شخصيّة أبي نواس وشخصيّة شِعره-4 :3.دراسات: إضبارة د.عبدالله الفـَيفي http://www.alfaify.cjb.net

شخصيّة أبي نواس وشخصيّة شِعره-4
بقلم: البروفيسور عبدالله بن أحمد الفَيفي

-1-
لعل من المهمّ التنبيه هنا- أو بالأصحّ التأكيد- أن هذه الدراسة لا تستهدف تبرئة أبي نواس، ولا تسويغ ما يرد في شِعره! ولكنها دراسةٌ في ما يحدث في تاريخنا الأدبيّ، وفي الدراسات الأدبيّة، من خلط المعايير حين الحُكم على الأدباء وأدبهم. فلقد بولغ في تشويه صورة أبي نواس مبالغة؛ لا لأنه كان أكثر من معاصريه انحرافًا، أو أشذَّ نهجًا في طرق موضوعاته الشِّعريّة، ولكن لأسباب خارجيّة، سياسيّة واجتماعيّة. وليس هو الوحيد ممّن لحقه التشويه لمثل تلك الأسباب.
من جهة أخرى، أشير هنا إلى ملحوظة تفاعليّة واردة في هذا الصدد من أحد القرّاء، تفضّل بها عبر بريدي الإلكترونيّ، وذلك حول ما ذكرتُه عن وصف الراح فى شِعر بعض شعراء الإسلام المتقدّمين. تذكّر تلك الملحوظة بأنها قد حرّمت على مراحل. والواقع أن الحديث لم يكن عن هذا الأمر، ولا عن أن هذا السلوك مرفوض عقلاً ودينًا، ولكن عن استمرار صورته الشِّعريّة في الشِّعر الإسلامي، في صدر الإسلام والعصرين الأموي والعباسي، وكذلك استمرار شِعر الغزل، بنوعيه الصريح وغير الصريح، بوصف تلك الموضوعات موضوعات شِعريّة، لا يُعترض عليهما عادةً، ما لم تتجاوز التصوير المجازيّ إلى القذف والتشهير والتقرير والمباشرة. وقد كان أولئك يفرّقون بين أقوال الشعراء وأفعالهم، وكانوا يجيزون في الشِّعر ما لا يجيزون في غيره من ألوان القول. حتى خَلَف خَلْفٌ بالغوا في التحرّج والتشدّد، ولمآرب شتّى استغلّوا كلّ كلمة للطعن في الدِّين والشرف والسِّيَر، وإن كانت الكلمة كلمةً شِعريّة. ومن هنا، فلم يكن أبو نواس بِدْعًا من الشعراء في التغنّي بالراح، وهي التي يقول فيها أبو تمّام(1)، مثلاً:

عِنَبِيَّةٌ ذَهَبِيَّةٌ سَكَبَتْ لَها
*** ذَهَبَ المَعاني صاغَةُ الشُعَراءِ

إلاّ أنه اتّخذ وصفها موضوعًا فنِّيًّا، تفنّن فيه أيّما تفنّن، وأفرده بكثيرٍ من شِعره. وكانت من دوافعه، إلى جانب اصطناع ما يستقلّ به عمّا برع فيه غيره من شعراء عصره، معاندة المعتزلة فكريًّا وفقهيًّا، والنظّام ابن سيّار بصفة خاصة، في آرائهم التي سَطَت على غيرها في عصر المأمون. تلك الآراء التي كان النكير الشديد فيها على مرتكب الكبيرة، والقول بأنه لا بمؤمن ولا بكافر بل في منزلة بين المنزلتين. وهذا في الأساس مذهب واصل بن عطاء، (-131هـ)، في قصّة اعتزاله حلقة الحسن البصريّ حين استُفتي في المسألة. ولذلك كان رأي أبي نواس بخلاف رأي المعتزلة ذاك؛ وهم من خاطبهم بقوله:

فَقُل لِمَن يَدَّعي في العِلمِ فَلسَــفَةً
*** حَفِظتَ شــَيئًا وَغابَت عَنكَ أَشياءُ!
لا تَحظُرِ العَفوَ إِن كُنتَ امْرَأً حَرجًا
*** فَإِنَّ حَظرَكَهُ في الدِّيــــنِ إِزراءُ!

وهو جدلٌ فكريٌّ انبثق أساسًا من مدينة البصرة، بيئة أبي نواس العلميّة والثقافيّة الأولى. فكان شِعره- في جانب منه- صدًى من أصداء ذلك الجدل. الطريف هنا- وكم في صراعات التاريخ من طرائف المفارقات!- أن النظّام نفسه قد قُبّحت صورته من قِبَل خصومه بمثل ما قُبّحت به صورة أبي نواس، وبأدوات شبيهة، حتى ليصحّ أن يلقّب النظّام بأبي نواس الفِكر في مقابل أبي نواس الشِّعر!

-2-
أمّا ما قيل حول شعوبيّة أبي نواس فتدلّ سياقاته على أن مخاض التنابز بالشعوبيّة في ذلك العصر كان عامًّا؛ يُتّخذ سلاحًا لتصفية الحسابات، كتُهمة الزندقة، والمجون، والكُفر. وهو إلى هذا ذو دلالة ثقافيّة على أن القضيّة ليست قضيّة شعوبيّة فارسيّة، أو عداء أعاجم لعرب؛ فالجميع كانوا متورّطين في صراعهم العنصريّ، ومنافراتهم الشعوبيّة، ومنابذاتهم المذهبيّة، وصراعاتهم الفكريّة، فأنتجوا ثقافة ما زالت إلى اليوم طاحونة العالم العربي والإسلاميّ التي لا تهدأ. ذلك أن السياسة- وسلاحها إذ ذاك العنصريّة- كانت تؤجّج بين تلك الشعوب التي جمعها الإسلام العداوة والبغضاء، من حيث كانت جميعًا تتكالب على السُّلطة، التي ترفع وتخفض، وما كان للسُّلطة من سلالم إلاّ القوّة، عن مكانةٍ دينيّة، أو جاهٍ اجتماعيّ، لا عن أهليّة حقيقيّة وكفاءة في الإدارة والحكم. وهم يستشهدون على شعوبيّة أبي نواس بمثل قوله(2):

لَقَد جُنَّ مَن يَبكي عَلى رَسمِ مَنزِلٍ
*** وَيَندُبُ أَطـلالاً عَفَونَ بِجَروَلِ!
فَإِن قيلَ: ما يُبكيكَ؟ قالَ: حَمامَـةٌ
*** تَنوحُ عَلى فَرخٍ بِأَصواتِ مُعوِلِ!

أو قوله(3):

دَعِ الأَطلالَ تَسفيها الجَنـوبُ
*** وَتُبلي عَهدَ جِدَّتِها الخُطـوبُ!
وَخَلِّ لِراكِبِ الوَجناءِ أَرضـًا
*** تَخُبُّ بِها النَجيبَةُ وَالنَجيـبُ!
وَلا تَأخُذ عَنِ الأَعرابِ لَهـوًا
*** وَلا عَيشًا فَعَيشُهُم جَديــبُ!
فَهَذا العَيشُ لا خِيَمُ البَـوادي
*** وَهَذا العَيشُ لا اللَّبَنُ الحَليبُ!
فَأَينَ البَدوُ مِن إيوانِ كِسرى؟
*** وَأَينَ مِنَ المَيادينِ الزُّروبُ؟

ومثل هذا- حتى لو لم يكن شِعرًا- لا يكفي مستنَدًا لاتّهام الرجل بالشعوبيّة. كلّ ما يدلّ عليه أنه ضِدَّ التمسّك بالبداوة والتقاليد القديمة وترك الأخذ بالحضارة. وهو شِعر موجّه إلى شريحة اجتماعيّة محدّدة- يمثّلها من معاصريه (ابن الأعرابيّ) ومن لَفَّ لَفَّه- وإلى قبائل بدويّة مخصوصة. وهذا يأتي في سياق الصراع القَبَليّ الضاري من جهةٍ ومن جهة أخرى الصراع بين الجديد والقديم الذي كان محتدمًا في عصره، ثقافةً وأدبًا.
كل هذا كان يَحدث، إذن، لا لما ورد في شِعر الرجل أو ثَبَتَ عن سيرته، بالضرورة، بل للبس شخصيّته وإشكاليّتها؛ من حيث النَّسَب، والولاء، والثقافة، وبما هو شخصيّةٌ متحرّرةٌ اجتماعيًّا وثقافيًّا وحضاريًّا، وشخصيّةٌ تصادميّةٌ في آرائها وجرأتها. وممّا يزيد الباعثَ على الشكّ في نزاهة صورته المشتهرة المنقولة إلينا، النقاط الآتية، المتعلّقة بالوجه الآخر النقيض لما نقرأ عادة حول شخصيّته وثقافته:
1- وُصف في كُتب التراث بخصالٍ حميدة، منها أنه: "أكثر الناس حياءً". جاء في "زهر الآداب"، (للحصري القيرواني)(4): "وصف أبو عبد الله الجماز أبا نواس، فقال: كان أظْرفَ النَّاس منطقًا، وأغْزَرهم أدبًا، وأقدَرهم على الكلام، وأسْرَعَهم جوابًا، وأكثرهم حياءً، وكان أبيضَ اللَّونِ، جميل الوَجْهِ، مليح النغمة والإشارة، ملتفَّ الأعْضاء، بين الطويلِ والقصير، مَسْنُونَ الوَجْه، قائِم الأنف، حَسَن العينين والمَضْحَك، حُلْوَ الصورة، لَطيفَ الكَفّ والأطراف؛ وكان فصيحَ اللسان، جَيِّدَ البيان، عَذْب الألفاظ، حُلْوَ الشمائل، كثيرَ النوادر، وأَعْلَمَ الناس كيف تكلّمت العربُ، رَاويةً للأشعار، علاّمة بالأخبار، كأن كلاَمه شِعرٌ موزون." فكيف يتوفّر ماجنٌ متهتّك على تلك الخصال؟! بل كيف يكون راوية علاّمة، إن لم يكن جادًّا، ذا شأن رفيع في عصره؟! وهل يُعقل أن يكون بتلك الصفات وهو كما يصفه طه حسين(5)- الذي صدّق شِعره، وكأنه خبرٌ من الأخبار، وإنّ من الأخبار لما يكون محلّ شكّ-: "كان أبو نواس يعبد الخمر ويُدمن شربها، فيشربها إذا أمسى، ويشربها إذا أصبح، وربما عكف عليها ليله ويومه، وربما عكف عليها الأسبوع كلّه، لا ينصرف عنها إلاّ حين يُثقله النوم"؟!
2- زهديّاته، التي زُعم أنها توبة متأخرة. وما هناك من تواريخ مؤكّدة تحقّق متى قالها، على كلّ حال. أمّا الحكايات المصاحبة، فحدّث ولا حرج!
3- يوصف بأنه أعلم الناس وأكثرهم معرفة بالأدب. وكان كذلك متّصلاً بحياة عصره الفكريّة، مطّلعًا على آراء الفلاسفة والمتكلّمين، متبحّرًا في العلوم اللغويّة والإسلاميّة؛ حتى قال الجاحظ- مع ما يُفترض فيه من أنه خصيمه في الشعوبيّة والموقف من المعتزلة-: "ما رأيت أحدًا أعلم باللغة من أبي نواس، وأفصح لهجةً، مع مجانبة الاستكراه"(6). ولا يتأتّى هذا لإنسان عاكفٍ على اللهو أبدًا!

[وللحديث بقيّة]

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) (1987)، ديوان أبي تمّام بشرح الخطيب التبريزي، تح. محمّد عبده عزّام (القاهرة: دار المعارف)، 1: 29.
(2) (1982)، ديوان أبي نواس، تح. أحمد عبد المجيد الغزالي (بيروت: دار الكتاب العربي)، 679.
(3) م.ن، 11- 12.
(4) عناية وشرح: زكي مبارك، حقّقه وزاد في شرحه: محمّد محيي الدين عبدالحميد (بيروت: دار الجيل)، 1: 205.
(5) (1981)، حديث الأربعاء، (القاهرة: دار المعارف)، 2: 88.
(6) انظر: ابن منظور، -711هـ= 1311م، (1924)، أخبار أبي نواس، (مصر: ؟)، 6، 16، 53– 54.

aalfaify@yahoo.com

....................................................................................................

* صحيفة "الجزيرة"، الخميس 25 شعبان 1431هـ= 5 أغسطس 2010م، العدد13825، ص24.



للتعليق على الموضوع: اذهب إلى ساحة نقاش الإضبارة!

شكرًا لاطّلاعك على هذه الصفحة!

جميع الحقوق محفوظة ©