يستحضر الشاعر سلمان بن محمّد الفَيفي المكان اسمًا مُؤنسَنًا، أنثويًّا، بحشاه، وسهلِه، ورُباه، وفضائه فحسب، ولكنه- كما في قصيدته "في رحاب الشَّمال"(1)- يشفع ذلك أيضًا بما يناسب ذلك من رائحة الجسد الجماليّ، الذي استثاره فيه اسمُ "عَرْعَر"، محتفلاً بعُرس ذلك الجسد، إذ يفوح منه القيصوم والشِّيح. ثم يُردف عطر العروس بمحفل الترنّم والغناء. وهكذا يتبدّى ما يستثيره المكان من جماليّات في شِعر شاعرنا، تشمل الإنسان، والأرض، والنبت، وتُزاوج بين الروح والجسد، وتخاطب صورُها حواسَّ التلقّي المتعدّدة، من: بَصَرٍ، وشَمِّ، وسمع.
وهو جمالٌ في المكان وفي الطبيعة، ولكنّ مردّه إلى جمال الإنسان؛ من حيث إن الإنسان هو مصدر الجمال، فهو مَن بإمكانه أن يُضفي على المكان جمالاً أو قُبحًا. وهذه الفكرة هي فحوى ما قال به الفيلسوف الألماني (إدموند هوسرل Hussrel، -1938)، مؤسّس المدرسة الفينومينولوجيّة/ الوقائعيّة في النقد، حينما طرح نظريّته في أوائل القرن العشرين القائلة: إن المعرفة الحقيقيّة بالعالم لا تتأتّى بتحليل الأشياء، كما هي خارج الذات (نومينا Noumena)، وإنما بتحليل الذات ذاتها في تعرّفها بالعالم، أي بتحليل الوعي وقد استبطن الأشياء فتحوّلت إلى ظواهر (فينومينا Phenomena)؛ ذلك أن الوعي لا يستقلّ، وإنما هو "وعيٌ بشيءٍ ما".(2) وهو ما لعلّ الشاعر إيليا أبو ماضي، مثلاً، حاول التعبير عنه شعريًّا من قصيدته "فلسفة الحياة"(3)، بقوله:
والذي نفسُـه بغير جَمالٍ
لا يرى في الوجودِ شيئًا جميلا
... ... ...
أيهذا الشاكي وما بكَ داءٌ
كُن جميلاً، ترَ الوجودَ جَميلا!
وكما أن قِيَم الأشياء الجماليّة لا تكمن في الأشياء ذاتها بل في تفاعل الإنسان بها ومعها، فإن ذلك التفاعل لا يتولّد عن فراغٍ من التفاعل الإنسانيّ الإنسانيّ؛ لأن المكان إنما يكتسب جمالاً في نفوسنا لجمال أُناسٍ فيه نحبّهم، أو لذكرى عشناها فيه، أو إحساس إنسانيّ ابتعثه فينا. وهو ما أدركه مجنون ليلى(4) في قوله:
وَما حُبُّ الدِيارِ شَغَفنَ قَلبي
وَلَكِن حُبُّ مَن سَكَنَ الدِيارا
تلك الجدليّة الجماليّة المتعلّقة بالمكان هي ما نجده في قصيدة شاعرنا سلمان، وقد صوّر عَرْعَر غانيةً فاتنةً، وعروسًا تزيّنت في استقبال فارسها، إلاّ أنه خشيَ أن قد يُقال فيها ما لا يرضاه آتيها، كالقول ببَرْدها: "برد الشَّمال". فجعل يصوّر البَرْدَ فيها دفئًا؛ بدفء المشاعر في أهلها، على قاعدةٍ من أسرار الشعور بالجمال، حين تُغيِّر الطبيعة طبيعتها، فتقلب أجواءها كلّها جمالاً وحبًّا، أو بالأحرى يصبح إحساسنا نحن بها كذلك:
لا تخافوا بَرْدَ الشَّمالِ ، ففيهـا *** يُوْجَدُ الدِّفْءُ والنَّدَى والصَّفاءُ
أو تقولوا : "بَعِيْدَةٌ" ، لا بَعِيْـدٌ *** عندنا اليومَ والطريقُ السَّمـاءُ!
ويحكي الشاعر، في قصيدة أخرى بعنوان "من عَبَق الشَّمال"(5)، بداية تعلّقه بتلك المعشوقة المدينة. إلاّ أنه قبل ذلك يصوّرها وقد استحالت عن طبيعتها إلى طبيعة أخرى. وتلك جماليّات المكان حين تُنتج جماليّات الشِّعر في النفس والمخيّلة. إنها غانيةٌ من النساء تارة:
وفينانـة فيهـا السَّنَـى مُتَـأَلِّقٌ *** يَمُدُّ شُعاعَ اليُمْنِ في الأُفُـقِ الرَّحْـبِ
على جِيْدِها عِقْدُ الوَفـاءِ مُرَصَّعٌ *** بواسِطَـةٍ لمـَّاعةٍ صَنعـةِ الــرَّبِّ
ثم تتحوّل إلى سفينة، ويتحوّل محيطها من الرّمال إلى محيطٍ من الماء:
نَمَتْ في محيطِ الرَّمْلِ مَدَّتْ شِراعها *** يبـاري هُبُوْبَ الرِّيْحِ بالخَيْرِ والخِصْبِ
يَشُقُّ بهـا رُبَّانُهـا المَـوْجَ رافعـاً *** شِـعارَ الوَفا والودِّ والـذَّوْدِ والحَـدْبِ
وهكذا يُخلِّق الإحساسُ بالمكان معادلاته الموضوعيّة وبناءه الشِّعري الموازي. وما أن يقول "نَمَتْ في محيط الرّمل"، حتى تقفز به مفردة "محيط الرمل" إلى الصورة الأخرى: "سفينة ذات ربّان يشقُّ بها الموج في محيط البحر". إنها إملاءات المكوّنات المكانيّة: (محيط، رمل، ريح، سفينة صحراء)، متضافرةً مع نظائرها اللغويّة وتداعياتها الدلاليّة، ما يقفز بمخيّلة الشاعر من صورة إلى صورة، ومن طبيعة إلى طبيعة نقيضة. وتلك هي بوتقة التفاعل في الكيمياء الشعريّة: إحساسٌ بالعالم الخارجيّ منعكسًا على العالم الداخليّ، ولغةٌ تأخذ الجناحَ الشِّعري بإيحاءاتها وإيماءاتها. والشاعر هو ذلك الكيميائيُّ الماهر في تجهيز المقادير اللغويّة، وإلاّ ظلّ إحساسه صامتًا دون تعبير، أو أغرته اللغة بمفاتنها فاحترق بها، إغراءَ الضوء للفراشة.
ومرة أخرى، تقول لنا القصيدة: إنما جمال المكان جمال الإنسان؛ فهو منبع الجمال ومصبّه:
تُموسِـقُ أزهـارَ الربيعِ قصـائداً *** وتُوْقِدُ جَمْرَ الطِّيْبِ بالمَنْـدَل الرَّطْـبِ
وتَنْسُجُ مِنْ عَـزْمِ الرِّجالِ سَـوابغاً *** وتَغْـزِلُ أفـوافـاً مُذَهَّبَـةَ الهُــدْبِ
فَتَنْـداحُ أصـداغُ الرِّمالِ حضارةً *** ويَنْثَالُ أَغْلَى التِّبْرِ مِنْ مَنْجَــمِ التُّـرْبِ
تُسَبِّـحُ مِـنْ أفـراحِها اللهَ رَبَّـها *** وقد دَفَنَتْ أتراحَها أَعْصُـرَ الجـَـدْبِ
حماها مِنَ التَّعْوِيْقِ في سَيْرِها الذي *** حَمَى يُوْسُفَ الصِّدِّيقَ في وَحْشَةِ الجُبِّ
وظاهرة الأنسنة للمكان لافتة في ديوان الشاعر. وتأتي مؤكِّدة أن المكان في شِعره ليس وصفًا خارجيًّا، أو نقلاً لألوان الطبيعة وأشكالها، وإنما هو تفاعلٌ حيّ، يستبطن الشاعرُ المكانَ فيه، فيضطرّ إلى تحويله إلى إنسانٍ؛ كيما يتسنّى له معه الحوار والمباثّة. وفي مثل هذه الحال لا تغدو القراءة في شِعره قراءة لصورة المكان في شِعر، وإنما لصورة المكان في نفس شاعر، أو بالأحرى صورة شاعرٍ من خلال مكان، بما شكّله من وعيه وما أملاه عليه من رؤيةٍ شِعريّة.
[ونواصل]
* (رئيس لجنة الشؤون الثقافيّة والإعلاميّة في مجلس الشورى السعودي)
aalfaify@yahoo.com
http://alfaify.cjb.net
ــــــــــــــــــــ
(1) انظر: الفَيفي، سلمان، (2007)، مرافئ الحُبّ، تح. عبدالله بن أحمد الفَيفي (جازان: النادي الأدبي)، 42.
(2) انظر: الرويلي، ميجان، سعد البازعي، (1995)، دليل الناقد الأدبيّ، (الرياض: العبيكان)، 149.
(3) (د.ت)، ديوان أبي ماضي، (بيروت: دار العودة)، 604، 606.
(4) (1994)، ديوان مجنون ليلى، شرح: يوسف فرحات (بيروت: دار الكتاب العربي)، 113.
(5) الفَيفي، سلمان، 54- 56.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* "المجلّة الثقافيّة"، صحيفة "الجزيرة"، الخميس 21 محرّم 1431هـ= 7 يناير2010م، العدد293، ص12.
* للقراءة من المجلّة مباشرة.
|