|
|
تحدثتُ من قبل عن أرباب التقاليد والطقوس الماضويّة، ومَن يستنكفون مِن النقد حين يتعلّق بموروثاتهم أو ممارساتهم أو مهاوي أعمالهم وأيديولوجيّاتهم. وليسوا وحدهم كذلك، بل إن أرباب التقاليد والطقوس التي يزعمون أنها غير ماضويّة، يستنكفون كذلك من النقد حين يتعلّق بموروثاتهم أو ممارساتهم أو مهاوي أعمالهم وأيديولوجيّاتهم؛ لأن العقليّة هي العقليّة والتربية هي التربية. ولقد خبرتُ- على المستوى الشخصيّ- مثل هذه الحال مراتٍ ومرات، أكّدت لي أننا ما زلنا قبائل لا تتعارف، بل تتعارك، وطوائف لا تحتكم إلى العقل، وإنما تتهارش، لأسباب فئويّة، أو لتصفية حسابات شخصيّة، وأن معظم الجدل الدائر في الساحة اليوم لا منهاج له، ولا مصداقيّة فيه، وإنما هو ينبجس هنا وهناك ردّات أفعال، لا فكريّة ولا معرفيّة، ولكن تنفيسًا عن خصومات ومناكفات؛ لأن فلانًا قال كذا سنرد عليه بكذا، ولأن التيّار الفلانيّ علا صوته إعلاميًّا، لا بدّ أن يلقمه الفريقُ المضادّ حَجَرًا. وبهذا الخليط تنشب داحسيّاتنا وغبراواتنا، وتتحرّك من خلالها المَكَنَةُ الإعلاميّة بهوسٍ صاخب لتحقيق مكاسبها التسويقيّة المادّيّة، مستدرجةً أبطالها الطرواديّين من أولئك الديوك المتناقمة. تلك هي سالفتنا، ثم لا تجد أحدًا في خضمّ هذه الألعاب الناريّة يهتمّ لمعرفة الحقّ للحقّ، وأين يكمن في تلك الضوضاء، كي يستبرئ لدينه وعقله ومنهاجه، وربما ليؤدّيه ذلك إلى رؤيةٍ تأصيليّة بنّاءة. كلاّ، وإنما لأنه قيل، سيقول، لكي يُقال، أو لكي لا يُقال، في مسلسلٍ تاريخيٍّ عربيٍّ مزمنٍ من نقائض جرير والفرزدق والأخطل. ذلك أن الحريّة- في ذاتها- حينما تُتاح ولا تنضبط بآليات وضمانات وأخلاقيّات تنقلب إلى فوضى. ومن ثَمَّ يبدو من السذاجة الماحقة في عالمنا العربي أن يأتي من ينادي بالحُريّات والانتخابات والديمقراطيّات إلى آخر "الاسطوانة"، في واقعٍ كهذا؛ أي دون وجود آليّات وضمانات وتكافؤ فرصٍ للجميع لممارسة ذلك كلّه. ولو أُخذ بالحُريّة (بذلك المعنى) في أيّ بلدٍ في العالم- من دون قيام تلك الشروط الموضوعيّة لقيام حُريّة حقيقيّة أو ديمقراطيّة تستحق هذا الاسم- لكانت النتيجة هي النتيجة، ولأفرزتْ حينئذٍ الفوضَى غيرَ الخلاّقة، ولكان الاستبدادُ عاقبتَها لا محالة، يستوي في هذا أرقى بلدٍ مع أحطّ بلد. ولهذا فإنني، بعيدًا عن الأحلام والمثاليّات، أعتقد أنه ما لم تَحْكُم المجتمعَ قوانينُ صارمةٌ، ويسوده تكافؤٌ في الفُرَص، وما لم تنشأ هناك تعدّديّاتٌ حقيقيّةٌ، تتيح التنافس العادل بين جميع الأصوات، وما لم يَسُدْ الوعيُ الكفيلُ بأن يكون التصويت في الانتخابات لمَن لديه الأهليّة، ولديه البرنامج المحدّد للعمل والإنجاز- وليس لمن يمتّ بصلةٍ ما إلى هذا الطَّرَف أو ذاك.. فيملك عندئذٍ الأصوات والذِّمم- ما لم يتوافر ذلك كلّه، فإن الانتخابات لا تصبح مشروعة، ولن تصبح نتائجها محقِّقةً للحدّ الأدنى المعقول- على الأقل- من حُريّات الناس وحاجاتهم وتطلّعاتهم، بل ستظهر النتائج دائمًا: 99.99% ! إذ ليس من المبالغة القول في هذا السياق إن مفهومنا للحُريّة- حسب السائد العربيّ العامّ- ما زال يتمثّل في مقولة الحارة القديمة في مسلسلات (غوّار الطوشي وأبو عنتر): "كلّ من أيدو إلو!"، أو بلسان العرب القديم: "مَن كانت له حيلةٌ فليَحْتَلْ!" وبذلك يكون التغنّي بالحُريّات والانتخابات في بيئةٍ كهذه- مع غياب قوانين المجتمع المدنيّ، ودون توفير الاشتراطات الضروريّة والتأسيسيّة- لا أقول جعلاً للحصان خلف العربة، بل أقول: إطلاقًا لحصانٍ دونما عربة! وهذه مسألة جوهريّة في سؤال الحُريّات، ما لم تُحسم، انقلبت الحُريّة إلى فوضَى، وضاعت التنمية، وانسحق ضعفاء البشر بين الأرجل، وترحّم الناس على زمن الدكتاتوريّات وعدالة الاستبداد. والحُريّات، والديمقراطيّات، في الغرب- الذي نجعله عادةً نموذجنا المثاليّ في ذلك وغيره- لم تُتّخذ بقرارٍ رئاسيّ، أو صدرت بـ"فرمان" رسميّ موقّع من السُّلطة- ناهيك عن أن تُفرض من الخارج بدبابةٍ أو بطائرةٍ أو بقناةٍ فضائيّةٍ وبطابورٍ خامس من العملاء- لكنها جاءت مخاضًا طويلاً من الفلسفة، والتأسيس الوطنيّ، والتربية، والتشريعات والقوانين. ولهذا الخلل البنيويّ ظلّت الديمقراطيّات العربيّة فاشلةً غالبًا، بل باتت أشبه بمسرحيّات تَنَكُّريَّة هزليّة؛ وبسبب ذلك بَدَتْ الأنظمةُ التي لا تدّعي الديمقراطيّة أرحم بكثير من الأنظمة التي تدّعي الديمقراطية؛ لأن ما بُني على خواء.. فأمّه هاوية!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * "المجلّة الثقافيّة"، صحيفة "الجزيرة"، الخميس 2 صفر1432هـ= 6 يناير2011م، العدد328، ص7. * للقراءة من المجلّة مباشرة. |
|
شكرًا لاطّلاعك على هذه الصفحة! |
جميع الحقوق محفوظة ©