لغة:4.مقالات:إضبارة د. عبد الله الفـَيفي http://www.alfaify.cjb.net

Thursday 3nd January,2002 G No.10017 جريدة "الجزيرة"، الطبعة الأولى الخميس 19 , شوال 1422 العدد 10689

مســاقات
لغة الشِّـعْر.. ولغة العِـلْم
د.عبدالله الفَيفي


إن العمل الشعري بلغة علماء النفس ما هو إلاّ توتّر نفسي يُهدف ببثّه خارجيّاً إلى خفضه داخليّاً لإعادة الاستقرار أو التوازن. (ينظر: مثلاً: سويف، مصطفى، (1981)، الأسس النفسية للإبداع الفني في الشعر خاصة، (ط. القاهرة: دار المعارف)، 151 154، 305، 306).
وإذا كان ذلك ما يحدث بين الذهن والوجدان في عملية الإبداع الشعري، فإنه يحدث نظيره في عملية التلقّي، حيث إن القصيدة، بمخاطبتها نزعات المتلقّى الانفعالية المعقّدة، قد تُحدث أثراً اضطرابياً، وقد تُحدث أثراً يزيل الاصطراب، لكنها في الغالب تجمع بين هاتين العمليتين. وكذا فإن الفرع الفكريّ في عملية التلقّي يظلّ محكوماً بالفرع النفسي؛ لأن السبب في سَير الفرع الفكريّ في مسراه بنجاح- مثل فهم الألفاظ التي استعملها الشاعر وتمثل بنيتها- هو أن إحدى نزعاتنا تستجيب وفق ذلك الاتجاه الخاص من الفهم والتمثل؛ ذلك أن حركة الألفاظ وجرسها يؤثران تأثيراً عميقاً ومباشراً في نزعاتنا قبل أن تكوّن الألفاظ لدينا مفاهيمها الذهنية، لاسيما أن الألفاظ الشعرية بطبيعتها مفعمة أصلاً بالالتباس الدلالي، حتى لقد يمكن في بعض الحالات إغفال المعنى إغفالاً يكاد يكون تاماً أو إهماله، دون خسران الكثير. (ينظر مثلاً: رتشاردز، أأ، (د. ت)، العلم والشعر، تر. مصطفى بدوي (القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية)، 23، 27، 29).
إن الأمور تسير في الشعر «كما لو كان الشاعر يسعى إلى تقوية أسباب الخلط خلافاً للمقتضيات العادية للتواصل»، صحيح أن الشاعر، حسب (كوهن، (1986)، بنية اللغة الشعرية، تر. محمد الولي ومحمد العمري (الدار البيضاء، دار توبقال)، 76، 95)، «يستعمل اللغة لأنه يريد التواصل، أي يريد أن يُفهم، ولكنه يريد أن يُفهم بطريقة ما. إنه يهدف إلى إثارة شكل خاص من الفهم عند المتلقّي، يختلف عن الفهم التحليلي الواضح الذي تثيره الرسالة العادية». إن الشعر يرضى أن يضع نفسه في منزلة بين الفهم وعدمه. إنما مثل الشاعر كمن يغنّي ومثل الناشر كمن يتكلم. لذا فإن استخدام الشعر اللغةَ يخالف استخدام العلم إياها، فالشاعر لا يختار ألفاظه اختياراً منطقياً، قاصداً معنى واحداً، وإنما على العكس من ذلك. وليس ما تبدو عليه الأفكار في الشعر أحياناً من تحديد سوى تأثير نغماته وإيقاعاته في نزعات المتلقّي، التي توجهه إلى اصطفاء أفكار معينة من بين عدد مائج مبهم من المعاني الممكنة.
ومع هذا فإن اللغة الشعرية تبدو غالباً أقدر من اللغة النثرية في وصف الأشياء، لأن لغة العلم تفتقر إلى طاقة الشعر على تصوير الظِّلال ونقل الإيحاءات، التي يملك الشاعر السيطرة عليها حتى حينما يكتب نثراً صرفا. (ينظر: رتشاردز ، 30، 31). على أن درجة اختلاف اللغة الأدبية تتفاوت من نصّ إدبي إلى آخر، فإذا كان يمكن ملاحظتها في النصوص (التخييلية)، فإنه سيكون من العسير ملاحظتها باطّراد في أنماط أخرى، كالنمط (الحِكمِيّ)؛ حيث تنتظم فيه جمل النصّ فيما بينها بمنطقية ومباشرة. (ينظر: تودوروف، (1990)، الشعرية، تر. شكري المبخوت ورجاء بن سلامة (ط2، الدار البيضاء: دار توبقال)، 31). وبذلك يضعف في الأدب الحِكمِيّ (سِجِلّ الغياب) في مقابل (سِجِلّ الحضور)، حسب تصنيفات (تودوروف، 38) في ما يسميه بـ«سجلاّت الكلام».
أما لو فقه القارىء طبيعة اللغة الشعرية هذه،إذن ما حمّل الشعر ما لا يحتمل ولا حمّل الشعراء ما لا يحتملون!
(وللحديث بقية).




شكراً لقراءتك هذه المقالة !

أنت القارئ رقم :


FastCounter by bCentral

جميع الحقوق محفوظة ©