|
|
لم يخل كتاب الدكتورة سوزان ستيتكيفيتش "الشِّعر والشِّعريّة في العصر العبّاسي"، (القاهرة: المركز القوميّ للترجمة، 2008)، من جملة قفزات تأويليّة من قِبل الباحثة، فيها نظر. فأوّلاً، ظاهرة تقديس القديم- التي شغلتْ الباحثة- هي ظاهرة ثقافيّة عربيّة، وليس الموقف من قديم الشِّعر وحديثه منها ببِدْع. وعليه، فالموقف من المُحْدَث هو موقف فكريّ عامّ- أصبح له في العصور الإسلاميّة باعثُه الدينيّ أيضًا- وليس موقفًا من شفاهيٍّ في عصرٍ كتابيّ، كما ذهبت الباحثة. وليس بصحيح القول إن وظيفة الشِّعر في التقليد الشفويّ هي حفظ المعلومات بإطلاق، إلاّ في ذلك النوع من الشِّعر الذي يمكن أن يوصف بالتعليميّ. أمّا الشِّعر، فالأصل فيه أنه شِعر، له وظيفته الوجدانيّة الخياليّة، شفاهيًّا كان أو كتابيًّا. أمّا أدواته الفنّيّة، فهي وليدة ارتباطه بالغناء والموسيقى، بل بطبيعة اللغة العربيّة الموسيقيّة بصفة خاصّة. وضروبٌ من الإيقاع الصوتيّ أو التصويريّ أو الخياليّ موجودة في مختلف الفنون، قوليّة وغير قوليّة، وعلى مرّ العصور، وعليها تنهض إبداعيّة تلك الفنون وإمتاعاتها. فهي لهذا ليست وسيلة تعزيز للذاكرة، ولم توجد لتلك الوظيفة قط، وإن ساعدت عليها، بل هي وسيلة إشجاء وإطراب، وتحريك لكوامن الإيقاع في الطبيعة الإنسانيّة أصلاً، جسدًا وروحًا وذهنًا ومخيالاً، وفي الطبيعة الكونيّة كلّها. ثم إن قول الباحثة بأن شِعر البديع إنما كان يؤدّي وظيفتين طقوسيّة وتفسيريّة يقتضي نفي التجديد الشِّعري عن ذلك الشِّعر، بل يلغي هويّته الشِّعريّة، وكأن الشِّعر قد انتهى بشِعر الأوائل/ الجاهليّين، ولم يوجد عنه بديل، فلا شِعر من بعد الجاهليّين للعرب يستحق هذا الاسم، وإنما تلك ترقيعات وترميمات في التراث وترديدات طقوسيّة لأغراض جديدة! وهذا يشابه قول أنصار القديم أنفسهم في حقّ أبي تمّام وأضرابه من الشعراء العباسيّين، وإنْ قيل بطريقة أخرى، وذلك من نحو ما روى (الصوليّ) في كتابه "أخبار أبي تمام"، في "ما رُوي من معائب أبي تمّام"، حيث قال: "سُئل دعبل عن أبي تمّام قال: ثلث شِعره سرقة، وثلثه غثٌ، وثلثه صالح." وكان "يقول: لم يكن أبو تمّام شاعرًا، إنما كان خطيبًا، وشِعره بالكلام أشبه منه بالشِّعر... وحُكي أن ابن الأعرابي قال، وقد أُنشد شِعرًا لأبي تمّام: إنْ كان هذا شِعرًا فما قالته العربُ باطلٌ!" فهؤلاء لا يرون الشِّعر المُحْدَث امتدادًا طبيعيًّا للقديم، بلغةٍ جديدة ومقتضيات محدثة، بل يرونه عبثًا صبيانيًّا، أو تكلّفًا طارئًا، عليه سيما الشِّعر العربيّ وليس بشِعرٍ عربيّ. |
|
للتعليق على الموضوع: اذهب إلى ساحة نقاش الإضبارة! شكرًا لاطّلاعك على هذه الصفحة! |
جميع الحقوق محفوظة ©