لقد كان إنشاء القناة الثقافيّة السعوديّة مقترحًا ناديتُ به قبل سنوات من خلال أحد البرامج الحواريّة في قناة "الإخباريّة"، كما طالبتُ به وزير الإعلام السابق حين حضوره إلى مجلس الشورى، في مداخلة لي. كما أشرت مرارًا إلى أن الثقافة في بلادنا حريّة بقناة ثقافيّة احترافيّة لمواكبة نشاطات الثقافة المحليّة والعالميّة. ولقد كان تفاءَلَ كثيرون بأنه بضمّ الشأن الثقافي إلى وزارة الإعلام ستُمنح الثقافة حقّها على غرار الرياضة في أهون الأحوال، ولاسيما بعد ما تنادى إليه الجميع من حركة إصلاح فكري بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله، ومع نشوء مركز الحوار الوطني، وبالاتفاق على أن معالجة ظواهر فكرية واجتماعية- كالتطرّف والغلو مثلاً- لا يمكن أن تكون معالجة أَمْنِيَّة، بل قبل ذلك ومع ذلك وبعده يجب أن تكون معالجة ثقافيّةً فكريّة. هذا إلى جانب هدرٍ ثقافي محلّيّ يعوزه التوثيق والبثّ الإعلامي، كذلك الذي يجري من خلال مهرجانات مهمة، كمهرجان الجنادرية، ومهرجان سوق عكاظ، وغيرهما، إضافة إلى معارض الرياض الدولية للكتاب وفعالياتها، والنشاطات السنوية للجوائز العلمية والفكرية والأدبية، وفي طليعتها جائزة الملك فيصل العالميّة، وكذا فعاليات التنشيط السياحي في المملكة، وأنشطة الأندية الأدبية الثقافيّة المختلفة، وغير هذا كثير جدًّا. كل ذلك غذاء ثقافي متنوّع يمكن أن يستثمر، وهو يستأهل أكثر من قناة لا قناة واحدة، في مسعى إلى جعل الثقافة رئة وطنية، وجسرًا عالميًّا.
لقد آن إذن- من وجهة نظري- أن تكون لنا قنوات ثقافيّة، لا واحدة فقط، تسعى إلى الأهداف الاستراتيجية الوطنية المشار إليها. كما يمكنها- فضلاً عن ذلك- أن توصل صوتنا الثقافي إلى العالم، بلُغات مختلفة، وبدرجة أكثر نجاعة، وأقلّ كلفة، من الاتكاء على إقامة الأسابيع الثقافيّة خارج المملكة. شريطة أن لا يقتصر دور القنوات الإعلاميّة المنشودة على التغطية الإعلامية، بل تسهم في إثراء الحقل المعرفي والفكري بالتحليل والحوار. كما أنه ينبغي لقنوات كتلك أن لا تكون جافّة، محصورة في بث الندوات والمحاضرات، فتتحوّل إلى قاعات دروس وخُطَب، بل تضطلع ببث النشاطات المسرحية والفنّية والسينمائيّة، ونحوها. وكل هذا سيغدو من عوامل توطين هذه الفنون، التي لا حضور لها في الداخل، وإن كانت تسوّق في الخارج على أنها جزء من واقعنا الثقافي الحيّ! وهنا قد يكمن الخلل في إدارة الثقافة على نحو عصريّ فعّال، وفي تنظيم فعالياتها بصفة تراعي تعقيدات الحياة اليوم، وإتاحة تَلَقِّيها على نطاق واسع، وبأسلوب يواكب المستجدّات، بحيث لا يُحرم كثيرون من متابعة الأنشطة المختلفة والإفادة منها، ذلك الحرمان الذي ينشأ إمّا لتزامنها، أو لتعارضها مع ظروفهم، أو لبعدهم عن أماكن إقامتها. كما أن الأخذ بذلك سيلغي بعض العجز في فترات البيات الصيفي وغير الصيفي، التي تبدو خالية غالبًا من الحراك الثقافي.
إن الثقافة اليوم لم تعد: محاضِرًا يلقي دُرره السنيّة على الجماهير من علوّ منبره، وجماهير تتجشّم المشاق وتقطع المسافات للتحلّق حول المحاضِر، كي تتلقّف ما يلقي عليها وتهزّ الرؤوس!
أمّا وقد هلّ أوّل الغيث بالقناة الثقافية التي افتتحت مطلع العام الجاري، فإن التطلّعات تتمثّل في تفعيل التجربة بما يتناغم مع الأحلام السابقة. غير أن من الحقّ القول هنا إن الوقت الآن ما زال مبكّرًا جدًّا للحكم على التجربة أو نقدها. ففي تقديري أن القناة ما زالت في طور التسويق لنفسها، وهذا جزء من عملية نجاحها المستقبليّ المرتقب، وهو جزء مهمّ ينبغي عدم إغفاله، فكثير من الناس لم يسمعوا بعد بهذه القناة فضلاً عن أن يشاهدوها.
ـــــــــــــ
* استطلاع: عطيّة الخيراني، "المجلة الثقافيّة"، بجريدة "الجزيرة" السعوديّة، العدد 295، الخميس 6 صفر 1431هـ= 21 يناير 2010، ص5.
|