ونحن نعيش أزهى حقب الاحتفاء بالشِّعر النبطيّ، ولاسيما بعد الملايين المبذولة في سبيل ترسيخه، والإعلام المسخّر لنُصرته- وهو توجّه لم يسبق له مثيل في التاريخ العربيّ، الذي ظلّ يرى اللغة العربيّة خطًّا أحمر دون انحلال الثقافة إلى ثقافات، واللغة إلى لُغيّات، والعرب إلى أعراب، والأُمّة الواحدة إلى أُمم شتّى- يدلّنا الاستقراء على أن لغة الشِّعر العربيّ قد بقيت فصيحة جزلة في البادية العربيّة، تحذو حذو شِعر العرب القديم، إلى القرن السابع الهجريّ تقريبًا. نقف على ذلك- مثلاً- في ما استشهد به (ابن خلدون)(1) ممّا يسمّيه بـ"الأصمعيّات"، من شِعر (بني هلال)، وذلك كقصيدة (سلطان بن مُظَفَّر بن يحيى)- وهو فارس من الزواودة، أحد بطون قبيلة رياح الهلاليّة- التي قالها في معتقله في مدينة المهديّة في سجن الأمير (أبي زكريّا بن أبي حفص)، أوّل ملوك أفريقيّة من الموحِّدين، (622- 677هـ)، ومنها:
يقول وفي بوح الدُّجَى بعد وهنة *** حرام على أجفان عيني منامها
مولّعة بالبدو ما تألف القُرى *** سوى عانك الوعسا يؤتي خيامها
وكم من رداحٍ أسهرتني ولم أرى *** من الخلقِ أبهَى من نظام ابتسامها
وكم غيرها من كاعبٍ مرجحنّة *** مطرّزة الأجفان باهي وشامها
أرى في الفلا بالعين أظعان عزوتي *** ورمحي على كتفي وسيري أمامها
بجرعا عتاق النوق من فوق شامس *** أحبّ بلاد الله عند احتشامها
إلى منزل بالجعفرية للّوى *** مقيم بها ما لذَّ عند مقامها
ونلقى سراة من هلال بن عامر *** يزيد الصدى والغلّ عني سلامها
بهم تضرب الأمثال شرقًا ومغربًا *** إذا قاتلوا قومًا سريع انهزامها
فدع ذا. ولا تأْسفْ على سالف مضى *** فذي الدنيا ما دامت لأَحْد دوامها
ووقد اخترتُ هذه الأبيات تحديدًا من القصيدة لأنها أوضح من غيرها دلالة على النسق الشعريّ العامّ، قويّ الصلة بالعربيّة وشِعرها القديم. وهو نسقٌ غالب، وإن تخلّله الضعف الفنّيّ والانحراف اللغويّ. ويُلحظ في الأبيات أنها من البحر الطويل. تذكّرنا قوافيها بمعلّقة (لبيد)، وإن كانت المعلّقة من البحر الكامل:
عَفَتِ الدِيارُ مَحَلُّها فَمُقامُها *** بِمَنىً تَأَبَّدَ غَولُها فَرِجامُها
وكلّ مفرداتها عربيّة فصيحة. ونسيجها شبيه بنسيج القصيدة الجاهليّة. بل ما زالت تُستعمل فيها الصيغ الجاهليّة ذاتها، كعبارة "فَدَعْ ذا..."، التي كانت لازمةً نمطيّة مألوفة لدى الشعراء للانتقال من فكرةٍ إلى فكرة في القصيدة، من مثل قول ابن مُقْبل العجلاني (وُلد 50ق.هـ تقريبًا= نحو569/ 570م، وكان حيًّا إلى 70هـ= 689/ 690م)(2)، متخلّصًا بـ"دع ذا" من رثاء (عثمان بن عفّان) إلى الغزل، وهو أوّل شاعر عربيّ يفعل ذلك:
يُطِفْنَ بِغِرِّيدٍ يُعَلِّلُ ذَا الصِّبَا *** إِذَا رَامَ أُرْكوبَ الغَوَايَةِ أَرْكَبُ
فَدَعْ ذَا. ولكِنْ عُلِّقَتْ حَبْلَ عَاشِقٍ،*** لإِحْدَى شِعَابِ الحَيْنِ والقَتْلِ، أَرْنَبُ(3)
وهو طَفْرٌ في التخلّص- كما سمّاه النقّاد- كان قد توارى من الشِّعر العباّسيّ وما تلاه من شِعر، إلاّ في قليلٍ منه، كقول (الصنوبري، -334هـ= 945م):
فدعْ ذا. وانثرِ اللؤلـ *** ـؤَ نثراً أَحسنَ النثر
أو قول (ناهض بن ثومة، -220هـ= 835م)(4):
فَدَع ذا. وَلَكِن قَد عَجِبتُ لِنافِعِ *** وَمَعواهُ مِن نَجرانَ حَيثُ عَواني
كما يرد ذلك في شِعر (ابن أبي حصينة، -457هـ= 1064م)، و(ابن قلاقس، -567هـ= 1172م)، و(البحر النعامي، من شعراء القرن السادس الهجريّ). ثم في شِعر بعض مقلّدي الشِّعر الجاهليّ في العصرين المملوكيّ والعثمانيّ. وبقاء مثل هذا التركيب في قصيدة الزواودي يدلّ على بقاء تلك الأنماط الصياغيّة العتيقة في شِعر البادية. ومع هذا، فقد أخذ الوهن يعتور البناء النحويّ في النصّ. ويبرز ذلك على نحو لا يمكن تلافيه في حركة حرف الرويّ (الميم)، التي لو أُجري عليها الإعراب، لكانت منصوبةً تارة مكسورةً تارة مضمومةً ثالثة، وهو ما لا يجوز في القوافي. على أن صعوبة نقل ابن خلدون لقصيدة شفويّة كهذه، فضلاً عمّا هي عُرضة له من تصحيف كتابيّ، هو مضطرَبٌ آخر، يَحُول دون معرفة كيف كان الشاعر يُنشد القصيدة؟ ولذلك فإن قول الشاعر "سوى عانك الوعسا يؤتي خيامها"، لعلّه: "سوى عانك الوعساء يُؤتَى خيامها". كما أن قوله "ولم أرى"، يمكن أن يكون: "ولم أَرَ"، مجزومًا الفعل، ومدّ حركة نهايات الأشطُر مألوفٌ في الفصيح والعامّي. وكذا قوله: "باهٍي وشامُها" يمكن أن يكون: "باهٍ وشامُها". هذا إلى ملحوظات أخرى تبدو تصحيفيّة أو تطبيعيّة، كقوله: "مقيم بها ما لذّ عند مقامها"، ولعلّه: "مقيم بها ما لذَّ عندي مقامُها"، وقوله: "يزيد الصدا"، هي: "يزيد الصدى"، أي العطش، وربما كانت: " يُزيلُ الصدى". و"عني سلامها"، لعلّها: "عندي سلامها". كما أن الشاعر يُكثر من قَصْر الممدود، في مثل: (بجرعا= بجرعاء). وهو ما تفشّى في شِعر الشعراء في العصور المتأخّرة، حتى الفصحاء منهم. ويَلزم في االشطر الأخير من البيت الأخير أن يُنطق: (فَذِدْدُنْ/ يمادامتْ/ لأَحْدِنْ/ دوامها). أمّا "عِزْوَة"، فكلمة لهجيّة متداولة إلى الآن. وهي في الفصحى: "عِزَة"، أي عُصبة، إلاّ أنها لم تُستخدم في الفصحى ببنائها الصرفيّ اللهجيّ: (عِزْوَة). جاء في (ابن منظور، لسان العرب المحيط، (عزا)): "العِزَة: الجماعةُ والفِرْقَةُ من الناسِ، والهاءُ عِوَضٌ من الياء، والجَمع عِزىً على فِعَل وعِزُون، وعُزون أَيضاً بالضم، ولم يقولوا: عِزات، كما قالوا: ثُبات؛ وأَنشد ابن برّي للكُميت:
ونحنُ، وجَنْدَلٌ باغٍ، تَرَكْنا *** كَتائبَ جَنْدَلٍ شَتىً عِزِينا
وقوله تعالى: عن اليَميِن وعن الشِّمالِ عِزِينَ؛ معنى عِزين حِلَقاً حِلَقاً وجَماعةً جماعةً. وعِزُونَ: جَمْعِ عِزَةٍ، فكانوا عن يَمِينِه وعن شِماله جماعاتٍ في تَفْرِقَة. وقال الليث: العِزَةُ عُصْبَة من الناس فَوْقَ الحَلْقَة، ونُقَصانُها واو. وفي الحديث: ما لي أَراكم عِزِينَ؟ قالوا: هي الحَلْقَة المُجْتَمِعَة من الناس، كأَنَّ كلَّ جماعةٍ اعْتِزَاؤها- أَي انْتِسابُها- واحِدٌ. وأَصلها: عِزْوَة، فحُذفت الواو، وجُمِعَت جمعَ السلامَةِ على غَيْر قياسٍ، كثُبِين وبُرِينَ في جمع ثُبَةٍ وبُرَةٍ."
ولا نعلم عن منزلة سلطان الزواودي الشعريّة في زمنه. فقد لا يكون من مُفْلِقِي الشعراء، وإنما اشتهر نصُّه للمناسبة التي قيل فيها. ومع هذا فالقصيدة دالّة على حال العربيّة بين شِعر البدو خلال تلك القرون، وأنها كانت عربيّة فصيحة توشك أن تكون كعربيّة العرب قبل الإسلام. وإذا كان هذا في شِعر هؤلاء البدو الذي غرّبوا إلى شمال أفريقيا(5)- ولا بدّ أن لغتهم قد اعتورها التأثّر بغيرها والتبدّل- فمن باب أولى أن لغة بدو الجزيرة- الشِّعريّة على الأقل- كانت إذ ذاك أشدّ حفاظًا على بنياتها الأصيلة وأكثر فصاحة وجزالة(6). ونخلص من هذا إلى استنتاج مهمّ، هو أن عاميّة البادية الشعريّة، إنما استفحل فيها الفساد صرفًا ونحوًا في القرون المتأخرة. أي منذ القرن الثامن الهجريّ. ولا شكّ أن الانحطاط العام، ثقافةً ولغةً ومجتمعًا وسياسة، الذي ساد العالم الإسلاميّ خلال هذه الحقبة، والاختلاط اللغويّ الذي نجم بين الناطقين بالعربيّة وغيرها من اللغات، كلّ ذلك كان وراء انحراف العربيّة أكثر فأكثر عن سويّتها. وهي عوامل كانت قد أثّرت في لغة القصيدة الفصيحة نفسها وأسلوبها، وأحرى أن يضحي تأثيرها أبلغ تشويهًا في الشِّعر العامّيّ، الذي يستعمل لغة الناس اليوميّة، كما هي، بعجرها وبجرها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) (2001)، مقدمة ابن خلدون، تح. درويش الجويدي (صيدا- بيروت: المكتبة العصريّة)، 588- 589.
(2) انظر: الفَيْـفي، عبدالله، (1999)، شِعر ابن مُقبل: قلق الخضرمة بين الجاهليّ والإسلاميّ (دراسة تحليليّة نقديّة)، (جازان: النادي الأدبي)، 76- 77.
(3) (1962)، ديوان ابن مقبل، تح. عِزَّة حسن (دمشق: وزارة الثقافة)، 18). والأرنب: المرأة المكتنزة.
(4) هو: "ناهض بن ثومة بن نصيح الكلابيّ العامريّ، من بني عامر بن صعصعة. شاعر بدويّ فارس فصيح، من شعراء العصر العباسي. كان يَقْدُم البصرة، فيُكتب عنه شعره، وتُؤخذ عنه اللغة." (الزركلي، خيرالدِّين، (1984)، الأعلام، (بيروت: دار العلم للملايين)، 8: 6).
(5) ومن اللهجات الوليدة عن لهجة بني هلال هؤلاء اللهجة الحسّانيّة بشعرها النبطيّ المعروف في موريتانيا. (انظر: ابن حريمو، يحيى بن محمّد، (الربيعان 1431هـ= مارس- أبريل 2010م)، "اللهجة العاميّة في موريتانيا: أصولها ومكانتها من الفصحى وأهمّيتها في فهم خبايا اللغة العربيّة"، (مجلة "العَرَب"، ج9و10، مج45، (دار اليمامة- الرياض)، ص ص 573- 602).
(6) ويؤكّد هذا مقالُنا بعنوان "التأريخ للعامّيّة"، الاثنين 9 ذي القعدة 1428هـ، حول نموذجٍ شعريّ من القرن التاسع الهجريّ، لشاعر اسمه (ناهش بن هريش). راجع الرابط:
http://www.al-jazirah.com.sa/culture/19112007/fadaat19.htm
aalfaify@yahoo.com
....................................................................................................
* "المجلّة الثقافيّة"، صحيفة "الجزيرة"، الخميس 8 جمادى الأولى1431هـ= 22 أبريل 2010م، العدد307، ص11.
* للقراءة من المجلّة مباشرة.
|