يقول (ألبرت أينشتاين):
"إنّ كلّ ما فعلته في حياتي هو أنْ طرحتُ بعض الأسئلة!"...
وما نفعله دائمًا هو أن نطرح بعض الأسئلة منذ طفولتنا، لكنّ هناك من يحرّم السؤال، سواء على الأطفال أو الكبار، باسم العيب، والحرام، والتراث، والسَّلَف والخَلَف.. إلخ. ولا يمكن لثقافةٍ كهذه أن تقوم لها قائمة وهي تقمع غريزة السؤال في الإنسان، ناهيك عن أن تتقدّم؛ فالسؤال مفتاح ذلك كلّه. ومن هذه الممنوعات، أو شبه الممنوعات، أن يأتي أحدٌ اليوم ليعيد التساؤل حول التراث العربيّ والإسلاميّ.
- ومَن أنت، يا مَن تَزَبَّبْتَ وأنت حُصرم؟! أتتطاول بالسؤال حول علمائنا وسلفنا المنزّهين عن ألسنة الأسئلة والجدال؟ لقد هَزُلَتْ وبان هزالها!
وأولئك هم مَن كان يسمّيهم (أبو حامد الغزالي)(1)- وإنْ في سياقٍ آخر-: "الحوشيّة"، مِن المقلّدين الذين يُؤتَون من قِبَل ضَعفِ العقول وقِلّة البَصَر. وكلام الغزاليّ يَصْدُق على هؤلاء في هذا السياق، وإنْ كان الغزاليّ نفسه لا يعدو أن يكون آيةً من آيات العقل الخرافيّ في تراثنا، في كثيرٍ من طرحه.. ولذلك فإن من الطرائف أن يُدعَى مثله: "حُجَّة الإسلام"، أو أن يؤلِّف هو: "المنقذ من الضَّلال".
على أن لا فرق كبيرًا بين مختلف (حُجَج الإسلام)، فهم في الفكر متقاربون، مذ غيّبوا العقول، ومذ "اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً"، من حيث هو منهاجٌ جامع. ذلك الكتاب الذي لو أخذ به المسلمون، ما ضلّوا إذن أبدًا، ولا تشتّتوا، ولا صاروا أبطال مسرحيّة تراجيديّة أمام العالم يتفرّج عليها صباحَ مساء. باختصار، لكانوا: أُمّة واحدة. إذ لا يكاد يوجد بين المسلمين في القرآن اختلاف، إلاّ مع مَن تأوّل منهم، أو قرأ النص قراءة باطنيّة، لا عربيّة هي ولا منطقيّة. غير أنهم قد افترقوا في قرون التاريخ الإسلاميّ السياسيّ- ووفق عقليّة التقليد المشار إليها- إلى ثلاث شُعَبٍ، هي الكبرى، ومن دونها عشرات الفروع، كلّ شُعبة بما لديها فرحة، ترى أنها الفرقة الناجية، ومَن خالفها في جهنم وبئس المصير:
1- شُعبة غَلَت في المرويّات، وتكثّرت منها، وجعلتها دينها وديدنها وشُغلها الشاغل، والمهيمنة على دلالات القرآن. والأصل أن يكون القرآن هو المهيمن على ما سواه، والفيصل في كلّ أمر: "وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ، مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ، وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ. فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ، وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ. لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً، وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً، وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم؛ فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ". [المائدة : 48]. هذا على الرغم من أن الرسول- صلى الله عليه وسلّم- قد نهى عن تدوين ما سوى القرآن من مرويّات، ومحا بيده ما جيء إليه به مكتوبًا من ذلك في حِجّة الوداع، موجّهًا إلى أن كتاب الدِّين الجامع المانع هو: القرآن، لا ريب فيه ولا زيادة عليه. كما كان أبو بكر قد هَمَّ بالتدوين لمرويات الحديث، وهَمَّ من بعده عمر، ثم أتلفا ما جمعا من ذلك، خوفًا من هذه المتاهة التي وقع فيها المسلمون في روايات دُوّنت بعد عشرات السنين من وفاة الرسول، وصُحّحت وَفق شروطٍ منهاجيّة بحتة، لتصبح بعدئذ مخاضًا مريرًا للخلاف والتمذهب، لا أوّل له بين المسلمين ولا آخر له. وهكذا، فباستثناء السنة العمليّة التطبيقيّة، كان هناك في الصدر الأول للإسلام تحفّظٌ، وأحيانًا تحذيرٌ صريح ونهيٌ شديد، عن تلك المرويّات، وكتابتها، اكتفاءً بالقرآن، وشواهد ذلك متعدّدة. فلقد ورد عن الرسول، مثلاً، فيما يورده (مُسْلِم)، في صحيحه، (شرح النووي، ج18)، قوله: "لا تكتبوا عنّي شيئًا سوى القرآن. ومَن كَتَبَ عنّي غير القرآن، فليمحه!" كما أورد (البغدادي، الخطيب، تقييد العلم، تح. يوسف العش (ط. دمشق: 1949)، 34)، روايةً عن أبي هريرة: "خرج علينا رسول الله ونحن نكتب الأحاديث، فقال: "ما هذا الذي تكتبون؟"، قلنا: "أحاديث نسمعها منك." قال: "كتابٌ غير كتاب الله؟! أتدرون؟ ما ضلّ الأُمَم قبلكم إلاّ بما اكتتبوا من الكُتب مع كتاب الله تعالى"." وجاء في (الذهبي، تذكرة الحُفّاظ، (ط. الهند: 1333)، 1: 3): أن أبا بكر الصدّيق جمع الناس، فقال: "إنكم تحدّثون عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشدّ اختلافًا، فلا تحدّثوا عن رسول الله شيئًا، فمن سألكم فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله، فاستحلّوا حلاله وحرّموا حرامه." وجاء فيه (1: 5)، رواية عن الحاكم، عن عائشة، قالت: "جَمَع أبي الحديث عن رسول الله- صلى الله عليه وسلّم-، فكانت خمس مائة حديث، فبات يتقلّب، ولمّا أصبح، قال: أَيْ بُنَيَّة، هَلُمِّي الأحاديث التي عندكِ، فبعثته بها فأحرقها. وقال: خشيتُ أن أموت وهي عندكِ، فيكون فيها أحاديث عن رجلٍ ائتمنتُه ووثقتُ به، ولم يكن كما حدّثني، فأكون قد تقلّدتُ ذلك." وكذا روى (ابن عبد البرّ، جامع بيان العِلْم وفضله، (المطبعة المنيرية)، 1: 64- 65)، عن عمر بن الخطّاب، أنه "طَفِق يستخير الله شهرًا، ثم أصبح يومًا وقد عزم الله له، فقال: إني كنتُ أريد أن أكتب السُّنَن، وإني ذكرتُ قومًا قبلكم كتبوا كُتبًا، فأكبّوا عليها، وتركوا كتاب الله، وإني والله لا أشوب كتاب الله بشيءٍ أبدًا." إلى غير هذا.
2- شُعبة من المسلمين تَهَرْمَسَتْ، وغَلَتْ- إلى جانب المرويّات- في سادتها، فادّعت لهم العصمة، والقداسة، وصوّرتهم، بمخيّلاتها الجانحة، أبواب العِلْم والهُدى والدِّين، لا يلج ملكوت رحمة الله ورضاه مسلمٌ إلاّ عبرهم!
3- شُعبة ثالثة غنوصيّة، غَلَتْ في مشائخ طرقها وأوليائها، فجعلتهم مراقيها إلى الفلاح والنجاح، بل إلى الله، وألبستهم من الكرامات الخرافيّة ما لا قِبَل به لبشرٍ، بما في ذلك الأنبياء.
وهكذا انحرفت تلك المناهج عن النصِّ الجامع، الذي قال فيه تعالى: "ما فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ"، [الأنعام : 38]. فمنهم من جعل دِينه تقليد المرويّات، ومنهم من جعله تقليد الأئمة، ومنهم من جعله تقليد الأولياء. والجميع في العقليّة ما قبل الإسلاميّة- من تولّي البشر: (روايةً، أو نَسَبًا، أو مكانةً)- سواء. وهم جميعًا سواء في التقليديّة، التي هي بضدّ دعوة القرآن ومنطقه أصلاً، مذ جاء خطابًا صريحًا: بضدّ التقليد، وضدّ السلفيّة، وضدّ اتّباع البشر، كائنين من كانوا، إلاّ فيما أرسل اللهُ به الرسلَ منهم. ذلك أن منطق القرآن هو منطق العقلانيّة الروحانيّة، والحريّة المطلقة، وربط الإنسان ربطًا مباشرًا بالله، بلا وسيط ولا شفيع ولا كهنوت: "اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ، الْحَيُّ الْقَيُّومُ، لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ، لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ. مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ؟ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ، وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ، إِلاَّ بِمَا شَاء، وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ، وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ." [البقرة: 255]. وهنا تتمثّل ألوهيّة الخالق، وتتجسّد عبودية المخلوق وكرامته في آن، في تخليصه من التبعيّة لغير الله. لكن هيهات، إن الإنسان كان ظلومًا جهولاً. ما لبث أن استدارَ، والتفَّ، وغَيَّرَ المصطلحات وأبقى المضامين، ولَبَّسَ المفاهيم، وزَوَّرَ التقاليد، ليُعيد تبعيّات الجاهليّة جذعةً في صورٍ مموّهة. حَدَث ذلك منذ نهايات الصدر الأوّل للإسلام، الذي إنما كان لدى كلّ خلافٍ طارئٍ يرفع شعار: "حسبنا كتابُ الله وحده"، والذي كان ينظر أهلوه إلى الناس سواسيةً، لا طبقيّة، ولا عنصريّة، ولا تفاضل: "كلّهم لآدم، وآدم من تراب".. حتى الرسول لم يكن الصحابة يرفعونه عن بشريّته؛ لأن القرآن قد قال عنه: "قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً"، [الإسراء: 93]، فكانوا يحاورونه ويناقشونه ويراجعونه، إلاّ فيما جاء وحيًا إليه من ربه. وهو فقهٌ انتهى- للأسف- بظهور المدارس الفقهيّة المسيّسة، التي اصطُنعت كأسلحة مبارزةٍ يقارع بها بعض المسلمين بعضًا، ويُذبّ بأسنّتها عن هذا التيّار أو ذاك؛ إذ ما كان منطق القرآن ليُسعف أحدًا من الفرقاء في تلك المعارك الضارية؛ لأن منطقه منطق العدل والعقل والمساواة والحقّ المطلق، لا محاباة فيه ولا نَسَبَ بينه وبين أحدٍ من العالَمين. وإذن، فمَن كانت له حيلةٌ فليحتل، والحرب خداع! ففرّقت تلك المدارسُ- التي نشأت في ظلّ السيوف والصولجانات- بأفعالها وردود أفعالها، الأمّةَ أيدي سبا، ومزّقت المسلمين كلّ ممزّق: مذاهب، وطوائف، وطوائف طوائف، لا يحصيها المحصون كثرةً وتناسلاً، لا تكاد تتّفق إلاّ على منهجٍ واحدٍ: التعصّب، وادّعاء الحقيقة الأولى والأخيرة، التي لا يزيغ عنها إلاّ هالك!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: (1969)، الاقتصاد في الاعتقاد، تح. عادل العوا (بيروت: دار الأمانة)، 69.
aalfaify@yahoo.com
....................................................................................................
* "المجلّة الثقافيّة"، صحيفة "الجزيرة"، الخميس 2 ربيع الآخِر1431هـ= 18 مارس 2010م، العدد302، ص6.
* للقراءة من المجلّة مباشرة.
|