الصدق:4.مقالات:إضبارة د. عبد الله الفـَيفي http://www.alfaify.cjb.net

Thursday 24th January,2002 G No.10710 جريدة "الجزيرة"، الطبعة الاولى الخميس 10 ,ذو القعدة 1422 العدد 10710

مسـاقات
الصِّدْقُ الشِّعْريّ.. والصِّدْقُ العِلْميّ
د.عبدالله الفَيفي

إن التجربة الشعرية تختار في نفس الشاعر لغتها، أو على حدّ قول عبدالقاهر الجرجاني في (دلائل الإعجاز): «إنك إذا فرغت من ترتيب المعاني في نفسك، لم تحتج إلى أن تستأنف فكْراً في ترتيب الألفاظ، بل تجدها تترتّب لك. بِحُكْم أنها خدمٌ للمعاني وتابعة لها ولاحقة بها، وأن العلم بمواقع المعاني في النفس علم بمواقع الألفاظ الدالّة عليها في النطق". ولذلك لا يمكن للشاعر أن يدرك الأسباب وراء اختياراته؛ لأن ليس اختياره وليد فكر، وإنما أساسه إحساسه الغريزي المجردّ؛ كي يؤكّد ذاته أو يتآلف مع آخر، كما يشير إلى ذلك (رتشاردز) في كتابه (العلم والشعر).
أمواج التجربة إذن هي التي تملي ألفاظها على الشاعر شريطة أن تكون تجربته صادقة لا مصطنعة؛ فما روعة الشاعر في تنظيم الكلام سوى جزء من روعة أكبر في تنظيم تجربته. وهكذا فإن ألفاظ الشاعر تملي بدورها أثرها على القارىء، الذي هو محتاج كذلك إلى (كفاءة أدبية)، تقوم على: وعي مسبق بطبيعة الخطاب الأدبي عموماً، ثم إدراك لضربٍ من النحو الداخلي للأدب، مع خبرة بالآليات الخاصة بالنصّ الذي يقرأ. ولذلك فإن الأثر الذي ينتقل إلى القارىء يقْلب مبدأ السببية؛ ليكون سبباً ونتيجة في آن. (Culler, Structuralist Poetics, p.113، وقارن: Culler, On Deconstruction, 86-00). إذ يُغمر القارىء بتفاعل استجابيّ شبيه، لا يقلّ حرارةً وصفاءً ونبلاً عما حدث في تجربة الشاعر: (أمير الكلام الأول وسيد التجربة)، وذلك في عملية عجيبة لا مثيل للشعر في عمق التفاعل الناجم عنها. وهو ما اختزل الشاعر العربي قديماً التعبير عنه بقوله، الذي سار مثلا:
إذا الشعر لم يهززك عند سماعه،
فليس جديراً أن يقال له شعرُ
غير أن الهزة ها هنا ليست بهزة الإيقاع الموسيقي، ولا بهزة الطرب الأيديولوجي أو الفكريّ، ولا بهزة القارىء غير المدرّب شعرياً، وإنما هي هزة الإيقاع النفسي النابع أصلاً من التفاعل الصادق بين شخصية الشاعر وبنية تجربته عند القارىء الحُجّة، ذوقاً فنيّاً ووعياً نقديّاً.
ذلك لأن هناك فرقاً بين صدق القضية العلمية وصدق التعبير الشعري؛ بما أن صدق القضية العلمية يتأتّى عن طريق التحقيق المختبري، على حين أن الصدق الشعري ينبني على قبولنا التعبير قبولاً عاطفيّاً لتوافقه مع موقف عاطفيّ معين، ومن هناك قبول الموقف العاطفيّ نفسه الذي تضمّنه التعبير الشعري. إن «القياس الشعري غير القياس الإقناعي: الأول مقدماته مخيّلة، والثاني مقدماته أقوال إقناعيّة»، كما يقول (الصفدي، الغيث المسجم). وعليه فليست وظيفة الشعر أن يقرّر قضايا حقيقية من الوجهة العلمية. كما أن السببية الصريحة في الأدب بعامة تؤدّي غالباً إلى ضعف الشعرية؛ لأن الاحتفاظ بسببية ضمنيّة تجبر القارىء الضمني على الخضوع للعمل لإعادة إنشائه. (ينظر في هذا مثلاً: تودوروف، الشعرية، 63). وفي ذلك واحد من أهم مكامن التفاعل الدائر بين الشاعر والمتلقّي حول النص.
فما شأن تلك القضايا المهمة التي يبدو الشعر دائماً كأنه يقرِّرها؟ ذاك سؤال سيحاول التصدي للإجابة عنه مساقٌ لاحق.




شكراً لقراءتك هذه المقالة !

أنت القارئ رقم:

FastCounter by bCentral

جميع الحقوق محفوظة ©