تلعب العادات والتقاليد أدوارًا عميقة في ترسيخ القِيَم، بخيرها وشرّها، حقّها وباطلها، عادلها وظالمها، ومنح تلك القِيَم من القداسة في النفوس ما يجعلها تستحيل مع الزمن إلى محرّمات اجتماعيّة، "تابوات Taboos"، يُعدّ نقدها، أو الدعوة إلى مراجعتها انتهاكًا لما يُحظر الاقتراب منه أو مسّه. وفي القِيَم العربيّة إلى ذلك ما ينظر إليه بحسب الجنس الذي يقترن بها، من ذكرٍ أو أنثى. ما يعني أن القيمة تتشكّل في حسبان الناس سلبًا وإيجابًا بحسب حاملها، ووفق موقف المجتمع الثقافي من حامل تلك القيمة. ومن ذلك قيمة (الغيرة)، على سبيل المثال، حيث اقترنتْ قيمةً بالرجال في مواقفهم من النساء أو في غيرتهم عليهنّ، حتى قالوا في حِكَمهم: "كُلُّ شيءٍ مَهَهٌ، ما خلا النساءُ وذِكْرُهُنّ"، "أي كل شيء جميل ذِكْرُهُ إلا ذِكْرُ النساء."(1) وجاء في أمثالهم: "أغيرُ من الفَحْل"، و"من جَمَل"، و"من ديك".(2) ولولا غيرة الرجال على النساء الباعث على اتهامهم لهن لما قال (حُجْر بن عمرو) مثلاً:
كُلُّ أنـثى وإن بدا لك منـها***آيـةُ الـوُدّ حُـبّها خَيْـتَعُورُ
إنّ مَنْ غَـرَّهُ النسـاءُ بشيءٍ***بَعـْدَ هـِنْدٍ لجاهلٌ مغـْرورُ(3)
ولا قال (الطفيل الغنوي)(4):
إنّ النساءَ كأشـجارٍ نبتْنَ معـاً***منها المُرارُ وبَعْضُ النَّبْتِ مَأْكُوْلُ
إنّ النساءَ متى يُنْهَيْنَ عن خُلُقٍ***فإنه واجــبٌ لا بُـدَّ مَـفْـعُوْلُ
لا يَنْصَرِفْنَ لرُشْـدٍ إنْ دُعِيْنَ لَهُ***وَهُـنّ بَعـْدُ مَلائيـمٌ مخاذيْـلُ
بل لولا الغيرة المريضة لما بلغ الأمر ببعض العرب إلى وأد البنات(5)، الذي حكت الآيات القرآنية عنه، وعن أن مصاب العربيّ في مولودة تولد له كان جللاً، وسواد وجه، يجعله بين خيارين لا ثالث لهما: الإبقاء على ما ابتُلي به، ومن ثَمّ على هُونٍ سيلحقه بسببه، وهذا أمر يكاد يكون مستحيلاً حسب الأَنَفَة العربيّة وفق تصوّرها العربيّ، وأين سيواري وجهه من القوم وقد صار أبًا لبنت؟! والخيار الآخر، وهو الأسهل والسائغ في بيئة ترى الموت طريقًا لمحو العار: وأد البنت في التراب والتخلّص من شرّها: ?وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ. وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ. يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ، أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ.?. (النحل: الآيات 57- 59). وإذا كان الوأد قد انتهى في الممارسة بمنع الإسلام قتل الأولاد (ذكورًا وإناثًا)، فقد استمرّت فكرةُ وأد البنات حيّة في بعض نفوس الإسلاميّين، تمتح من ذاكرة الوأد العريقة، التي سجّلها القرآن. يفضح ذلك، على نحوٍ مباشر، ما يسوقه (الماوردي)(6) من أن (عقيل بن علّفة) لما خُطبتْ إليه ابنته الجرباء، ارتجز:
إنِّي وإنْ سيقَ إليَّ المَهْـرُ
ألفٌ وعِـبدانٌ وذَوْدٌ عَـشْرُ
(أحـَبُّ أصهـارٍ إليَّ القَبْرُ)
كما أورد قول (عبدالله بن طاهر):
لكُلِّ أبٍ بِنْتٌ يُراعي شُـؤونَها***ثلاثةُ أصهارٍ إذا حُـمِدَ الصِّهْـرُ
فَبَعْلٌ يُراعيها، وخِدْرٌ يُكِـنُّها،***وقَبْرٌ يواريها ، (وأفضلُها القَبْرُ)!
وقال (أبو العلاء المعرّي)(7)، "فيلسوف الشعراء، وشاعر الفلاسفة!"- ويا للمفارقة في هذه الألقاب مقارنة بعقليّة الرجل!:
وإنْ تُعْطَ الإناثَ ، فأيّ بُؤْسٍ***تَبَيَّنَ في وُجُوْهِ مُقَسَّماتِ!
يُرِدْنَ بُعولةً ويُردْنَ حَـلـْياً***ويَلقينَ الخطوبَ مُلوّماتِ
ولسـنَ بدافعاتٍ يومَ حـربٍ***ولا في غارةٍ متَغَشِّماتِ
ودَفْنٌ والحوادثُ مُفْجِعـَاتٌ***لإحداهنَّ إحْدَى المَكْرُماتِ
وقد يفقدنَ أزواجـاً كِرامـاً***فيا للنسـوةِ المتأيّمــاتِ
يَلِدْنَ أعـاديًا ويكُـنَّ عـاراً***إذا أمسينَ في المتهضَّماتِ
و"فيلسوف الشعراء، وشاعر الفلاسفة" هذا إنما يحذو حذو أسلافه، ويأخذ عنهم، ومنهم (البحتري)، الذي وضع المعرّي عنه كتابه "عَبَثُ الوليد". فالبحتري هو الذي لم يمنعه موقف العزاء في ابنة (محمد بن حميد الطُّوسي) من أن يستنكر عليه الحُزن على بنته، فأخذ يعزّيه بأن "موت البنات لا يستحقّ البكاء"، أصلاً، والبكاء عليهن ليس من شيم الفِتْيان، مستشهدًا بأسلافه من الجاهليين، ومنهم (قيس بن عاصم المنقريّ)، الذي كان يئِدُ كلّ بنتٍ تولد له، رغم ضرب العرب المثل به في الحِلْم، والقائل، وقد سئل ما الحِلْم؟: "أن تصل من قطعك، وتُعطي من حرمك، وتعفو عمَّن ظلمك!"(8) بل يذهب البحتري إلى أبعد من هذا، فيستشهد تارةً بالقرآن، حيث الآية: ?الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا? (الكهف:46)- ولم يقل "البنات" حسب احتجاج الفقيه البحتري- وتارة أخرى يُشرك الأنبياء في فكرته الجاهليّة، وثالثة يستشهد بالأسطورة- غير الإسلاميّة- عن الخطيئة وإخراج حواء آدم من الجنة، إذ يقول:
أَتُبَكِّـي من لا يُنـازلُ بالسَّـيْـ ***ـفِ مُشِيْحًا ولا يَهُزُّ اللواءَ؟!
والفَـتَى من رأى القُبورَ لِما طـا***فَ بهِ من بنـاتـه أكـفـاءَ
لسـنَ من زينةِ الحياةِ كعـَدِّ الـ***ـلّهُ منها الأمـوالَ والأبـناءَ
قد وَلَـدْن الأعداءَ قِدْمًا، ووَرَّثْـ***ـنَ التِّـلادَ الأقاصيَ والبُعَداءَ
لم يئِـدْ كُـثْرَهُنَّ (قـيس تميمٍ)***عـَيْلــةً بـل حمـيَّـةً وإباءَ
وتَغَـشَّى (مُهَلْهِـلَ) الذُّلُّ فيهـ***ـنَّ، وقد أُعْطِيَ الأديمَ حِـبـاءَ
و(شـقيق بنُ فـاتكٍ) حَذَرَ العـا***رِ عليهِـنَّ فـارقَ الدهـنـاءَ
وعلى غيرهـنَّ أُحْـزِنَ (يعـقو***بُ) وقـد جـاءَهُ بنوهُ عِشـاءَ
و(شُعَيْبٌ) من أجلهنَّ رأى الوَحْـ***ـدَةَ ضَعفـًا فاستأجرَ الأنبياءَ
واستزلَّ الشيطانُ آدمَ في الجنَّـ***ـةِ لمـَّا أغـْرَى بــهِ حوّاءَ
وتلـفَّتْ إلى القبائـلِِ، فانظـرْ***أمَّـهـاتٍ يُنــسـبْنَ أمْ آبـاءَ
ولعـَمْري ما العجْزُ عنديَ إلاَّ***أنْ تبيتَ الرجالُ تبكي النساءَ(9)
فإذن لا غرابة أن يبعث حضور المرأة في واقعنا العربيّ التشنّج والجنون، فتلك هي الجذور الثقافيّة الأدبيّة، التي تَدين بها تلك العقليّة المزدرية للمرأة في خطابها وفعلها.
aalfaify@yahoo.com
http://khayma.com/faify
ــــــــــــــــــــــــــ
(1) الميداني، (1955)، مجمع الأمثال، تح. محمّد محيي الدين عبد الحميد (مصر: مطبعة السنّة المحمّديّة)، 2: 132.
(2) م.ن، 2: 66.
(3) (2000)، موسوعة القِيَم ومكارم الأخلاق العربيّة والإسلاميّة، (الرياض: دار رواح)، 43: 10.
(4) م.ن، 43: 10- 11.
(5) انظر: م.ن، 43: 70- 71.
(6) (1984)، أدب الدُّنيا والدِّين، شرح وتعليق: كريم راجح (بيروت: دار اقرأ)، 175.
(7) (1342هـ)، اللزوميّات، تح. أمين الخانجي (بيروت: مكتبة الهلال، القاهرة: مكتبة الخانجي)، 1: 178.
(8) ابن عبد ربّه، (1983)، العِقد الفريد، تح. أحمد أمين وآخرَين (بيروت: دار الكتاب العربي)، 2: 278.
(9) البحتري، (1977)، ديوان البحتري، تح. حسن كامل الصيرفي (القاهرة: دار المعارف)، 1: 40- 41.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ملحق "الأربعاء"، صحيفة "المدينة "- السعوديّة، الأربعاء 19 جمادى الآخرة 1431هـ= 2 يونيو 2010م، ص6.
|