فكرة الشُّورى: تأصيل وتأميل: شوريّات: إضبارة أ.د.عبدالله الفـَيفي



فكرة الشُّورى: تأصيل وتأميل


يأتي مبدأ الشورى في الشريعة الإسلامية اعترافًا بحقّ الشعب في الاختيار والرقابة والتشريع. أي أنه مبدأ ضدّ "البطريركيّة" المطلقة في إدارة شؤون الدولة والمجتمع. وعلى الرغم ممّا قد يُفهم من الآية الكريمة: "وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ، فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ" (آل عمران: 159) من عدم إلزامية الحاكم بما تنتهي إليه الشُّورى، فإنه لا ينبغي أن يغيب أن التوجيه بتجاوز المشورة هنا قد جاء في حقّ نبيّ، يُوْحَى إليه من السماء، لا حاكم يتلقّى شرعيته من شعبه. كما أن آية أخرى قد أكّدتْ على أهميّة الشُّورى، بل إلزاميتها، في إدارة الشأن العام، وهي قوله تعالى: "وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ، وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ، وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ، وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ" (الشورى: 38). ولذلك تَضَمَّن الخطاب القرآني إطراءً لحكومة بلقيس، لأخذها بالشورى، مقابل ذمٍّ لحكومة فرعون، لاستبداده بالرأي، المتجسّد في قوله: "ما أريكم إلا ما أرى، وما أَهْديكُمْ إلاّ سَبيلَ الرَّشاد" (غافر: 29). من أجل هذا فرّق بعض الدارسين بين مفهومي "الشُّورى" و"الاستشارة"، من حيث وجوبيّة الأولى وإلزاميتها، واختيارية الأخرى وعدم إلزاميتها.
إن الشارع يتوخّى في الشورى مخارج لا غنى عنها لمآزق رأيٍ شتى، تُحيق بالحاكم والمحكوم، في كل زمان ومكان. ولذا، رأى بعض المعاصرين في الشُّورى ضربًا من الاجتهاد الجماعي، في ظلّ تواري الاجتهاد الفرديّ في الأُمّة.. اجتهادًا يقدم الحلول التي ترتضيها الغالبيّة من علماء الأمة، ومفكريها، وذوي الرأي فيها.
وتنطلق فكرة الشورى في الفلسفة الإسلامية من طبيعة النظام التعاوني Corporative System، في ضوء الآية: "وتعاونوا على البرّ والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان" (المائدة: 2)، هذا النظام الذي يبدو مقابلاً إسلاميًّا للنظام التعدّدي Pluralist System، القائم على التنافس والصراع. ذلك لما تَأُوْلُ إليه كافّة المبادئ في المدرسة الإسلامية من ضرورة: التوحّد، والتوحيد، والاستقرار، والاستمرار.
على أن الشُّورى في نهاية المطاف تُعدّ ضربًا من الممارسة الديمقراطية، وآلية من آليّاتها. لا تتعارض بالضرورة مع الديمقراطية بمفهومها المعاصر، ولا تتطابق معها بالضرورة، حسبما يسعى إلى إيجاد مثل ذلك التعارض، أو التطابق، أو التوازي، بعض المعاصرين، من تغريبيين خُلّص أو توفيقيين خُلّص. إنْ هي إلا تجربة قابلة للتطوير، وُجدت نظائر لها هنا وهناك- من مجالس نيابية أو مجالس شيوخ- أم لم توجد. فما يعني السياسيّ- كما يعني الناس بعامة- هو تحقّق المصلحة، وظهور الجدوى في الخيار الذي اختير، لا أن تتطابق التجارب.. حذو القُذّة بالقُذّة. لقد ألقى التشريع الإسلامي بذرة الشُّورى، ثم ترك- من رحمته- شأن التفصيل للناس، لتتخذ شجرةُ الشُّورى لها من التفريع والتلوّن بحسب مصالح الأُمم، في كل عصر وحضارة، على قاعدة قرآنية عامة من التقابل بين: الحكم البلقيسيّ والحكم الفرعونيّ. وأكبر دليل على أن مثل هذا الشأن متروكة الإرادة فيه للناس- بما لا يتعارض مع الإطار العام لإرادة الله وفق تشريعه- أنْ تُرِكَ شأنُ الخلافة بعد النبي مفتوحًا للتداول البشريّ، المستضيء بثوابت العقل والنقل.
وإذا أُخذ هاهنا مجلس الشورى السعودي- وفق حُلّته الجديدة- نموذجًا، فسيتّضح أنه يجمع في ممارسته بين دور المشورة الإسلامية، ودور الرقيب على أداء الأجهزة الحكومية، إضافة إلى حقّه في اقتراح القوانين، والمصادقة عليها، أو التعديل فيها. ومن ثمَّ، فهو- نظريًّا- يساوي المجلس البرلماني المعاصر ويتخطّاه. غير أن صورة هذا المشروع- القديمة الحديثة- لن تكتمل عمليًّا إلا بتفعيل كلمة المجلس، بحيث يخرج فاعلاً بعد هذه السنوات من رصيده المتنامي من اجترار التوصيات والاقتراحات، التي يُضطر اضطرارًا إلى تكرارها، على تقارير سنويّة مستنسخ جُلّها منذ سنوات- لولا إلزامية تقديمها إلى المجلس ما قُدّمت إليه! فكم من التوصيات نادى بها المجلس، وكأنْ "لا حياة لمن ينادي"! وكم من المقترحات قدمها، لو أُخذ بها لكان الحال غير الحال، ولقد يُلتفتُ إلى آرائه بعد حين من الدّهر، وكأنها اكتشاف جديد، وُجد أخيرًا!.
وهكذا، يبقى على مجلس الشورى أن يقول كلمته، ويؤدي أمانته أمام الله، ثم أمام دولةٍ ائتمنته.. أمّا كيف يتحول قوله: "يجب على هذه الوزارة أو تلك أن تفعل كذا أو لا تفعل كذا"، من مجرد حبرٍ على ورق إلى فعلٍ على أرض، فمسؤولية تنفيذيّة لا يملكها، ولا يُسأل عنها.. وإنما تُسأل عنها الجهة الحكومية التي لا تأخذ بتوصية يوجّهها المجلس إليها، ولا تفنّدها، بما يكشف عن صعوبةٍ معيّنة حالت دون الأخذ بها؛ فإذا سيل التوصيات والمقترحات التي تتمخض عن لجان المجلس ومداولاته المضنية تنساب بين المجلس والجهات المعنية انسياب المياه في الآنية المستطرقة، عَوْدًا على بدء.. فبدءًا على عَوْد، وإلى ما شاء الله! وهو ما يدعو إلى إعادة النظر مليًّا في العلاقة بين المجلس والمؤسسات الموكل إليه النظر في تقاريرها، بما يكفل قدرًا لازمًا من تحديد المواقف، ودرجة مرعيّة من تحمّل المسؤوليّة. وبكلمة موجزة، فإن دور مجلس الشُّورى سيظلّ متعثّرًا، ما لم يقم هنالك نظام يحدّد واجب الجهة الحكومية حيال آراء المجلس، بحيث يُلزمها لا بتقديم تقاريرها السنوية إلى المجلس.. وكفى وتلك كل الحكاية، ولكن أيضًا بأخذ مرئيات المجلس وتوصياته مأخذ الجدّ، إمّا باستجابة، أو ببيان أسباب، قد تكون خفيت ملابساتها على المجلس. ومرجعية الطرفين النهائية، في البتّ بينهما فيما اختلفا فيه، إلى القيادة العليا في الدولة، التي لم تُنشئ جهازيهما إلا بهدف التكامل بينهما، فيما يُصلح العباد والبلاد.
والله المستعان!

د. عبدالله بن أحمد الفَيْفي
( عضو مجلس الشُّورى )
الخميس 6 شعبان 1426هـ



للتعليق على الموضوع: اذهب إلى ساحة نقاش الإضبارة!

شكرًا لاطّلاعك على هذه الصفحة!

جميع الحقوق محفوظة ©