ظاهرة الأنسنة للمكان لافتة في ديوان الشاعر سلمان بن محمّد الفَيفي. وتأتي مؤكِّدة أن المكان في شِعره ليس وصفًا خارجيًّا، أو نقلاً لألوان الطبيعة وأشكالها، وإنما هو تفاعلٌ حيّ، يستبطن الشاعرُ المكانَ فيه، فيضطرّ إلى تحويله إلى إنسانٍ؛ كيما يتسنّى له معه الحوار والمباثّة. وفي مثل هذه الحال لا تغدو القراءة في شِعره قراءة لصورة المكان في شِعر، وإنما لصورة المكان في نفس شاعر، أو بالأحرى صورة شاعرٍ من خلال مكان، بما شكّله من وعيه وما أملاه عليه من رؤيةٍ شِعريّة.
ويأتي الشاعرفي قصيدته بعنوان "من عَبَق الشَّمال"(1) إلى حكاية التقائه بمدينة عَرْعَر، أو بلدة عَرْعَر، إذ لم تكن فيها من مقوّمات المدينيّة إذ ذاك ما تصحّ عليه هذه التسمية (مدينة):
وليْ فـي بِداياتـِيْ وفيهـا حكايـةٌ *** أُمَتِّعُ نفسـيْ مـِنْ تباريحِهـا دَأْبـي
فما إنْ بَدَا ليْ رَسْمُها، قُلْتُ : بُعْدُها *** كبيرٌ، وبـيْ منها كثيـرٌ مِنَ الرُّعْبِ
ووجَّهْتُ باسمِ اللهِ رَكْبيْ تجاهَـهـا *** وأَسْأَلُ نفسيْ: أينَ مُتَّجِـهٌ رَكْبِـي؟!
ومَنْ كان يَهْدِيْنِيْ لأَكنافِ عَرْعَرٍ؟! *** وكنتُ على بيدائهـا تائـهَ الـدَّرْبِ
ولكنْ، وفي وقـتٍ قصيرٍ، أَلِفْتُها *** وأَصْبَحْتُ أَدْعُوْهَـا بمُتَّكَـإِ الجَنْـبِ
رَبِيْبٌ لها بِضْعاً وعِشريـنَ حِجَّةً *** أَهِيْمُ بها عَصْمَاءَ مَعْشُوْقَـةَ القَلْــبِ
ولا عَجَبٌ أَنِّي تَوَطَّنْتُ ظَهْرَهـا *** تألَّفْتُهـا جِـدًّا فـأَصْفَيْتُـها حُبِّــي
إنها تلك الأنثى الأعرابيّة، أو الظبية العصماء، التي فتنتْ شاعرَ الريف والجبال، فتنةَ الثقافة، والتراث، والمكان في آن. فلقد كان عِشقُ الشاعر عَرْعَر- في جانبٍ منه- عشقًا للصورة الأدبيّة عن الصحراء والعرب، منذ الشِّعر الجاهليّ، وذلك ميدانه الثقافيّ والتخصّصيّ. ولكنّ عِشْقًا آخر- إلى جانب ذلك- للمكان نفسه وأهله، بما يمنحانه من شعورٍ بفضاء روحيٍّ رحب، ودماثة حياةٍ وخُلُق. فكان الشاعر يُحِبّ عَرْعَر حقًّا، وليس ما يعبّر عنه في قصائده من دواعي التعبير الشِّعريّ فقط، أو مراعاةً لمقتضى المناسبة الشِّعريّة. ولذلك أفرد للتغنّي بهذه المدينة قسطًا من شِعره، ما كانت تستدعي التفصيل فيه موضوعات القصائد بالضرورة، لولا أن المكان كان قد بات من محرّكات الجمال في نفس الشّاعر لدى إنشائه النصّ.
ثم نقرأ من القصيدة:
وعَرْعَرُ في البيداءِ غَـــرَّاءُ حُـرَّةٌ *** تَشُقُّ المَدَى بالعَزْمِ في المَرْكَبِ الصَّعْبِ
تُشَمِّرُ منْ مِضْمارِها يَعْرُبِيَّــــــةً *** مُحَجَّلَةً مَوَّارَةً فَـذَّةَ الوَثْــــــبِ
بَنَتْ مِنْ حُبَيْباتِ الرِّمالِ مآثِـــــراً *** على صَدْرِها تَخْتالُ راسِخَةَ الكَعْــبِ
حَلَتْ منْ سُمُوْطِ العاشقينَ قلائــــداً *** على جيدِها تَسْبِيْ اللَّبيبَ وقد تُصْـبي
وفي شمسِها ظِلٌّ وفي بَرْدِها دَفـــًا *** وفي روضِها الأنسامُ تُغْني عن الطِّبِّ
ويسألُنيْ قوميْ لماذا عشقتَهـــــا *** فقلتُ: لها سِـــرٌّ معَ المُدْنَفِ الصَّبِّ
فقالوا: وهل فيها منَ الحُسْنِ مَطْمَــعٌ *** فقلتُ: أَرَى فيها سَنَى الشَّرْقِ والغَرْبِ
على خَدِّها قُبْلاتُ عِشْقٍ سَكَبْتُهــــا *** وكَحَّلْتُ مِنْ ذَرّاتِها طُـرَّةَ الهُـــدْبِ
وإنْ غِبْتُ عنها ضَجَّ بيْ الشَّوْقُ والهَوَى*** إذا كُنْتُ مدفوعــاً إليهـا فما ذَنْبِي؟!
ورَبِّكَ إنْ جادَ الرَّبيعُ تَزَيَّنَــــــتْ *** بأزهارِها العذراءِ فَتَّانَةً تَســـْبِي
وليس بعيداً أنْ تَكُوْنَ رِحَابُهـــــا *** ظِلالاً ونَلْهُوْ في حدائقِها الغُـــلْبِ
وهكذا، يتردّد نمط هذه الصورة؛ فعَرْعَر هي المعشوقة، الغرّاء، الحُرّة. وإذا كانت قد بدت للشاعر سفينة تشقّ موج محيطها في صورة من شِعره، فإنها هنا، في صورةٍ بديلةٍ، شبيهةُ فرسٍ يعربيّة مشمّرة في مضمارها، موّارة بالجمال والحُلَى. أمّا الطبيعة فلا معنى لها إلا بمقدار ما يمنحها الحُبّ من المعاني، فالشمس قد تُضحي بالحُبّ ظِلاًّ، والبردُ قد يمسي دفئًا، والهجير روضًا من الأنسام تُغني من الطِّبّ. إنه سِرّ المكان الذي يدير عليه الشاعر حواره مع قومه حين يسألونه عن سِرّ ذلك العِشق، ولاسيما من شاعرٍ وُلد بين جمال الطبيعة منذ الطفولة، فإذا هو يُؤْثِرُ بلدةً صحراويّة كعَرْعَر على بلدةٍ غنّاء كفَيفاء. وتلك مذاهب العِشق، التي تحدّث عنها مجنون ليلى في "حُبّ الديار"، ومذاهب الشِّعر حين يبوح بما فعله المكانُ الإنسانُ بالإنسان. ولقد كان حُبّ الشاعر عَرْعَر صادقًا، لم تحمله عليه الضرورةُ، اللهم إلاّ في بداية الأمر، ولم يكن الإلف وحده ما طوّع ذاته لتقمّصه، بل هي حاجاتٌ نفسيّة وروحيّة، ذلك أن للأمكنة أسرارها كما للناس. وشاعرنا كان في سيرته وفي شِعره يضجّ بحُبّ عَرْعَر، وظلّ يحنّ إليها طيلة عمره. إنه الحُبّ القَدَر، كما تجسّد في قصيدة له عنوانها "عَرْعَر والقَدَر"(2)، يحكي فيها تاريخ عَرْعَر، كما عاصرها:
كانتْ ابياتاً مِنَ الشَّعَـــرِ *** تحتَ أمـواجٍ مِنَ الغَـبَرِ
فَوْقَ سَطْحِ القَفْرِ نائمــةً *** فَوْقَ صَدْرِ الرَّمْلِ والكَدَرِ
في تُخُوْمِ الأرضِ جاثِـمَةً *** في عُبُوْسِ اللَّيْلِ والضَّجَرِ
في لَهِيْبِ الصَّيْفِ- مُتَّقِداً- *** تَنْفُـثُ الأرواحَ مِنْ سَقَـرِ
والجَمادِ القرِّ- مُنْعَقِــداً- *** زَمْهَرِيْــرٌ بالـغُ الأَثَـرِ
جاهَدَتْ و الخَوْفُ يَسْكُنُها *** وانْبَرَتْ في مَوْعِدِ القَـدَرِ
وإذا الأَهْوالُ ذاهِبَــــةٌ *** وإذا الأَرْزَاءُ في خَــوَرِ
مَنْ رآها بَعْدَ مـا بَلَغَـتْ *** دُرَّةً مِنْ أَنْفَــــسِ الدُّرَرِ
لـم يُصَـدِّقْ أَنَّـهـا بُنِيَتْ *** فَـوْقَ هامِ الرِّيْحِ والعَفَـرِ
دِيْرَةٌ طابَــتْ لِقَاطِنِهــا *** مِنْ بَنِيْ قَحْطانَ أو مُضَـرِ
أَظْهَــرَ الوَادِيْ مَفَاتِنَـهُ *** تَاهَ بالإِسْــكَانِ والجُسُـرِ
**************
عَرْعَرَ البَيْدَاءَ يا بَلَــداً *** أَصْبَحَتْ مِنْ أَنْصَــعِ الغُـرَرِ
عَرْعَرٌ سَارَتْ على عَجَلٍ *** في ثِيَابِ الـدَّلِّ والخَـفَـرِ
دِيْرَةٌ جَاشَتْ بِنَهْضَتِهـا *** زَمْجَــرَتْ بالمَـدِّ لا الجَـزرِ
سُـوْقُها فاضَتْ مَوارِدُهُ *** بنَمِــيْرِ الـوِرْدِ والصَّــدَرِ
**************
قادَها شِبْلٌ مِنَ الجَلَوِيْ *** مُسْـتَنِيْـرُ الرَّأْيِ والبَصَــرِ
حاسِمٌ في كُلِّ نائِبَــةٍ *** مِثْلُ حَـدِّ الصَّــارِمِ الذَّكَـرِ
جاءَها واللَّيْلُ مُعْتَكِـرٌ *** فانْتَشَــتْ جَذْلَـى بمُنْتَـظَـرِ
مِثْلَ أُمٍّ "زَغْرَدَتْ" فَرَحاً *** بوَلِيْــدٍ عَـادَ مِنْ سـَـفَـرِ
هَلَّلَتْ واللهُ أَنْقَذَهــا *** مِنْ حَيـاةِ البُـؤْسِ والخَطَـرِ
والرِّمَالُ الحُمْرُ أَبْدَلَها *** جَـنَّـةً للبَـدْوِ والحَضَـــرِ
**************
[ونواصل]
* (رئيس لجنة الشؤون الثقافيّة والإعلاميّة في مجلس الشورى السعودي)
aalfaify@yahoo.com
http://alfaify.cjb.net
ــــــــــــــــــــ
(1) الفَيفي، سلمان، (2007)، مرافئ الحُبّ، تح. عبدالله بن أحمد الفَيفي (جازان: النادي الأدبي)، 54- 56.
(2) م.ن، 111- 114.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* "المجلّة الثقافيّة"، صحيفة "الجزيرة"، الخميس 28 محرّم 1431هـ= 14 يناير2010م، العدد294، ص8.
* للقراءة من المجلّة مباشرة.
|