في الشعر ترجع إلى الكلمات لا إلى الوقائع في ذاتها. تلك الكلمات التي يدأب الشعراء بحثاً عن تراكيبها الجديدة المستكنهة لشروط الحياة وطبائع الإنسان، من حيث إن أسئلة الشعر، غير المحدودة، تختلف في ماهيتها وعمقها عن أسئلة العلم والسياسة. إنها أسئلة الكاشف عن معنى الحياة: بين الإنسانية ومنجزاتها، الكامن خلف الأشياء والأحياء.
ومن هنا فما يهمّ في الشعر ليست الأشياء أو الأحياء في ذاتها بل الأشياء والأحياء معبّراً عنها من خلال اللغة الشعرية.
أما الشاعر الحزبيّ، فمهما كانت عليه رؤيته من قيم مثالية يَطْرَبُ لها بعضنا، دينيّاً أو فكريّاً لا شعريّاً، فإنه يحبس نفسه عن الحياة ويزيّفها حين يعجز عن فهمها في تنوّعها، بخيرها وشرّها.
وعليه يُستنتج أن الشعر يفسد بوضعه في خدمة غيره من المبادىء والأفكار، لأن الشاعر يفقد حريته التي لا يستطيع من دونها الوصول إلى الحقيقة، تلك الحقيقة الخالصة من المصالح والتحيّزات التي تشوّه الوجود من أجل مآربها. إن على الشاعر أن يملك الشجاعة الكافية للمحافظة على وجوده الذاتي بوصفه شاعراً بأن يكون صادقاً مع نفسه مخلصاً لطبيعته، وأن يكتب عمّا يهمه بقطع النظر عن أي شيء آخر، مستملياً ذوقه من الحياة والتجارب، وحدهما. (للاستزادة: يمكن القارىء أن يطالع: "تودوروف، الشِّعْرية"، أو: "جان كوهن، بنية اللغة الشِّعْرية").