"ظِلّ الفراغ" نصوصٌ قصصيّة قصيرة جدًّا للقاصّة سهام صالح العبودي، نُشرت مؤخّرًا، (الرياض: دار المفردات، 2009). وهي المجموعة الثانية للكاتبة بعد مجموعتها الأولى "خيط ضوء يستدقّ"، (2005). وتتمتّع نصوص العبودي في المجموعتين بلغة شعريّة لافتة، تتجلّى بكثافة في نصوص المجموعتين، مع تمكّن من لغتها بصفة عامّة. وتلك- أعني خاصيّة التمكّن اللغويّ- عملة باتت نادرة في زمن الوجبات الأدبيّة السريعة اليوم، تبهج من عثر عليها، مع أن اللغة بداهةً هي مادة الأدب، ولا انبثاق للأدبيّة دون ذلك، ناهيك عن بلوغ درجة من الشِّعريّة.
وكما جاء في مقاربة لي سابقة حول (القِصّة القصيرة جِدًّا)- بعنوان "مآزق الشِّعريّة: (بين قصيدة النثر والقِصّة القصيرة جِدًّا)"- فإن كُلّ ما في (القِصّة القصيرة جِدًّا) قصير جِدًّا إلاّ مصطلحها هذا، فهو أطول مصطلحات الأجناس الأدبيّة والفنّيّة. ربما لأننا في الثقافة العربيّة-- وهذا مرتبط بحالنا المعاصرة مع لغتنا-- قد أهملنا خصائص العربيّة وما تمنحه من إمكانيّات تعبيريّة عزّ نظيرها، وأخذنا نترجم المصطلحات وفق ترهّلاتها في لغات أخرى، كما في ترجمتنا الحَرفيّة لهذه التسمية: "A VERY SHORT STORY". إذ لعل المصطلح الأَولى للتعبير عن هذا النوع كان أن يُسمى في العربيّة: (القِصّة القُصْرَى)، تفريقًا بينه وبين (القِصّة القصيرة). غير أنه يعترض سبيل هذا البديل أمامنا الآن عددٌ من المبادئ: أوّلها، أن في المصطلح البديل (القِصّة القُصْرَى) جَزْمًا بأن هذا الضرب من القصص هو الأقصر، ولئن كان هذا هو ظاهر الأمر الآن، فإن استعمال (أفعل التفضيل) في مصطلحٍ قد لا يكون أمرًا مستساغًا. وثانيها، أن في مصطلح (القِصّة القصيرة جِدًّا) حسنة الإلماح الضمنيّ إلى أن النصّ هو من جنس (القِصّة القصيرة) إلاّ أنه أقصر من معتاد (القِصّة القصيرة)، وإنْ كان كُتّابه قد يبالغون في اختزاله كثيرًا. والسبب الأهمّ المُعترِض في سبيل اتخاذ بديلٍ عن ذلك المصطلح الطويل أنه قد استقرّ تداولُه بين الناس، فصار من غير المناسب تعديله، بل قد يكون ذلك محض عبث. فلا مناص إذن من التعلّل بأنْ: لا مشاحّة في الاصطلاح.
على أن مناقشة المصطلح هنا تلفتنا إلى ما هو أكثر أهميّة منه، وهو النظر في طبيعة النصوص نفسها المندرجة تحت هذا المصطلح، من حيث كونها تتّصف بالقصصيّة أصلاً أو لا تتّصف؟ ما قد يدعو إلى تصنيف بعضها تحت مصطلح آخر، هو: "قَصِيْصَة"، (بقاف مفتوحة وصاد مكسورة)، تركيبًا نحتيًّا من "قصيدة-قِصّة"؛ لأن ما يُسمّى القِصّة القصيرة جِدًّا هو أحيانًا قصيدة نثرٍ في قِصّة قصيرة جِدًّا، أو قِصّة قصيرة جِدًّا في قصيدة نثرٍ- لا فرق- في تزاوجٍ يجعل الفارق بين هذين النوعين شفّافًا جِدًّا، حتى لا يكاد يميّز القِصّة القصيرة جِدًّا سوى التزامها حكائيّةً ما، في حين لا يلزم ذلك قصيدة النثر. كما أن بعض الشِّعر لا يميّزه عن النثر سوى الإيقاع، والإيقاع وحده لا يكفي الشِّعر شِعريّته، كما أن ليس فقدانه هو ما يسلب الشِّعر شِعريّته بالكليّة ويهوي بالنص إلى النثريّة بالضرورة. وإنما الإيقاع عنصر فارق رئيس في الشِّعر، كما يجب أن تكون الحكائيّة عنصرًا مائزًا رئيسًا لكلّ ما يندرج تحت اسم "قِصّةٍ"، طالتْ أم قصرت. ولكي نختبر هذه الحقيقة، لنأخذ نصًّا لشاعر لا شكّ في شِعريّته ولا في تجربته الغنيّة، وهو محمود درويش. وليكن نصًّا له بعنوان "لا أعرف الشخص الغريب"(1):
لا أعرف الشخص الغريبَ ولا مآثرَهُ...
رأيتُ جِنازةً فمشيت خلف النعش،
مثل الآخرين مطأطئ الرأس احترامًا. لم
أجد سَبَبًا لأسأل: مَنْ هُو الشخصُ الغريبُ؟
وأين عاش، وكيف مات [فإن أسباب
الوفاة كثيرةٌ من بينها وجع الحياة].
سألتُ نفسي: هل يرانا أَم يرى
عَدَمًا ويأسفُ للنهاية؟ كنت أَعلم أنه
لن يفتح النَّعْشَ المُغَطَّى بالبنفسج كي
يُودِّعَنا ويشكرنا ويهمسَ بالحقيقة
[ما الحقيقة؟]. رُبَّما هُوَ مثلنا في هذه
الساعات يطوي ظلَّهُ. لكنَّهُ هُوَ وحده
الشخصُ الذي لم يَبْكِ في هذا الصباح،
ولم يَرَ الموت المحلِّقَ فوقنا كالصقر...
[فالأحياء هم أَبناءُ عَمِّ الموت، والموتى
نيام هادئون وهادئون وهادئون] ولم
أجد سببًا لأسأل: من هو الشخص
الغريب وما اسمه؟ [لا برق
يلمع في اسمه] والسائرون وراءه
عشرون شخصًا ما عداي [أنا سواي]
وتُهْتُ في قلبي على باب الكنيسة:
ربما هو كاتبٌ أو عاملٌ أو لاجئٌ
أو سارقٌ، أو قاتلٌ... لا فرق،
فالموتى سواسِيَةٌ أمام الموت.. لا يتكلمون
وربما لا يحلمون...
وقد تكون جنازةُ الشخصِ الغريب جنازتي
لكنَّ أَمرًا ما إلهيًّا يُؤَجِّلُها
لأسبابٍ عديدةْ
من بينها: خطأ كبير في القصيدةْ!
لنسأل هاهنا: أ هذه قصيدة أصلاً، أم قصّة (قصيرة جِدًّا) ذات إيقاع تفعيليّ؟
بل أ هذا نصّ شِعريّ (لغويًّا)، أم نصّ نثريّ؟
أين الشِّعريّ فيه من النثريّ، إذن؟
لنجرّب إزالة الإيقاع التفعيليّ عنه، ثم لننظر ماذا سيبقى من شِعريّته؟:
"لست أعرف الشخص الغريبَ، ولا أعرف مآثرَهُ... وإنما رأيتُ جِنازةً فمشيت وراء النعش، كالآخرين، وأنا مطأطئ الرأس احترامًا. لم أجد أيّ سَبَب للسؤال عن الشخص الغريب ومن يكون؟ أو أين كان يعيش، وكيف توفي [أسباب الموت كما هو معروف كثيرةٌ ومن بينها ما يمكن أن يُسمّى وجع الحياة]. لقد سألتُ نفسي حينها: هل كان يرانا، أَم يرى عَدَمًا وكان يأسفُ للنهاية؟ كنت أَعلم طبعًا أنه لن يفتح نعْشَه الذي كان مُغَطًّى بالبنفسج لكي يُودِّعَنا، أو يشكرنا، أو يهمسَ إلينا بالحقيقة [وما الحقيقة؟]. قد يكون يطوي ظلَّهُ مثلنا في هذه الساعات.. من يدري! غير أن المؤكد أنه هُوَ الشخصُ الوحيد الذي لم يَبْكِ في هذا الصباح، كما لم يَرَ الموت المحلِّقَ كالصقر فوقنا... [ذلك أن الأحياء أَبناءُ عَمِّ الموت، في حين أن الموتى نيام وهادئون هادئون هادئون]. حقيقةً لم أجد أيّ سَبَب للسؤال عن ذلك الشخص الغريب من يكون؟ أو ما اسمه؟ [عمومًا ليس هناك لاسمه برق يلمع]. كان السائرون خلفه عشرين شخصًا باستثنائي [أنا غيري]. ولقد تُهْتُ على باب الكنيسة في قلبي: قد يكون الرجل كاتبًا، أو يكون عاملاً، أو لاجئًا، أو حتى سارقًا، أو قاتلاً... ليس هناك فرق؛ لأن الموتى متساوون أمام الموت.. فهم لا يتكلمون وقد لا يحلمون... وربما تكون جنازةُ الشخصِ الغريب تلك جنازتي، إلاّ أن أَمرًا إلهيًّا ما يُؤَجِّلُها؛ وذاك لأسبابٍ كثيرة، ومن بينها احتمال ورود خطأ كبير في القصيدةْ!"
كيف نرى النصّ الآن؟
ماذا جرى؟ وهل بقي شِعرًا، أو شِعريًّا؟
إنه الإيقاع وحده ما ارتفع به من أرض النثريّة إلى سماوات شبيهة بالشِّعر!
[ونواصل]
* (عضو مجلس الشورى)
aalfaify@yahoo.com
http://alfaify.cjb.net
ــــــــــــــــــــ
(1) درويش، محمود، (2005)، كزهر اللوز أو أبعد، (بيروت: رياض الريّس) ، 67- 69.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* صحيفة "الجزيرة"، الصفحات الثقافية، الخميس 26 شوّال1430هـ= 15 أكتوبر 2009م، العدد13531، ص20.
|