|
|
تطرّقتُ في مساق سالف بعنوان "مستقبل الوطن الواعد"، إلى كتاب الدكتورة سمر العطّار، الأستاذة في جامعة سدني "The Vital Roots of European Enlightenment: IBN TUFAYL'S ON MODERN WESTERN THOUGHT الجذور الحيويّة لعصر التنوير في أوربا: تأثير ابن طفيل على الفكر الغربيّ الحديث"، الذي يحوي محاولة لمكافحة عقليّتنا المريضة، وعقليّة الغرب المتمارضة. وتبيّن العطّار في كتابها تأثير فكر ابن طُفيل الأندلسيّ على مفكّرين أوربيّين في أوائل العصر الحديث، بدرجاتٍ متفاوتة، وبأشكال أو بأخرى، من أمثال: جون لوك، أيزك نيوتن، إيمانيوول كانت، جان جاك روسو، فولتير، وغيرهم، وذلك ما يظهر في كتبهم التنويريّة. ولاسيما ما تطرحه رسالة "حيّ بن يقظان" حول مفاهيم المساواة، والحريّة، والتسامح، تلك المفاهيم التي مهّدت للثورة الفرنسيّة. وما زال ذلك التأثير الفكريّ اللا مباشر ساريًا إلى اليوم. هذا إضافة إلى أن (نَبَأ حيّ بن يقظان)(1) كان من أهم الكُتب التي بشّرت بالثورة الصناعيّة، من خلال بعض تفاصيله في تصوير هذا الجانب الحضاريّ من رحلة الإنسان في الوجود. فضلاً عمّا هو معروف في الأدب المقارن من أن هذا العمل- الذي يبدو بمثابة أوّل رواية في العالم، على الرغم من قبولنا التقليديّ بأن مَوْلِدَ الرواية مَوْلِدٌ غربيّ، كقبولنا بأن مَوْلِدَ كلّ شيء مثمر غربيّ- قد تداولته أوربا كثيرًا بالسرقة والاقتباس والمحاكاة، منذ تُرجم إلى لغات مختلفة في النصف الأول من القرن الرابع عشر الميلادي، وما زال يُترجم إلى لُغات شتّى حتى اليوم. ولذا يذهب تشارلز بترووت أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة ميريلاند في تعليقه على كتاب العطّار إلى أن حيّ بن يقظان ينتمي إلى عصرنا، وأن رواية ابن طُفيل الفلسفيّة تلك أكبر من مجرّد كشف أسرار الفلسفة المشرقيّة التي كتب عنها ابن سينا، كما استقرّت عليه بعض القراءات التقليديّة السالفة. ويأتي كتاب العطّار ردًّا على الاعتقاد في استقلاليّة الفكر الغربيّ، وأن الغرب خُلقوا من طينة منتقاة خاصّة، مختلفة عن تلك التي خُلق منها سائر البشر. وهو تصوّر سطحيّ، جاهل أو متجاهل لسنن التاريخ والحضارات. بدأ منذ أوائل المستشرقين، كأمثال المستشرق رينان، وامتدّ إلى وريث العنصريّة الغربيّة الأحدث صاموئيل هنتينغتون، في كتابه "صراع الحضارات"، الذي "يؤكِّد أن الغرب يختلف تمامًا عن الحضارات الأخرى في قِيَمه ومؤسّساته، التي تشمل المسيحيّة، التعدّديّة، الفرديّة، واحترام القانون؛ ممّا ساعده على اكتشاف الحداثة [كذا]، والتوسّع في العالم، وصار عُرضة للحسد من كلّ المجتمعات الأخرى. ويستشهد بآرثر م. شليسنغر، قائلاً: "إن أوربا هي المصدر الفريد بنوعه لكلّ هذه الأفكار حول حريّة الفرد، الديمقراطيّة السياسيّة، احترام القانون، حقوق الإنسان، والحريّة الثقافيّة. هذه هي أفكار أوربيّة وليست آسيويّة، أو أفريقيّة، أو شرق أوسطيّة أو بالتبنّي"."(2) وهي رؤية تدّعي ثبات التاريخ، وأن الحضارة يمكن أن تنشأ هكذا دون روافد، وفي جنسٍ بشريّ واحد معزول عن إنجازات الآخرين! وتلك رؤية إطلاقيّة عتيقة، تبعث على الإشفاق أكثر ممّا تستأهل الردّ. ولها بواعثها المختلفة أو المتضافرة، من نوازع عنصريّة، وعوامل عماء بمسيرة التاريخ، ونشوء الحضارات وتطوّراتها. وليس تجنّيًا القول إنها قد ظلّت لدى الغرب الاستفادة من الحضارة العربيّة الإسلاميّة متزامنة والجحود بمصادر معارفهم غالبًا، والطمس التاريخيّ، أو المتعمّد، لما أفادوه من الشرق الإسلاميّ أو المغرب الأندلسيّ، لا لشيء سوى أن ذلك التراث الفاعل يجب إنكاره أو محوه لأنه تراث عدوٍّ تاريخيٍّ، دينيٍّ وسياسيٍّ، والاعتراف به نقيصة في كبرياء الشخصيّة الغربيّة في العالم. وفي المقابل ظلّ بعض العرب ينكرون ذلك الإسهام للحضارة العربيّة الإسلاميّة، ولا يرون إلاّ الصورة الغربيّة الحديثة المصدّرة إليهم، ويردّدون كالببغاوات مقولاتها المنحازة الإقصائيّة؛ لأنهم أوّلاً يجهلون تراثهم جهلاً مطبقًا، أو يعرفونه معرفة سطحية عامّة، وهم إلى ذلك مهووسون نفسيًّا بتلك الصورة الغربيّة الحديثة المصدّرة إليهم، مضلَّلون بها ذهنيًّا، فضلاً عن أنها أضحت عنوان الاستنارة لديهم والفكر الحديث، الذي يودّون أن يستظلّوا بظِلّه، يوم لا ظِلّ إلاّ ظِلّه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * "المجلّة الثقافيّة"، صحيفة "الجزيرة"، الخميس 22 جمادى الأولى1431هـ= 6 مايو2010م، العدد309، ص9. * للقراءة من المجلّة مباشرة. |
|
شكرًا لاطّلاعك على هذه الصفحة! |
جميع الحقوق محفوظة ©