الإجابة البدهية عن هذا السؤال الذي تضمنه العنوان: بالنفي. فالمملكة تتمتع بتضاريس مختلفة، ومناخات متعددة، أكسبتها مميّزات زراعية، حرية أن تُنمّى وتُستثمر، لا أن تهدر ثرواتها بتوجيه الاهتمام، جله أو كله، إلى استثمار عنصرين فقط من منتجات القطاع الصحراوي: القمح، والتمور. بل لقد كان بالإمكان، إلى جانب التنمية والتسويق، أن تنشأ صناعات غذائية مهمة على تلك المنتجات الزراعية المتعدّدة. ومع هذا، فإن كثيرًا من المنتجات الزراعية في المملكة- جنوبها، وغربها، وشرقها- غير مستغلّة، بل مهملة تمامًا. وقد أدى عجز المواطن عن الاستثمار الأمثل لمزارعه إلى التخلّي في معظم الأرياف والقُرى عن الزراعة، وإهمال الأرض، ومن ثَمّ تحوّلها إلى قفار جرداء، بعد أن كانت حدائق غنّاء، ومصدرًا للاكتفاء الذاتي. حتى لقد صار ذلك المواطن يشتري من الأسواق بعض المجلوب أو المستورد، الذي كانت تنتجه أرضه. ليس عن تكاسل أو اتّكالية فحسب- وهما آفتان نُسلّم أنهما غزتا النفوس والعقول في زمن الوفرة، التي ما زلنا نعيش خَدَرها- ولكن أيضًا لأن ظروف الحياة المعاصرة، وكُلفة الإنتاج الزراعي- مقارنة بالمقدرة الشرائية- تدفع المزارع إلى الشراء لا الإنتاج. أمّا لو جازف- حبًّا للأرض والزراعة- فاستغلّ أرضه، وأعمل إمكانياته المتواضعة في ذلك، فإن منتجاته بعد طول العناء سيفسد معظمُها، بعد أن يشكّل عبئًا عليه، لا قِبَلَ له به؛ لعدم توافر بيئة استثمارية، ولا حتى قيام حاجة استهلاكية في محيطه الاجتماعي.
وفي إحدى جلسات مجلس الشورى الأخيرة، التي ناقش فيها تقريرًا لوزارة الزراعة، كانت للمجلس توصيةٌ مهمّة بـ"دعم المزارعين لتنمية إنتاجهم، ولا سيما الحبوب والتمور". إلا أن الأهم- من وجهة نظري- كان لو نُصّ على ضرورة الاتجاه إلى دعم تلك النوعيّات الممتازة، والنادرة، والمهدّدة بالانقراض، من منتجات البلاد الوفيرة، غير مقتصرٍ الأمر على تلك الجمل النمطية التي تصوّر المملكة: صحراء، ليس فيها إلا النخل وبعض القمح. ولذلك كانت لي- حينها- توصيةٌ إضافية، بـ: "دعم المزارعين لتنمية زراعاتهم على اختلافها، وإيجاد الآليات المناسبة لتسويق منتجاتهم- بما فيها التمور والقمح- في الأسواق المحليّة والخارجية". إلا أن هذه التوصية- كغيرها من التوصيات- لم تحظ بالتصويت الكافي حتى لمناقشتها، بحجة الاكتفاء بالتوصية العمومية السالفة. بيد أن هذا "الاكتفاء" ينطوي- في تصوّري- على ركون تقليديّ عام إلى الأفكار السهلة والضبابيّة، غير المنشغلة بالتغيير في نمط الفكر السائد، فإذا الثراء المتعدّد الذي حبا الله به بلادنا- في هذا المثال- يُهمّش بتسليط الأضواء على قطاع إنتاجي واحد. إن أي مواطن لا بد يأسف على الإمكانيات الزراعية الهائلة لمناطق الجنوب، على سبيل النموذج، من الطائف إلى أقصى الجنوب. وإذا كان لي أن أتحدث عمّا أَخبره بصفة شخصيًّة، فإنه يمكنني القول: إن ما تنتجه جبال فَيْفاء وحدها، مثلاً، من أطيب أنواع الفواكه، والخضار، والنباتات العطرية، فضلاً عن أصناف الحبوب، فيه ما يمكن أن يُمدّ السوق المحلية بالكثير، بل قد يفيض تصديرًا إلى أسواق خارجية. وكذلك القول عن مناطق كثيرة في المملكة. ولكن للأسف، فإن قدرًا يسيرًا فقط من تلك الإمكانيات يُستغل، وبمحض جهود المواطن المحدودة والقاصرة، بحيث لا تكفي غلّتُه وثمارُه للاستهلاكَ المحليّ. بل إن ذلك القدر اليسير في ذاته لا تصل خيراتُه إلى السوق المحلي، حتى داخل المنطقة نفسها، لعجز المزارعين عن النقل والتسويق.
إن من نافلة القول الإشارة هنا إلى ما قدمته حكومة المملكة في سبيل تطوير الزراعة من تسهيلات، وما أنفقته من مليارات الريالات. حتى أصبحت زراعة القمح من ضمن علاماتنا على النهضة التنموية السعودية، وغدت المملكة من الدول المصدّرة في بعض الفترات، بعد أن كانت مستوردة. وأنها كذلك تُقدم للموطنين مساعداتها من خلال (برنامج شراء التمور)، منذ العام 1400هـ، وهو ما شجّع المزارعين على مضاعفة الإنتاج.
ولكن، أما آن الأوان، بعد هذه النجاحات، أن يُلتفت إلى قيمة التنوّع في مصادر الثروة، بدل أن يوضع البيض كله في سلة واحدة أو سلتين؟!
د. عبدالله بن أحمد الفَيْفي
( عضو مجلس الشورى – الأستاذ بجامعة الملك سعود )
الجمعة 9 شوال 1426هـ
|