الغيمة الكتابيّة-24 :3.دراسات: إضبارة د.عبدالله الفـَيفي http://www.alfaify.cjb.net

الغيمة الكتابيّة
عودة النصوص إلى نصوصها!
( قراءة في تماهي الشعريّ بالسرديّ في الرواية السعوديّة )
بقلم: الدكتور عبدالله بن أحمد الفَيفي

[ الحلقة الرابعة والعشرون ]

على الرغم من تحوّل النصّ- كما تصوّره نهايات سرديّة "الغيمة الرصاصيّة" لعلي الدميني- إلى مشهدٍ حيّ أمام عينَي بطل النص سهل الجبليّ، فقد ظلّ محتملاً فوق ظهره كيس نُوْرَة، الذي يحمل آثارها، ويتقرّأ بأمّ عينيه أطلالها وأطلال تاريخها. يحمل النصّ المخطوط ويشاهد تحقّقه على أرض الواقع. إنه لا يتخلّى عن تراثه لإيمانه بقيمته، لا كذكرَى ولكن كبذار فيها ما يصلح لاستزراع الوادي، وادي الينابيع، وإعادة كتابته من جديد.
ثم ينتقل الكاتب إلى مشهدٍ آخر، ليُعبّر من خلاله عن ولادة الفجر الجديد. إذ وصل في طريقه وهو يتابع ما يحدث إلى قرية الرمليّة، ليجد "مريم جالسة تحت ظِلّ السّدرة، وكان يقف إلى يمينها منصور وإلى يسارها سعيدان... وكان على وجهها يغطّ في تعبٍ عميق، وجع امرأة تتهيّأ لطلق الولادة".(1) ها هي تي مريم، إذن، تحت ظلّ "سدرة المنتهى"، منتهى التجربة وحصيلتها. على يمينها ويسارها منصور وسعيدان، اللذان مثّلا في النصّ شخصيّتي ثوريّين لا تحجبهما غيمات النصوص الرصاصيّة، كما يحدث لسهل؛ إذ كان سعيدان- على سبيل المثال- ينعت سهلاً: بالإصلاحيّ الواهم، والرجعيّ، الذي لم يخدم نفسه ولا غيره.(2) على حين كان منصور، بالرغم من كلّ شيء، يتحسّس "وميضًا واعدًا يلوّح من البُعد القصيّ."(3) فها هما ذان وقد حمدا سُراهما، وتضحياتهما، وجَنَيا ما كان يومض إليه الكاتب بسعيهما الواقعي، البعيد عن ترّهات الأوهام، إلى التطوير، لا إلى الإصلاح والترميم. وها هي تي مريم تُؤْذن بالولادة، ولكنها ولادة لا تتحقّق إلاّ بهزّ جذع النخلة لتساقط عليها رُطَبًا جَنِيّا. وهنا يتّضح لنا البُعد الرمزيّ وراء اسم مريم في النصّ، بما يحمله هذا الاسم من رمزيّة وتناصّ مع قصّة مريم عليها السلام في القرآن الكريم. وماذا يمكن أن تُنجب مريم، بعد هذا المخاض الطويل القاسي والحزين، سوى مسيحٍ مخلّص، وكلمةٍ تكونُ البدءَ، تُبرئ الأكمه والأبرص وتحيي الموتى، بإذن الله.(4)
ولقد يَصْدُق على الكاتب في توظيفه لتلك اللغة الشعريّة الرامزة ما قاله سعيدان لسهل الجبليّ: إن نصّه لا يخدم سوى أوهامه، كما يَصْدُق عليه ما حَدَث لسهلٍ من تحوّل نصّه إلى غمامةٍ تحجبه عن الواقع. ذلك أن نصّ "الغيمة الرصاصيّة" هو التجسّد الفعليّ، على المستوى الأدبيّ، لغيمة سهل الرصاصيّة، على المستوى الحكائيّ، من حيث ألزم الكاتب نفسه- وبحُكم تجربته الشعريّة- أن يكتب رواية في شكل نصّ شِعريّ. وهو ما جعلني أرى في مثل هذا النمط من الكتابة جنسًا أدبيًّا يختلف عن الشِّعر والسرد، اخترت أن أسمّيه: "قصيدة-رواية". ولا سبيل لتلقّي نصّ كهذا إلاّ باستعمالك الأدوات القرائيّة الشِّعريّة، مثلما تفعل لقراءة القصيدة، وبخاصّة الحديثة.
ولقد كان ذلك المعترك الذي حَدَث في وادي الينابيع فرصةً مواتية لحمدان، (الذي يمثل دور الغازي الرأسماليّ)، كي يهجم على الوادي بعُمّال شركته، قائلاً لهم: "ما زالت الجمعيّات تحتجز المياه في أعالي الوادي، وقد هدّد ذلك مزارعنا وشركتنا بالموت، وليس أمامنا إلاّ دخول الوادي لنحصل على حصّتنا من الماء، وقادهم باتجاه مدخل الوادي."(5) وبذا فإن الانقسام الداخليّ في وادي الينابيع والتناحر الأهلي الذي صوّره الكاتب قد مكّنا الغزو الخارجي- الذي كان عاملاً في حدوث ذلك الانقسام- من اهتبال فرصته لتحقيق مآربه المرتقبة.
ولقد حاول حمدان أيضًا استدراج الرعاة والحُرّاس والموالي إلى دخول المعركة وحَمْل السلاح معه، واعدًا إيّاهم بالتحرير بعد أن تضع المعركة أوزارها وينجلي غبارها. وكذا يفعل الغازي الأجنبي بالشعوب المغلوبة على أمرها، مستغلاًّ ضعفها وخيبة آمالها وما وقع عليها من ظلم حُكّامها. غير أن رجلاً مسنًّا من الرُّعاة والحُرّاس والموالي، يمثّل حكمة الشعوب، تصدّى لحمدان، قائلاً: "وماذا سنفعل بهذه الحُريّة، وقد قطعنا أعمارنا في هذا الوادي، وخرجنا منه كما ترى، لا أرض ولا أهل ولا قطعان."(6) كأن لسان حاله- بل لسان سهل الجبليّ من قبله- قول المتنبي(7):

بِمَ التَعَلُّلُ، لا أَهلٌ ، وَلا وَطَنُ، * * * وَلا نَديـمٌ، وَلا كَـأسٌ، وَلا سَكَـنُ؟
أُريدُ مِن زَمَني ذا أَن يُبَلِّغَنـي * * * ما لَيـسَ يَبلُغُهُ مِن نَفسِـهِ الزَمَـنُ
لا تَلقَ دَهرَكَ إِلاّ غَيرَ مُكتَـرِثٍ * * * ما دامَ يَصحَـبُ فيهِ روحَكَ البَدَنُ
فَما يَدومُ سُرورٌ ما سُرِرتَ بِهِ * * * وَلا يَرُدُّ عَلَيـكَ الفائـِتَ الحَـزَنُ
مِمّا أَضَرَّ بِأَهلِ العِشقِ أَنَّهُـمُ * * * هَوَوْا وَما عَرَفـوا الدُنـيا وَما فَطِنوا
تَفنى عُيونُهُمُ دَمعاً وَأَنفُسُهُـم * * * في إِثرِ كُلِّ قَبيـحٍ وَجـهُهُ حَسَــنُ
يا مَن نُعيتُ عَلى بُعدٍ بِمَجلِسِهِ * * * كُلٌّ بِما زَعَمَ الناعـونَ مُرتَهَـــنُ
كَم قَد قُتِلتُ وَكَم قَد مُتُّ عِندَكُمُ * * * ثُمَّ انْتَفَضتُ فَزالَ القَـبرُ وَالكَفَــنُ
قَد كانَ شاهَدَ دَفني قَبلَ قَولِهِمِ * * * جَماعَةٌ ثُمَّ ماتوا قَبلَ مَـن دَفَنــوا
ما كُلُّ ما يَتَمَنّى المَرءُ يُدرِكُـهُ * * * تَجري الرِياحُ بِما لا تَشتَهي السُفُنُ

لكأنّ أصداء نصّ المتنبي هذا، الذي يرسم معاناة المتنبي في زمنه، ومع أهل زمنه، هي الخلفيّة الذهنيّة والوجدانيّة التي تشكّلت على غرارها شخصيّة سهل الجبليّ في "الغيمة الرصاصيّة"، ومعاناته في زمنه، ومع أهل وادي الينابيع، حكّامًا ومحكومين، الناعين موته وهو حيّ، الشاهدين دفنه وهو شاهد فنائهم الأخير.
فأجاب حمدان الرجلَ المسنّ: "أراضيكم في سواعدكم، وستعملون في شركتي بأجور مجزية. ردّ عليه الرجل المسن: لن يُخدع الرعاة والحرّاس من نصٍّ مرتين! فافترَقوا عنه وغادَروا باتجاه الصحراء."(8)
هكذا أراد حمدان أن يحوّل هؤلاء المسحوقين إلى أُجراء لديه ومرتزقة، غير أن الحِكمة الإيمانيّة لم ترض أن تُلدغ من جحر مرتين: جحر داخليّ وآخر خارجيّ. تلك هي حِكمة الرجل المسنّ، ولكن آخرين لا بُدّ أن يدفعهم الأمل للاستجابة لمثل دعوة حمدان تلك.
وينطلق شبح سهل الجبليّ/ قَلَم الراوي، لاستقراء الأحداث وتمخّضاتها. إذ ترك مريم خلفه، تعالج ساعات طلقها العصيّة. وكان يشاهد الأحداث، إلاّ أنه دَهِشَ لأن المحاربين لا يأبهون لوجوده، وكأنهم لا يرونه؛ لأنه غير موجود، فقد مات في حسبانهم، وما أيقظه مجازًا سوى قَلَم الراوي، حين قرّر أن يبدأ في كتابة الراوية ليُريَ سهلاً مخاضات الأحداث ومآلات الأمور.
أهو ميّت؟ أم هو حيّ؟
هو ميت في اعتقاد أهل الوادي، لكنه حيّ في اعتقاد نفسه، متمسّك بالحياة.
يمرّ سهل، وهو في طريق رحيله عن تلك القرية الظالم أهلها، بقَبْره، الذي كان رأى من فوق غمامته الرصاصيّة أهل الوادي يدفنونه فيه. ليجد جسده هناك مسجّى، ويجد كيس أوراقه وكِسَر الجِرار الصغيرة. يجد جسده الآدمي وجسد تراثه معه. فلم يثنه ما حَدَث ويحدث، ولا ما يشاع عن فنائه وانتهاء شأنه، من أن يحتمل جثّته وكيس تراثه فوق ظهره، ويمضي.
وجاءت بضعةٌ من سهل، كانت زوجته قبل أن تصبح زوجةً لعدوّه حمدان، تستحثّه على الهرب حتى لا يقتلوه. فضمّ عنها آخر صورة لعلاقةٍ قديمة، وعُمْرٍ مضى وانقضى، بخيره وشرّه، وعينين لا تُمسكان في حدقتيهما سوى الليل، فما عاد بينه وبينها إلاّ كمصافحة بين كائنين بلا مستقبل.(9) فلقد خانت النصّ والناصّ مع الخائنين. وأنجبتْ أطفالاً كثيرين، من كل أشأم كأحمر عاد، كما تُنجب أنثى الحرب، بحسب معلّقة زهير بن أبي سُلمى(10):

وَما الحَربُ إِلاّ ما عَلِمتُم وَذُقتُمُ * * * وَما هُوَ عَنها بِالحَديثِ المُرَجَّمِ
مَتى تَبعَثوها تَبعَثوها ذَميمَـةً * * * وَتَضرَ إِذا ضَرَّيتُموهـا فَتَضرَمِ
فَتَعرُكُّمُ عَركَ الرَحى بِثِفالِهـا * * * وَتَلقَح كِشافاً ثُمَّ تَحمِـل فَتُتئِـمِ
فَتُنتَج لَكُم غِلمانَ أَشأَمَ كُلُّهُـم * * * كَأَحمَرِ عادٍ ثُمَّ تُرضِـع فَتَفطِـمِ
فَتُغلِل لَكُم ما لا تُغِلُّ لأَهلِهــا * * * قُرىً بِالعِراقِ مِن قَفيزٍ وَدِرهَمِ

ويغادر سهل الجبليّ مسرح التجربة في وادي الينابيع كما هو واقعها. ولكنه ما بَرِحَ يحمل على ظهره أوراقها وتراثها، متطلّعًا إلى أن يبني واقعًا آخر بديلاً من خلال النصّ؛ واقعًا ينتهي فيه طَلْق مريم إلى طفلٍ مسيح، يعيد النصوص إلى نصوصها.

aalfaify@yahoo.com
http://alfaify.cjb.net
ــــــــــــــــــــــــــ
(1) (1998)، الغيمة الرصاصيّة، (بيروت: دار الكنوز الأدبيّة)، 245.
(2) انظر: م.ن، 204.
(3) انظر: م.ن، 205.
(4) إشارات (تناصّيّة مجازيّة)، يحيل بها الدارس إلى قوله تعالى: "وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ، أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ، فَأَنفُخُ فِيهِ، فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ، وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ، وَأُحْيِـي الْمَوْتَى، بِإِذْنِ اللّهِ، وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ، وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ." (آل عمران، آية 49).
(5) الغيمة الرصاصيّة، 246.
(6) م.ن، 246.
(7) المتنبي، أبو الطيّب، (د.ت)، شرح ديوان المتنبي، وضعه: عبدالرحمن البرقوقي (بيروت: دار الكتاب العربي)، 4: 363- 366.
(8) الغيمة الرصاصيّة، م.ن.
(9) انظر: م.ن، 247.
(10) الشنتمري، الأعلم يوسف بن سليمان بن عيسى (-476هـ= 1084م)، (1983)، أشعار الشعراء الستّة الجاهليّين، (رواية الأصمعي)، تح. لجنة إحياء التراث العربي في دار الآفاق الجديدة (بيروت: دار الآفاق الجديدة)، 283- 284.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ملحق "الأربعاء"، صحيفة "المدينة "- السعوديّة، الأربعاء 18 شوّال 1430هـ= 7 أكتوبر 2009م، ص6.




شكرًا لمطالعتك هذه الصفحة!

جميع الحقوق محفوظة ©