شِعريّة المكان في تجربة شاعر الشمال-7 :4.مقالات:إضبارة د.عبدالله الفـَيفي http://alfaify.cjb.net



شِعريّة المكان في تجربة شاعر الشمال
( مدينة عَرْعَر نموذجًا )- 7
بقلم: الأستاذ الدكتور عبدالله بن أحمد الفَيفي


كان الشاعر سلمان بن محمّد الفَيفي في سيرته وفي شِعره يضجّ بحُبّ مدينة عَرْعَر، وظلّ يحنّ إليها طيلة عمره. إنه الحُبّ القَدَر، كما تجسّد في قصيدة له عنوانها "عَرْعَر والقَدَر"(1)، يحكي فيها تاريخ عَرْعَر، كما عاصرها، حيث يقول:

كانتْ ابياتاً مِنَ الشَّعَـــرِ *** تحتَ أمـواجٍ مِنَ الغَـبَـرِ
فَوْقَ سَطْحِ القَفْـرِ نائمـةً *** فَوْقَ صَدْرِ الرَّمْـلِ والكَدـَرِ
في تُخُوْمِ الأرضِ جاثِـمَةً *** في عُبُـوْسِ اللَّيْلِ والضَّجَرِ
في لَهِيْبِ الصَّيْفِ- مُتَّقِداً- *** تَنْفُـثُ الأرواحَ مِنْ سَـقَـرِ
والجَمادِ القرِّ- مُنْعَقِــداً- *** زَمْهَرِيْــرٌ بالـغُ الأَثَــرِ
جاهَدَتْ والخَوْفُ يَسْـكُنُها *** وانْبَرَتْ في مَوْعِـدِ القَـدَرِ
وإذا الأَهْوالُ ذاهِبَــــةٌ *** وإذا الأَرْزَاءُ في خَــوَرِ
مَنْ رآها بَعْدَ مـا بَلَغَـتْ *** دُرَّةً مِـنْ أَنْفَـــسِ الدُّرَرِ
لـم يُصَـدِّقْ أَنَّـهـا بُنِيَتْ *** فَـوْقَ هامِ الرِّيْـحِ والعَفَرِ
دِيْرَةٌ طابَــتْ لِقَاطِنِهــا *** مِنْ بَنِيْ قَحْطانَ أو مُضَـرِ
أَظْهَــرَ الوَادِيْ مَفَاتِنَـهُ *** تَـاهَ بالإِسْــكَانِ والجُسُـرِ
**********
عَرْعَرَ البَيْدَاءَ يا بَلَــداً *** أَصْبَحَتْ مِنْ أَنْصَـعِ الغُـرَرِ
عَرْعَرٌ سَارَتْ على عَجَـلٍ *** في ثِيَابِ الـدَّلِّ والخَـفَـرِ
دِيْرَةٌ جَاشَـتْ بِنَهْضَتِهـا *** زَمْجَـرَتْ بالمَـدِّ لا الجَـزرِ
سُـوْقُها فاضَـتْ مَوارِدُهُ *** بنَمِـيْرِ الـوِرْدِ والصَّــدَرِ
**********
قادَها شِبْلٌ مِنَ الجَلَوِيْ *** مُسْـتَنِيْـرُ الرَّأْيِ والبَصَــرِ
حاسِمٌ في كُلِّ نائِبَــةٍ *** مِثْلُ حَـدِّ الصَّــارِمِ الذَّكَـرِ
جاءَها واللَّيْلُ مُعْتَكِـرٌ *** فانْتَشَــتْ جَذْلَـى بمُنْتَـظَـرِ
مِثْلَ أُمٍّ "زَغْرَدَتْ" فَرَحاً *** بوَلِيْــدٍ عَـادَ مِنْ سـَـفَـرِ
هَلَّلَتْ واللهُ أَنْقَذَهــا *** مِـنْ حَيـاةِ البُـؤْسِ والخَطَـرِ
والرِّمَالُ الحُمْرُ أَبْدَلَها *** جَـنَّـةً للبَـدْوِ والحَضَـــرِ
**********
يا عَرُوساً قد فُتِنْتُ بهـا *** زَهْرَةَ الرَّيْعَانِ مِنْ عُمُــري
أَصْبَحَتْ عَذْرَاءَ سـاهِرَةً *** في لَذِيْـذِ اللَّهْوِ والسَّـمَـرِ
غادةً أَرْخَـتْ ذوائِبَهــا *** فَوْقَ تَاجِ النَّجْـمِ والقَمَــرِ
حُـرَّةً غَيْـدَاءَ غانِيَــةً *** تَزْدَهِيْ بالحَـاضِرِ النَّضِـرِ
تَسْحـَبُ الأَذْيَـالَ رافِلَـةً *** في الأَمَانِ الوَارِفِ الخَضِرِ
سَابَقَتْ أَتْرَابَها وسَـمَتْ *** للـعُـلا ، للمَجْـدِ ، للظَّفَـرِ
عَطـَّرَتْ أَرْدَانَ رَائِدِهـا *** مِنْ عَـبِيْرِ الشِّـيْحِ والزَّهَـرِ
ضَـاعَ مِنْ أَفْوَافِها عَبَقٌ *** مِنْ نَسِيْمِ الرَّوْضِ في السَّـحَرِ
يَتَغَنَّـى وانْتَشَى طَرَبـاً *** في رُبـاهـا صَـادِحُ الشَّـجَرِ
يُبْـدِعُ الأَلْحَـانَ ساحِرَةً *** مِثْلَ صَـوْتٍ سَـالَ مِنْ وَتَـرِ
**********
كَمْ حَدَانيْ الشَّوْقُ مُسْتَعِراً *** للرِّيـَاضِ الخُضْـرِ للمَطَـرِ
أَرْتَوِيْ مِنْ عَذْبِهـَا وكـذا *** أَجْتَنِـيْ مِنْ يانِـعِ الثَّـمَـرِ
**********
عَرْعَرُ الجَرْدَاءُ قد لَبِسَتْ *** مِنْ بَدِيْــعِ الخَـزِّ والوَبَـرِ
فاهْتِفِيْ شَتَّانَ، يا بَلَـدي، *** بَيْـنَ رَأْيِ العَيْـنِ والخَـبَـرِ

إنها رحلة روحٍ في مكان، ألهمتْ صاحبَها قسطًا من ديوانه الشِّعري، وجُملةً من المعاني والصور. تؤكّد أن المكان هو الإنسان. ولعلّ ما أغرى الشاعرَ بحبّ عَرْعَر أكثر أنها وافقتْ شخصيّته، ببساطة تلك الشخصيّة، ونزوعها إلى الحريّة، والمجتمع الفطريّ، المفتوح نسبيًّا على مشارف أخرى. إنها تشبهه، أكثر حتى من بلدته الأُمّ: فَيفاء. فهو كما وصفه الشاعر صغيّر بن غريب بن عبدالله- في قصيدة بعنوان "سلمان"(2) ألقاها في حفل ثقافي أقامه نادي بدنة (عَرْعَر)، لتكريمه، في رمضان 1412هـ- إذ قال:

إيهِ سلمانُ لستَ من زمرةِ الغربِ، *** بـريءٌ من عالـم الأثريـاءِ
أنـت من عالـمٍ يؤرّقهُ الجُـرحُ *** ويسـمـو بروحـِهِ للنقــاءِ
شـاعرَ المجـدِ لم نكرّمكَ نحـنُ *** أنـت كرّمـتنا بطيـبِ اللقاءِ!

أمّا أنا فأقول من قصيدة "سلمان"، في رثاء الشاعر(3):

ما جَفَّ حِبْرُكَ في دَمِـيْ ، يا خَالي *** أَبَدًا ، ولا أَدَبٌ سَـرَى بِخَـيَـالِـي
.. وفَتَحْتُ قَلْبَكَ، عالَـمًا من أَنْجُـمٍ، *** وسَمَحْتَ لي ، فجلستُ حيثُ حلا لي
هذي حُرُوْفُكَ ، أم حُرُوْقُكَ، لم تـَزَلْ *** بالحُبِّ يُشْـعِلُ نَبْضُـها أَوْصـَالـي
هذي "طُرُوقُكَ" ، بَـدْؤُها والمُنْتـَهَى، *** طَـيْـرٌ بسِـدْرَةِ قلـبيَ الأَطْـلالِ
في كُـلِّ نُـوْنٍ لَفْـتَـةٌ حُـوْرِيَّـةٌ *** تُلـْقي على كَتِـفِ الزَّمـانِ سُـؤالي:
هلْ غـادرتْ مِنّي الأصَـابِـعَ نـَبْرَةٌ *** رُوحِيـَّـةُ التَّكـويـنِ والأفعَـالِ؟!
*********
إنْ أَوْحَـشَتْ مِنْكَ المسَـاءَ عُيُونـُنَا *** فعُـيُونُ شِـعْـرِكَ لَذَّتي ووِصَـالي
كَمْ كُنْتَ غَـضًّا، كالتَّحِيَّةِ ، مُشْرِقـًـا، *** جَزْلاً ، جَمِيْـلاً، أُمَّـةً بِحِـيالـي
قد كـان كأسُـكَ من ذَكـاءٍ كُـلُّــهُ *** أَشْهَى على كَبِـدِيْ مِنَ السَّـلْسَـالِ
فشَرِبْتُ صَوْتَكَ، صافِـيًا، تَرْوي بِــهِ *** سَـمْتَ الكُهُـوْلِ وشِقْوَةَ الأَطْفَالِ
"في البحـرِ يسـبحُ بي خيالٌ مُغـْرِقٌ" *** غَنَّى القصيدُ. فهام كُـلُّ جـَمَـالِ!
ولقد كَتَبْتَ بغَيـْمَـةٍ خَضْـراءَ خـا *** تـمـةَ البروقِ وجمرةَ الإشـْعـَالِ!
نَهْرًا من الحِـبْرِ المضِـيءِ ، فرادِسًا *** من فاكهـاتِ الفِـكْـرِ والأمثـالِ!
سُبـْحانَ مَنْ وَهَبَ المَواهِـبَ للوَرَى *** وحَـبَـاكَ منها أَنـْجـُمًا ولآلـي!
صَـوْتٌ نَمِـيْرٌ، مـاؤُهُ مُـتَـهَـلِّلٌ *** غَسَـلَ الفُـؤادَ بِقَطْـرِهِ الهَـمـَّالِ
فـرَبَتْ عُرُوْقُ الأرضِ ، والإنسانِ، لو *** أنّ الحجـَارةَ تُسْـتَـثارُ لِغـَالي
لهفا رسـولُ العِشْقِ مِنْ حَدَق الذُّرَى *** يَنْعِيْكَ، يا لُـغـَةَ الضَّـميْرِ العـَـالي!
*********
إنْ قِيْل: إنّ الشِّعْرَ تـُلْهِـمُهُ الرُّؤَى، *** سأقُوْلُ : شِـعْرُكَ رُؤْيَـةُ الأَجْيـَالِ
في كُلِّ بيـتٍ ألْـفُ عـَيْنٍ ، كُـلَّما *** أَنْشَدْتَهُ جاشـَتْ شِـعـافُ جِـبالي
تـَرْمِـي قوافـيَ كالنيـازكِ تـارةً *** وقوافـيـًا كـعواسـِلٍ ونِصــَالِ
وتُـنضـِّدُ الإحسـاسَ كاذًا يـانِعـًا *** بـاقـاتـُهُ مَـلأتْ عَـلَيَّ سِـلالِي
ورأيـتُ في أُفُـقِ التَّلَـقِّي أدمُــعًا *** مـلأتْ كـتابَ الحُـبّ والإجْلالِ
بجَـمالِهـا وجَـلالِهـا، بنِسـائِـها *** ورِجـَالِـها ، وبـأذْرُعٍ وتــِلالِ
فَيْـفاءُ منكَ اليَوْمَ تَـبْـكي شـاديـًا *** مَـسَحَ الدُّمـوعَ بصَوْتِهِ السَّيـَّالِ!
*********
- سـلمانُ، يا سَيْـفًا تساقَطَتِ الظُّبَى *** وبَقِيْتَ وحْـدَكَ صَـارِمَ الأهْـوَالِ!
أنـتَ الحِكايـةُ ، يا ابنَ آدمَ، قُلْ لَـنا *** كيفَ أرتـأيـتَ حِكـايةَ الآجَـالِ؟
- مـنذُ الطُّفُولـةِ عِشْتُ "أيُّوبًا"، إلى *** أنْ مـاتَ صَبْرُ الصَّبْرِ في التَّرْحَالِ!
مـا ذُقـْتُ لونـًـا واحِـدًا مِنْ لَـذَّةٍ *** إلاّ بـهِ قـزَحٌ مِــنَ الأثْـكَــالِ!
ضَمّـدْتُ بالجُرْحِ الجِـرَاحَ، ودونـَها *** سَـرَطَانُ بَحْرِ المَوتِ فِـيَّ يُوالِي
قَضـمَ الشَّبابَ – جَهَالَةً – لم يَدْرِ ما *** فَعَلَتْ يـداهُ بصَـفْـوَةِ الأشْـبَـالِ!
ما راعَني الموتُ الـزُّؤَامُ مُصَافِحًا *** إذ راعَ كُـلَّ فرائـصِ الأبـطـالِ!
..............

[ونواصل]

* (رئيس لجنة الشؤون الثقافيّة والإعلاميّة في مجلس الشورى السعودي)
aalfaify@yahoo.com

ــــــــــــــــــــ
(1) الفَيفي، سلمان، (2007)، مرافئ الحُبّ، تح. عبدالله بن أحمد الفَيفي (جازان: النادي الأدبي)، 111- 114.
(2) م.ن، 24.
(2) (2005)، فَيفاء، (دمشق: اتّحاد الكُتّاب العرب)، 146- 150.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* "المجلّة الثقافيّة"، صحيفة "الجزيرة"، الخميس 13 صفر1431هـ= 28 يناير2010م، العدد296، ص10.
* مع الاعتذار للخلل الفني الذي نتجت عنه أخطاء غريبة في المقال المنشور في الصحيفة بتغيير أماكن الحركات التشكيليّة.





للتعليق على الموضوع: اذهب إلى ساحة نقاش الإضبارة!

شكرًا لاطّلاعك على هذه الصفحة!

جميع الحقوق محفوظة ©