«طريق الشعر إذا أدخلته في باب الخير لان. ألا ترى شعر حسّان بن ثابت كان علا في الجاهلية والإسلام، فلما دخل شعره في باب الخير من مراثي النبي صلى الله عليه وسلم وحمزة وجعفر رضوان الله عليهما وغيرهم لان شعره، وطريق الشعر هو طريق الفحول مثل امرئ القيس وزهير والنابغة من صفات الديار والرحل والهجاء والمديح والتشبيب بالنساء وصفة الحمر (الخمر؟) والخيل والحروب والافتخار، فإذا أدخلته في باب الخير لان».
(الأصمعي، المرزباني: الموشح:56).
قام الجدل قديماً وحديثاً حول كلمة الأصمعي هذه، فدافع أصحاب الاتجاه المثالي الأخلاقي في الأدب ضدّها، ظنّاً أن مفهومها ينفي صلاح الأدب بصلاح الأخلاق.
والحق إن الواقع يثبت صدق منظور الأصمعي ذاك، شئنا ذلك أم أبينا، غير أن هذا يقتضي الإيضاح والتفسير: لِمَ يقوى الأدب في الشرّ ويضعف في الخير؟ وما معنى القوة والضعف ها هنا؟
إن تلك المقولة تفسّرها مقولات أخرى، كقول القائل: "إنّ الخيّرين قليل!". وهذا يستدعي الزعم بأن الشر ونوازعه كثير في بني البشر غالب على الخير. أي أن قوة الأدب بالشرّ تتأتى من كونه يستجيب أو تستجيب له حاجات إنسانية ونوازع عالمية، لا تخص جنسًا ولا ديناً ولا فئة. فشعر الحرب مثلاً أو الجنس يجد صداه لدى كل إنسان تطهيراً أو إرواء، قبولاً أو رفضاً، استحساناً أو استقباحاً، وكل أولئك استجابات تخدم رواج الأدب وازدهاره.. في حين تستجيب لأدب الخير والإصلاح فئة مثالية تظل محدودة، مهما كان التفاؤل فئة تسامت على طبيعتها البشرية. وهي تستجيب لذلك النمط من الأدب استجابة امتثالية، لا لما فيه من إبداع بالضرورة، بل لما فيه من مضامين فكرية وأيديولوجية ترضي توجهاتها الخيّرة. وبين محدودية جمهور هذا النوع من الأدب وطريقته في التفاعل والحكم يكمن ضعف أدب الخير.
إن نظرة الأصمعي للقضية نظرة واقعية صادقة. لا تدعو إلى الاحتفاء بالشر، كما يخيّل إلى دعاة الأدب الأخلاقي فيقفون موقفهم منها، بل تقرر حقيقة إنسانية وواقعاً بشريا.
هل من شكٍّ في خيرية الأصمعي إذن؟ لا، ولكن ما العمل إذا كان الأدب نكدٌ والطبيعة البشرية نكِدة كذلك، (فطرة الله التي فطر الناس عليها)؟!
لا حيلة في الجمهور المتلقي، فسيظل السواد الأعظم منه يتهافت على أنواع من الأدب ترضي غرائزه البشرية، وهذا أمر طبعي، بيد أن الحيلة يمكن أن تكون من قبل المبدع نفسه. فليس كل الأدب يقوى بالشرّ ضربة لازب، فقد قوي شعر كثير من الشعراء في فلسفة الحياة وحكمتها (شعر المتنبي أو المعري مثلا). فالحيلة تكمن من جهة المبدع في: موهبة عميقة، وأداة قوية، وفوق هذا وذاك في تفاعل حيّ مع قضيته، لا تبنياً شاعريّاً صرفاً لا يمازج النفس ويخامر الروح. وبلفظ آخر: أن يكون المنشىءُ صادقاً، عاطفياً وفنياً، في ما يقول. وعندئذ ستجتمع للأدب حُسنيا القيمة الفنية والأخلاقية. وقد رأى (ت.س.إليوت): أن ضعف الشعر الديني مرجعه إلى نوع من النفاق الديني، ذلك أن الذين يكتبون الشعر الديني إنما يكتبون عمّا كانوا يودون أن يحسّوا به لا عمّا يحسّون.
غير أن هذه المعادلة هي من صعوبة التحقق بحيث لا يظفر الباحث عنها إلا بنماذج نادرة. قد لا يكون منها أبو العتاهية وأضرابه على سبيل المثال، وذلك لتغليب القيمة الأخلاقية على قيمة البناء الفني، إلا أن نموذجاً كشعر (الشاعر الهندي إقبال)، بتوازي شعريته الدينية وقيمته الفنية، سيكون حتماً منها.
لقد كانت هذه الحقيقة وراء تفهم الإسلام طبيعة الشعر والشعراء وتسامحه معهم، وإغضاء الرسول وصحابته وعلى رأسهم عمر، بشدته المعهودة في الحق، عن الشعراء، الذين يقولون مالا يفعلون، وإن تداولوا في قول الشعر مالا يجوز السكوت عنه في غير السياق الشعري. بل أكثر من هذا، كان الإصغاء إلى الشعر والتشجيع عليه والترحيب به يقع في مجالس الدولة الدينية وفي أقدس رحاب شعائرها الدينية الجديدة. هذا في حين كُبّلت حريات الشعراء، أو أريد لها أن تُكبل، أو أن ينفوا من المجتمع في شرائع أخرى، ليست أولاها مدينة أفلاطون الفاضلة ولا آخرها الواقعية الاشتراكية في مدينتها المنهارة.
من هذا المدخل الجدلي يمكن أن يُدلف إلى هذا الموضوع، لإعادة النظر في مسائل ملتبسة طالما اختصم حولها المبدعون والمتلقّون والنقاد عبر أجيال الثقافة الإنسانية عامة، إجابة عن سؤال محوريّ: ما المسافة الفاصلة بين الذهن والعاطفة في الأدب؟ من حيث إن هذين الجانبين من البناء النفسي هما ميدان التنازع بين لغة العقل والخير ولغة العاطفة والهوى والشرّ، ولاسيما في الشعر، لأنه ألصق الأنواع الأدبية بذلك التنازع الحاد. هل الأدب يضعف في الخير والحكمة لذات الخير والحكمة أم لعوامل أخرى؟
تلك أسئلة تتوقف لمحاولة الإجابة عنها مساقات لاحقة إن شاء الله.