إن المنهج المبدئي الصحيح هو: أن يكون للأمة موقفها القوي والحازم، الذي لا مواربة فيه، وعلى كل الأصعدة، بما يحفظ لها كرامتها ويبقي لها احترامها في العالم، دون أن يخلّ ذلك باحترام الآخرين وكرامتهم.
ولقد عبّر العالم الإسلامي، بل العالم أجمع، عن احتجاجه على ما أقدمتْ عليه الصحيفة الدنماركية المشؤومة (جيلاندز بوستنJyllands-Posten ) من نشر رسوم ساخرة، اتهاميّة عدائية، ضدّ نبي الإسلام عليه أفضل الصلاة والسلام، وضدّ الإسلام والمسلمين عمومًا، وما تبع ذلك من نشر لتلك الرسوم، في صحف مثيلة، أو منتفعة، أو باحثة عن الصيت بأيّ ثمن. وقد أصدر مجلس الشورى في المملكة العربية السعودية بيانه الاستنكاري، كما أصدرت غيره من الجهات بيانات مماثلة، كانت بها تسجّل مواقفها المشروعة والمتوقعة. فالكلمة في مثل هذه الأحوال هي أضعف الإيمان، ليس وراءها حبة خردل من إيمان أو كرامة.
ثم جاء استدعاء السفير السعودي لدى الدنمارك، وجاءت المقاطعة الشعبية للمنتجات الدنماركية، في خطوات متلاحقة لاستكمال الاحتجاج الرسمي بالاحتجاج الشعبي. وهكذا وقفتْ حريةُ الشراء إزاء حريةِ التعبير والنشر المزعومة! فذاك تعبيرهم وهذا تعبيرنا! ذلك تعبيرهم في أحطّ صوره أخلاقيّةً واحترامًا للأديان والآخر، وهذا تعبيرنا في أبسط صوره وحقوقه الإنسانية، في أن: من أساء إليك وإلى أمّتك وإلى رسولك- الذي استنقذك الله به من الظلمات إلى النور- فأنت في غنى عن أن تدفع هللة واحدة لشراء بضائعه البقرية، مهما بلغ إغراقه لأسواقك قوةً وبلغتَ أنت عجزًا وحاجة، أوحبًّا للأجبان والألبان!
والجميع يعلمون أن سفاهة السفهاء لا حدّ لها، وأن ليست تلك بأوّل إساءة للإسلام ولن تكون آخرها، لكن التطاول إذا تجاوز حدّ الاحتمال لا يعود الصمت عنه أو التسامح مع محدثه إلا مواتًا، يصدق عليه قول أبي الطيب:
مَنْ يَهُنْ يَسْهُلُ الهَوَانُ عليهِ *** مـا لجُرْحٍ بميّـتٍ إيـلامُ
لذا فإن الداعين إلى التمهّل والتعقّل في مواجهة إهانة كهذه هم- في رأيي- كالمغالين في ردّات أفعالهم، الذين يعمّمون الأحكام ويسعون في الأرض فسادًا، فيسيئون من حيث يظنون أنهم يحسنون صنعًا، ويشوّهون الإسلام من حيث أرادوا أن ينصروه. أولئك المفضلون للصمت وعدم المقاطعة هم مثل هؤلاء الطائشين في ردات أفعالهم، سواء بسواء: (مسكنةٌ يقابلها تهوّر واندفاع).
ذلك أن الغرب ما انفك موغلاً في ممارسة ضغوطه على المسلمين، بمناسبة وبغير مناسبة، من خلال مصطلحات كـ"الإرهاب"، والغًا في ابتزاز العالم أجمع عن طريق مقولات سياسية زائفة، كـ"السامية" و"اللاسامية"، واقفًا بالمرصاد في ركاب الصهيونية لتحريم مناقشة محرقة (الهولوكوست) وتجريمها، حتى من وجهة نظر علمية تاريخية بحتة، وليس مثال المفكّر رجاء جارودي عنّا ببعيد. فلا حرية تعبير في مثل تلك الأمور ولا يحزنون! في الوقت الذي لا يرى النيل من الإسلام والمسلمين، بل من القرآن أو صورة الرسول صلى الله عليه وسلم، إلا محض حرية تعبيرية مشروعة، ينفض يديه من المسؤولية عنها! وفي هذا ضرب مكشوف من الإرهاب الإيديولوجي والثقافي، والغش العلني في ترويج المفاهيم، والضحك على الذقون! وإزاء عقلية مراوغة مغالطة كهذه لا جدوى في الأمد المنظور لإصدار بيانات أو لعقد حوارات-- أو للانتظار إلى أن تصدر كتبٌ، وتنشأ قنوات فضائية، ويستطيع المسلمون بيان محاسن الإسلام وتحسين صورته، كما يقال في كل ظرف شبيه، وفق أحلام إستراتيجية بعيدة المدى، ما زالت في علم الغيب، قد تأتي أو لا تأتي-- لا جدوى في الأمد المنظور من ذلك كله، فتلك رؤوس لا تفهم في الراهن إلا لغة الجيوب، ولا تديرها إلا هواجس اليورو والدولار، وذلك ما أثبتته الأحداث.
ثُم لئن كان القوم قد استرهبوا المسلمين تحت ذريعة الإرهاب، ووصموهم دائمًا بالتعصب وعدم قبول الآخر، فها هو "الآخر"، الذي استنفدنا طاقاتنا لاسترضائه، وعقدنا المؤتمرات للحوار معه، وأقمنا الندوات لتوعية أبنائنا وشعوبنا بضرورة احترامه.. ها هو ذا الآخر، "المتحضّر!"، يشرّع إرهابه الفكري، باسم حرية الفكر، ويسوّغ بذاءته وشتائمه لمقدسات الآخرين، باسم أكذوبة يدعوها: حرية التعبير. فليس من الحنكة السياسية والحالة هذه أن يُسقط المسلمون اليوم في محكمة التاريخ هذه الورقة، فهي بمثابة شهادة سوداء تضاف إلى شهادات أُخَر على إرهاب القوم وازدواج معاييرهم؟!
إلا أن الموقف الراشد الذي اتخذته الشعوب الإسلامية بالمقاطعة الاقتصادية، والمواقف السياسية التي اتخذتها بعض الحكومات بهدف ردّ الاعتبار للأمّة، لا ينبغي أن تشوهها بالمقابل حماقات هنا أو هناك، تجعل الدائن مدينًا، وتقلب المعتدَى عليه معتديًا، من خلال حرق سفارات، أو عدوان على أبرياء، أو أخذ البريء بالمذنب، فما ضيّع عدالة القضايا الإسلامية في الرأي العام العالمي إلا مثل هذه الأفعال غير المسؤولة، التي لا تنطلق من رؤية عقلانية ولا من منهج إسلامي، بل من غوغائية الانفعال وهمجية التقديرات.
د. عبدالله بن أحمد الفَيْفي
( عضو مجلس الشورى )
10 محرم 1427هـ
|