نظرية:4.مقالات:إضبارة د. عبدالله الفـَيفي http://www.alfaify.cjb.net

Thursday 13th May, 1999 G No.10017 جريدة "الجزيرة"، الطبعة الأولى الخميس 27 , محرم 1420

المساق 128
نظرية المؤامرة / رأس النعامة !
د.عبدالله الفَيفي

- .. وإذا كان من دارج الهرب اليوم من مواجهة العدو المعاصر إنكار وجوده، نهجَ النعامة حين تدفن رأسها في الرمال - كما يزعمون - واذا كانت قد اتخذت لتسويغ هذا الهرب جملٌ من القول برّاقة، كقولهم، لمن يكشف جانبا من الكيد على قومه: "يوه.. إنما أنت ذو عقلية ذرائعية تؤمن بالمؤامرة"، حتى باتت تلك سبة نتخلص بها من مواجهة ما تراه عينانا الغمصاوان، إذا كانت تلك هي الحال، فإن المفارقة أن بعض هؤلاء الذين يدسون رؤوسهم في رمال الوهم منكرين نظرية التآمر - مدعين أنهم دعاة نقد ذاتي لا يعلّق العيوب على مشجب الآخر، في مقولة حق قد تفضي إلى باطل - هؤلاء أنفسهم ربما لم يرعووا في الآن نفسه عن أن يعيشوا عقليةً تآمرية حينما يتعلق الأمر بنظرتهم إلى أنفسهم وبني جلدتهم من سلف أو خلف، ليصبح القول بالتآمر في منطقهم مرفوضًا إذا وُجه لعدو, مقبولاً إذا نُسب إلى الذاتي أو القومي، من الأجداد أو أبناء العم، أو حتى من عالم الجن، والعفاريت. وبالمناسبة، فهؤلاء الأخيرون قد باتوا في هذا العصر الظالم أهلنا وأهله شغل أقنية الشعوذة الفضائية العربية الشاغل!
- كما يتطور كل شيء لدينا تطوروا: كان العمل يحضّر في حلّة وصار يحضّر اليوم على قمر اصطناعي! (تعجب رفيقي ضاحكاً بعصبية).. العالم يذبحنا بسكين بارد ونحن مشغولون بعالم الجن والشياطين وتصفية حساباتنا الأهلية!
- نعم هذه العقلية النعامية لا يمكن التنبؤ بما تفعل أو بما تقول أو كيف تفكر (قال صاحب الجرجاني): لأنها تعيش حالة من العماء الحضاري والفصام الثقافي, لا تحسد عليهما.
حقاً قد يصعب الربط بين هذه المقدمة وما يبعثها من كتاب صاحبنا (سعيد بن مصلح) لأنه ليس من هؤلاء كلهم في شيء، لكن شيئًا في كتابه "حجاب العادة" يذكّر ببعض هؤلاء في شيء، ولا سيما حينما "يترامى" إلى وصم رواة الشعر بالتزوير ووصم شراح الشعر بالدجل.
- لماذا ؟
- نسينا؟ لأن بيتا صدمهم بزعمه بما يتناقض مع قيمة الكرم، فسعوا إلى تثبيت معنى دون معنى لأمر في نفس السلطان أو في نسق العُرف الاجتماعي القائم. وتبدأ القصة (عنده) هكذا، مع البيت المشكل:
وإنا لنجفو الضيف في غير عسرة
مخافة أن يضرى بنا فيعودُ
حين عزاه (الأصمعي 216هـ = 831م) إلى مذهب الأخساء, إلا أن (عبدالله بن طاهر - 230هـ = 844م) - وهو الكريم المشهور - زعم أن "لا" محذوفة بعد "أن"، ليبرّئ الأخسّاء أيضا من أن يكون فيهم من يمكن ان يصدر عنه مثل هذا البيت الخسيس، كأنما هو يستكثر أن يوجد خسيس في مجتمع عربي كريم، حتى وإن كانت عروبته بالولاء كابن طاهر ذاته. ثم إذا ببيت شقيق لهذا البيت يظهر - لم يعلم به (الأصمعي)، أو أنه أسقطه.. ليست ببعيدة - فجأة بعد مرور 300 عام تقريبًا، يكتشفه رجل تبريزي اسمه (الخطيب يحي بن علي) في القرن الخامس الهجري (502هـ = 1109م)، وهو:
ونشلي عليه الكلب عند محله
ونبدي له الحرمان ثم نزيدُ
بل ليكتشف (التبريزي) أيضا في مكتشفاته - وهو ما يزال تبريزياً وفي القرن الخامس، وفيما هو يشرح حماسة أبي تمام الطائي - ما لم يكتشفه (الأصمعي) نفسه، ولا (أبوتمام الطائي - 231هـ = 846م) - ربما لأنه طائي! - في حماسته، ولا (ابن قتيبة 276هـ = 889م) في عيون أخباره، حين يعلم أخيرا - رواية عن أستاذه (أبي العلاء المعري - 449هـ = 1057م) - أن البيتين قديمهما والمكتشف، لنموذج الكرم العربي: (حاتم الطائي)، لا غير!
وحينئذ - يا جماعة الخير - لا بد من تفسير جديد، إذ لا كلام الأصمعي عاد ينفع هاهنا في تبرئة العرب من البخل ولا تأوّلات المتأولين، فلنلغ معنى البيت من أصله: الضيف إذن يعني: (الأسد)!
- أما إذا كان البيتان لحاتم الطائي.. عَزّ الله راح مجد العربان في الكرم وطيئا، (صاح ابن حنيثيل الأعرابي، قيّاف الحملة)،حتى لو فسّروا لنا الضيف بالكلب!
- على أية حال، كل هذه المعركة, ولم تروا شيئا بعد, من أجل بيت أو بيتين، يُعملان فيهما ما استطاعا من كيد - وكيدهم ليس جد ذكي! - من الإسقاط تارة والتأويل تارة، والتآمر دائمًا على مدى أربع مئة سنة أو تزيد، وذلك لكي لا يقع ثمة أي اصطدام حاد ومباشر مع ما يحاول الخطاب أن يؤسسه من الاعتداد بالكرم كقيمة، (كقيمة وليس بقيمة، عند صاحب كتاب "حجاب العادة")، لا يصبح بعدها من المقبول أن يجاهر شاعر يتم تناقل شعره بمثل هذه الجفوة، لذلك لم يكن هناك بُدّ من تأوّل..(الحجاب: ص 93). وإذا كان الأصمعي أقرب إلى ما يكشف عنه ظاهر لغة البيت (ومتى كان يؤخذ الشعر بالظاهر يا سعيد بن مصلح السريحي؟!.. يا سعيد!) من نصّ على الجفوة وخوف من الضراوة فإن عبدالله بن طاهر أشد حرصًا على تماسك الخطاب وتأكيدًا على ما جرى عليه العرف وما تقتضيه العادة وذلك انطلاقا مما يقتضيه مقام الحاكم والإمارة التي كان عبدالله بن طاهر قد ارتقى مناصب عالية فيها، وكذلك انطلاقاً من الخُلُق الذي كان يوصف به من بذلٍ وعطاء وحرصٍ على الكرم والجود (ص 94).
- لقد كان التنافس بين مدارس الرواة واللغويين - من بصريين وكوفيين وسواهم - يدفعهم حقًّا في بعض الحالات إلى التمحّل والتكلّف لإثبات شاهد أو تخريج بيت.. (داخل أحدهم,.
- بلا ريب، لكن السبب الذي ذهب ابن مصلح إليه، والصورة التي نقلها عنهم، ليست إلا من تأوّله هو الآخر، يتكلّفها ويوجّهها لدعم أطروحته في سلطة الخطاب الكرمي التي أقام الدنيا من أجلها بيتٌ ولم يقعدها لبضعة قرون، بغية تنقية الثقافة من وجهة نظر لا تتفق والسائد من القيم. والدليل على أن هذا محض تأول متكلّف وجود شعر آخر أصرح أقبح في الترويج للبخل، لم يثر حفيظة أحد, لكن ابن مصلح لم يقف عليه.
وهذا هو الحجاب بعينه، حينما يصدر الباحث عن فكرة مبيّتة، لا تدعه يرى سوى ما ينتقي، بل لا تدعه يرى ما انتقاه جيدا. فهذا الحجاب مثلاً لم يترك له فرصة التساؤل عن حقيقة الخلاف الذي دار بين الأصمعي وابن طاهر، وذلك أن البيت أساسا إشكالي في بنائه النحوي لا في دلالته الاجتماعية، وإلا فهناك عشرات الأبيات تحمل هذه الدلالة لم يصدموا بها. هذا لأنه لو كان معنى البيت أن القائل يجفو الضيف مخافة أن يضرى به لوجب أن يقول في عجزه (فيعود) عطفًا على (أن يضرى)، فهذا ما يقتضيه مبنى البيت النحوي ومعناه. أما لو قيل بالاستئناف فستناقض دلالة آخر البيت أوله؛ إذ كيف يجفو المرء الضيف لكي لا يضري به فتكون النتيجة أن يعود، إلا أن يكون من ذلك القبيل الثقيل المتطفّل الضاري الذي لا يستأهل الضيافة، وفق طقوسيتها التبادلية، التي تقول:
يقولون لي: أهلكت مالك، فاقتصد،
وما كنت، لو لا ما تقولون، سيدا
(ديوان حاتم الطائي: 18، عناية أحمد رشاد, ط.(1), دار الكتب العلمية - بيروت: 1986م).
وحينئذ - حين يكون الضيف ضاريًا فلا يحقق ذلك البعد الاقتصادي التبادلي بحيث يكسب الكريم سيادة - لا حرج في أن يُجفى، إن نفع الجفاء! وبذا لا يعود في البيت شاهد على بخل.
ويمكن أن يقرأ البيت قراءة أخرى: إننا لا نحسن أصلاً جفاء الضيفان، حتى إننا لو تكلفنا الجفاء كما يفعل البخلاء، لم نحسن التشبّه، فكان جفاؤنا - بعكس ما يتوقع - سبباً في عودة الضيفان.
لكن، حتى لو سُلّم لابن مصلح بقراءته الإدانية لعرف الكرماء، فكيف بدتْ لذلك البيت عنده تلك الخطورة على خطاب العادة، ولم ير غيره مما يمثل الرأي الآخر: رأي البخلاء؟!
(ذلك موضوع المساق الآتي).




شكراً لقراءتك هذه المقالة !

أنت القارئ رقم:


FastCounter by bCentral

جميع الحقوق محفوظة ©