على مشارف النهاية من سرديّة "الغيمة الرصاصيّة"، لعلي الدميني، يصوّر الكاتب مغادرة سهل الجبليّ- بطل "الغيمة"- مسرح التجربة في وادي الينابيع كما هو واقعها تصويرًا مثيرًا. وسهل في أثناء ذلك كان ما بَرِحَ يحمل على ظهره أوراق التجربة وتراثها، متطلّعًا إلى أن يبني واقعًا آخر بديلاً من خلال النصّ؛ واقعًا ينتهي فيه طَلْق مريم إلى طفلٍ مسيح، يعيد النصوص إلى نصوصها.
وبعد يومين- كما قال الراوي- لَحِق بسهلٍ ابنُ عيدان، شيخ الينابيع وواديها، يحمل على ناقته البيضاء كِتاب السِّجلاّت. "... كان شكّ قارس [يقول سهلٌ، في آخر فقرات الغيمة الرصاصيّة] يثقلني من أن يصبح (كِتاب السِّجلاّت) بديلاً لقِصّة عَزَّة، غير أنه الآن ينغرز في قلبي كاليقين، وغذذتُ السير أقطع الصحراء باتجاه الشرق البعيد."(1)
لقد لحق بالبطل المستقبليّ تاريخُه، بكل سِجلاّته، فلا مناص له منه، وهذا ما كان يقلق سهلاً وهو يغِذّ السير ويقطع الصحراء باتّجاه فجرٍ بعيد. لقد كان يمضي إلى مستقبل آخر مشرق، ساعيًا إلى كتابة نصٍّ جديد، لا يحجبه في السحاب، ولا يحتجزه في المغارات، ولا يلقيه إلى التّهلكة. لا يريد أن يُلدغ من نصّ مرتين، فيضيع بين لدغتين، لدغة الماضي والتاريخ (كِتاب السِّجلاّت)، ولدغة الحُلم والمثاليّ (قِصّة عَزَّة).
كان يُثقل سهلاً ويعطّل مشروعه تصوّر أن يصبح كتاب السِّجلاّت التاريخيّة بديلاً لقصّة عَزَّة الحُلميّة، التي حجبتْه غيمتُها عن الواقع، فجعلتْه صعبًا لا يُطال، بل حجبتْ حياتَه عن الحياة.. ذلك ما كان منه يحيد، فأدركه به ابنُ عيدان ليثقل صبحه بشكٍّ كاليقين. إذ إن كلا النصّين- كتاب السجلاّت (التاريخ)، وقِصّة عَزَّة (ربما الأدب، بتنبّؤاته وأحلامه المثاليّة)- ضَلال في ضَلال، ولا منجاة منه إلاّ بإغذاذ السير، بلا تلكّؤ ولا توقّف، وقطع الصحراء، في اتجاهٍ واحد هو: "الشرق البعيد".
هذا إذن هو نصّ الغيمة الرصاصيّة (القصيدة-الرواية)، كما أراد له الكاتب أن يكون. قِصّة لا تقصّ شيئًا، ورواية لا تروي رواية، وإنما هو نصّ يوحي، ويرمز، متّكئًا على طاقة اللغة والخيال، ومَقْدرة القراءة على افتضاض نصّها هي من خلال إشارات النصّ المدوّن. وتلك هي طبيعة (القصيدة-الرواية)؛ فهي روح قصيدة- بكل ما تعنيه الكلمة من معنى- تُصاغ في هيكلٍ روائيّ. وبما أن ذلك كذلك، فإن أيّ قراءة تُقْدِم على مقاربة النصّ على أنه رواية ستجد نفسها في متاهةٍ نصوصيّة وأجناسيّة، وتجد أدواتها قد كلّت وعميت؛ من حيث إنها تدخل إلى النصّ من غير بوّابته، وتستخدم المفاتيح القرائيّة لجنسٍ أدبيّ هو الرواية في جنسٍ أدبيّ مختلف هو: (القصيدة-الرواية).
وكما هو الشأن في قراءة النصوص الشعريّة لا يمكن أن تكون القراءة قراءة نهائيّة، ولا دلالةُ النصّ دلالة حقيقيّة، وإنما هما قراءة ودلالة تدوران في فَلَك الاحتمال، يحمّلهما كلّ قارئٍ بما توحي إليه به الإشارات، لا بما تقوله على سبيل الحكاية والرواية والسرد. بيد أن القارئ، مهما كانت مقدرته على القراءة، سيَحُول بينه وبين مفاتيح النصّ عدمُ وعيه بطبيعته النوعيّة، حين يسلّم بدعوَى الكاتب إذ يضع على غلاف العمل مصطلح "رواية". ذلك أن وعي الكاتب نفسه هو أُسّ الإشكال في ماهيّة مثل هذا النصّ؛ حيث يُخيّل إليه أنه ينجز نصًّا روائيًّا، فيما هو يكتب ملحمة شعريّة، فكريّة نقديّة.
* * *
وفي الختام، فإن أولئك الشعراء الذين خَطَوا خطواتهم نحو كتابة الرواية- كما فعل الشاعر علي الدميني- كانوا ينطلقون من رغبة صادقة في إنجاز أعمال وفق الشروط الروائيّة، وكانت لهم إلى ذلك حاجاتهم النفسيّة والاجتماعيّة لتوسّل قناة جديدة للتعبير، أكثر استيعابًا لهموم الراهن وقضايا العصر من قصيدة شِعر. غير أنهم، وهم يُخْلِصون أنفسهم من أجل هذا الهدف- في نزعةٍ إنسانيّة يراود حُلمُ الرواية مخيّلتها ووجدانها- كانوا يحملون هاجس الشاعر النجم. فلقد أراد أمراء الكلام- بوعي أو بلا وعي- أن يُثبتوا أن الرواية ليست بـ"شغلانة" عند الشاعر الفحل، وأنه "قدّها وقدود!"، حسب كلام بطل رواية "العصفوريّة" للشاعر غازي القصيبي(2) على لسان الشاعر أحمد شوقي. فليست الرواية بمستعصية على الشعراء، إذن، مثلما لم تكن المسرحيّة من قبل أو الملحمة، فما الرواية إلاّ بضاعة الشعراء رُدَّت إليهم!
وهذه النزعة الشاعريّة الذاتيّة كانت وراء تميّز نصوص هؤلاء الشعراء بالذاتيّة الواضحة، فيما هم يكتبون نصوصاً تُفترض فيها الموضوعيّة. يتبدّى ذلك أوّلاً، في أن لغة السرد لديهم تعتمد على ضمير المتكلّم، وهو ما رأيناه في "الغيمة الرصاصيّة"، كما هو في "الحزام"، لأبي دهمان، أو "سقف الكفاية"، لمحمّد حسن علوان. ومن ثم تأتي سرديّة نصوصهم أشبه ما تكون بالسِّيَر الذاتيّة- إنْ لم تكن كذلك فعلاً- المغرقة في ذاتيّتها. في حين لو قورنتْ كتاباتهم بروايات مجايليهم من الناحية الفنّية، لتبين أن هؤلاء الأخيرين لا يعتمدون في سردهم على ضمير المتكلّم، وإنْ بدتْ أعمال بعضهم ضروبًا من سِيَر ذاتيّة، تتوسّل الشكل الروائي لبثّ خطاب سياسيّ اجتماعيّ. وتلك (السِّيَر) المغرقة في ذاتيّتها، التي يعتمدها هؤلاء الشعراء، تجعل تعاملهم بضمائر المتكلّمين يراوح بين ضمير المتكلّم الشعريّ الغنائيّ وضمير المتكلّم المطابق للمؤلِّف وسيرته، أي أنه يبدو أشبه بتعامل الشاعر الملحميّ القديم.(3)
فماذا كان منتوج تلك الحساسيّة الجديدة للشعريّة الروائيّة، حسب ما تجلّت في نموذج هذه القراءة؟
كان أن تمخّضتْ عن نصوص ظاهرها الرواية وباطنها الشِّعر. أي أنها مثّلت أوبةً متأخّرة إلى ما يشبه الملحمة الشعريّة، مع فارقين رئيسين:
1) شكليّ، يتعلّق بتجرّد (القصيدة-الرواية) غالباً من شكلانيّة الشِّعر، من حيث الموسيقى الخارجيّة من أوزان وقواف. فيما عدا الشواهد والتضمينات، وبعض الظواهر الأسلوبيّة العامّة التي نجد فيها إيقاع الشعر التفعيليّ.
2) تركيبيّ فنيّ، يتعلّق بتقصير (القصيدة-الرواية) عن ذلك البناء القصصيّ الملحميّ، أو النسيج السرديّ الروائيّ، واستنادها على بنية حكائيّة، تُشحن باستطرادات الخواطر المحلّقة في فضاءات الشعريّة، أو التعقيدات السرديّة، والاتكاء على اللغة الرميزيّة، وتَشْظِيَة الأحداث، كما حدث في "الغيمة الرصاصيّة". ما يجعلها تبدو حاملة من الشعريّة المكثّفة أكثر مما تحمل من السرديّة الروائيّة. ومن هناك استنبت هؤلاء الكتّابُ الشعراءُ- من حيث شعروا أو لم يشعروا- جنسًا مفارقًا، مختلفًًا عن الملحمة الشعريّة وعن حفيدتها الرواية معًا، هو هذا الجنس الذي نسميه: (القصيدة-الرواية).
وبهذا، فإذا كانت الرواية قد جاءت في العصر الحديث وريثة الملحمة الشعريّة- التي كانت هي "القصيدة-الرواية"، في صيغتها العتيقة- فإن (القصيدة-الرواية) اليوم، في صيغتها الجديدة-- التي مثّلت "الغيمة الرصاصيّة" أحد نماذجها البارزة-- تأتي بمثابة ارتدادٍ إلى نوعٍ من جنسٍ أدبيٍّ مهجور، هو الملحمة. غير أن (القصيدة-الرواية) الجديدة، تتخلّص من حِدّة الحضور ذي الوجود الكامل لكلا الجنسين- الشعريّ والروائيّ- كي تُنشئ نمطًا جديدًا من التماهي بينهما، وإنْ كانت كفّة الشعريّ فيها تميل إلى الرّجحان. وهذا ما يدعو الدارس إلى تسمية النص بـ(قصيدة-رواية) لا بـ(رواية-قصيدة).
وحينما نستعمل هذا المصطلح (القصيدة-الرواية) فإننا ننفي عن هذا النوع شعريّته وروائيّته، في آن. لنقيم له هويّة في منطقة وسطى بين عالم الشِّعر وعالم الرواية. ولكي لا يتكرّر هنا المأزق الجدليّ الصاخب المصاحب لمصطلح (قصيدة النثر)، فإنه يجب أنْ يُفهم أنّ (القصيدة-الرواية) غير (قصيدة الشِّعر)، مثلما كان ينبغي أن يفهم من قبل أن (قصيدة النثر) نوع مختلف عن (قصيدة الشِّعر)؛ إذ هي لا بشِعرٍ خالص ولا نثرٍ خالص.
aalfaify@yahoo.com
http://alfaify.cjb.net
ــــــــــــــــــــــــــ
(1) (1998)، الغيمة الرصاصيّة، (بيروت: دار الكنوز الأدبيّة)، 247.
(2) (1996)، العصفوريّة، (بيروت: دار الساقي)، 22، 36.
(3) ويُنظر: ويليك، رينيه؛ أوستين وارين، (1987)، نظرية الأدب، تر. محيي الدين صبحي، مر. حسام الدين الخطيب (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر)، 225.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ملحق "الأربعاء"، صحيفة "المدينة "- السعوديّة، الأربعاء 25 شوّال 1430هـ= 14 أكتوبر 2009م، ص6.
|