يُعدّ (النقد التكويني) إحدى أدوات الاستبصار بنشوء النصّ، وتحوّله، وتطوّره. ومن أدوات هذا النقد تتبّع خربشات الكاتب الأولى، ومخطوطات نصّه، بما فيها من حذف أو إضافة أو تعديل، قبل أن يستقرّ النصّ إلى صورته النهائيّة. وسبر هذه الرحلة من خلال ما يسمّى "وثائق الكتابة" مهمّ جدًّا في التعرّف على تخلّق النصّ. وقيمة الملحوظات في هذا المضمار تتخطّى عمليّة دراسة النصّ في ذاته، وفي وضعيته السكونيّة النهائيّة، كمعطى ثابت، ووثيقة ختاميّة، إلى دراسة عمليّة الإبداع نفسها، وأسرار الظاهرة الأدبيّة، في تشكّلها، وصراعها، ومَورها، إقدامًا وإحجامًا، إثباتًا ونفيًا. وهي إجراءات بالغة الدلالة على المستوى النفسي، والذهني، واللغوي، والأدبي. ويذهب (بيير. مارك دو بيازي Pierre-Marc de Biasi) تحت عنوان "النقد التكويني La critique génétique" إلى أن النص النهائي ما هو إلاّ حصيلة نشوء تدريجي وتحوّل طويل(1). ومن ثم فإن النقد التكويني يستقرئ التطوّر الإبداعي في العمل الأدبي؛ لمعرفة الآليّة الذهنيّة التي مرّ بها الكاتب. ذلك أن العمل الأدبي- حسب جوستاف رودلر G. Rudler- يسري قبل إرساله إلى المطبعة في مراحل عديدة تبدأ بفكرته الأولى، ثم تنتهي بتنفيذه النهائي. ويهدف النقد التكوينيّ إلى إظهار قوانين العمل الذهنيّة، التي تُنتج النص. وهي تَظهر أحيانًا كثيرة في صورة "بدايات خاطئة"، تتوالى متفرّقة زمانيًا، قبل أن يظهر المشروع بصورة فكرة للكتابة، يمكن أن تتطوّر إيجابيًّا. إن مسوّدات العمل الأدبي الأولى تعطي الناقد إذن معرفة جذريّة عن أيّ طورٍ من أطوار الكتابة، ومتى أُدخلت هذه المعلومة، أو حُذفت تلك الكلمة أو أُضيفت؟ كيف تمّ تكييفها أو رفضها؟ وعليه فإن المسوّدات "لا تكون مكتملة، ولا غير مكتملة: إنها فضاء آخر، ولا يدخل التفاوت بينها وبين النصّ في مفهوم التطوّر، ولا في مفهوم الاكتمال: إنه يدخل في مفهوم الآخر المقابل وفي الاختلاف الأساسي بين الكتابة والنصّ". ولذا فإن مسوّدة النصّ لا تحكي، بل تُبدي عنف الصراعات، وثمن الخيارات، والرقابة الذاتيّة.. إلى غير ذلك من العمليّات الذهنيّة والنفسيّة واللغويّة والجماليّة التي تصاحب تولّد النصّ(2).
ولقد كانت إجراءات هذا الاستقراء النقدي التكويني تتمّ في الماضي من خلال تتبع الناقد مخطوطات الشاعر الورقيّة، إن توافرت. واليوم تأتي رحلة النص عبر الإنترنت بديلاً عن ماضي الحبر والورق؛ إذ لم تعد هناك مخطوطات ورقيّة للنصوص الأدبيّة، في الغالب، ولاسيما الشعريّة. بل إن كثيرًا من الأدباء استبدلوا الشاشات بالأوراق كلّيًّا، قراءة وكتابة. لأجل هذا أصبحت من الآفاق الجديدة المتاحة لدراسة العمليّة الإبداعية دراسةُ تطوّرات النصوص عبر ما يتيحه النطاق التفاعلي الإنترنتي، تتبّعًا لرحلة الكلمة، من الظهور الإلكتروني في مواقع مختلفة، إلى مثواها الأخير بين دفّتي كتابٍ ورقيّ منشور.
إن هذا هو عصر الإنترنت، وعصر النشر الإلكتروني، لا عصر المطابع والورق. بل أزعم أن الكتاب الورقيّ، والنشر الورقيّ عمومًا، سيصبحان بعد سنوات جزءًا من التاريخ. ولسوف نستذكر عهد الورق حينئذٍ كما نستذكر اليوم العهود الشفاهيّة الغابرة. على أن هناك من لم يصدّق هذا بعد، ولا يتصوّر مستقبله الوشيك، و"لكلّ امرئٍ من دهره ما تعودَ"! وبما أن ذلك كذلك- شئنا أم أبينا- فإن الإنترنت يُعَدّ اليوم الوعاء المعرفي، والعلمي، والأدبي، والتوثيقي المعاصر. وهو- في المجتمعات المتحضّرة- مرجع إحاليّ جديد على موادّ عِلميّة وأدبيّة شتّى، تمامًا كالكتاب والمجلّة والصحيفة. بل إن موادّ هذه الأنواع جميعها قد أصبحت على الشبكة اليوم؛ فأنت تجد الموسوعات، والكتب العلميّة، والدوواين الشعريّة، والمجلاّت والصحف، وغير ذلك، متاحًا، مرقومًا إلكترونيًّا، أو مصوَّرًا طِبق أصله الورقيّ. كما تجد الباحثين الجادّين- لا العابثين، كما يحلو لبعض أهلنا هنا عدم مغادرة تصوّرهم الدارج لهذا العالم الجديد- يحيلون في قسمٍ واسع من مرجعيّات أطروحاتهم على صفحات الإنترنت، وإنْ كان العمل مطبوعًا في كتاب ورقيّ. ذلك أن شبكة الإنترنت مرجعيّة كونيّة، متاحة للجميع، وهي توفّر الوصول إلى المعلومة في أسرع الأوقات، وبأسهل الطرق. وعمّا قريب ستندمج تقنيات المعلومات الحديثة في تقنية واحدة؛ ليصبح الجوال مفتاح التواصل مع شتّى أوعية المعلومات في العالم. من هذا المنطلق يصبح هذا الميدان ميدانًا حيويًّا حديثًا للنقد الأدبي. بل إن الأدب نفسه أصبح يوظّف التقنيات الحاسوبيّة والإنترنتيّة في ما يسمّى "الأدب التفاعلي". وسار في العالم مذ وقت طويل مفهوم (النص المترابط Hypertext)، الذي استعمله للمرة الأولى (تيد نيلسون)، 1965، ثم تخطّاه الزمن إلى ما أُفضّل تسميته بـ"النصّ الإلكتروني التفاعلي"، ولاسيما أن مفهوم (النصّ الإنترنتّي Cyber text)، الذي كان أوّل من استعمله (آرسيت Espen J Aarseth)، لم يعد يدلّ على خصوصيّة "النصّ الإلِكتروني التفاعلي"(3). ويأتي ميدان نقد النصّ الأدبي تكوينيًّا عبر انتقالاته الإنترنتية وصولاً إلى النشر الورقيّ ضربًا جديدًا من نقد البنى التكوينيّة في النص. ولقد لحظتُ في كثير من النصوص التي قاربتُها في هذه الدراسة- وكثير منها كان إلكترونيًّا- تحوّلات يمرّ به بعضها، بين تقديم وتأخير، وحذف وإضافة، وتعديل وعدول، إلى غير ذلك من تلك العمليّات التي كانت تجرى في الماضي بقلم الكاتب أو الشاعر، واليوم بات يجريها عبر الحاسوب والإنترنت. واستقراء ذلك كله- على صعوبته- مجال خصب للناقد في تحليله تاريخيّة النص، وبخاصة أن تلك النصوص تُنشر مصحوبة آليًّا بتواريخها غالبًا، وبخاصّة إذا كانت منشورة في منتديات عامّة، أو في مدوّنات، أو ما شابه.
غير أن الإشكالية تنشأ هنا عن تخلّف التقنية أو مستخدميها في عالمنا العربي؛ وتبعًا لذلك تعطّلها، أو عدم ثباتها، فأنت قد تحيل على مجلّة، مثلاً، ثم تجد موقعها بعد حين قد تغيّر رابطه، أو انحذف موقعها من الشبكة نهائيًّا، أو قد تستند إلى نصّ إلكتروني لشاعر، ثم تلفي الصفحة الشبكيّة التي كان عليها قد تعطّلت أو حُجبت أو حُذفت، وبالجملة قد ألمّت بها من ملمّات الزمان كارثة من كوارثنا التاريخيّة الكثيرة، في "النت" وغير "النت"! وهنالك تبقى العهدة على الرواي/ قارئ النص في مسوّدته القديمة! وهذا الاضطراب التقني لدينا نادرًا ما يُلحظ نظيره في المواقع الغربيّة، وبخاصّة الأميركية، فبوسعك في معظم الحالات الإحالة على صفحة إنترنتية هناك بثقة، كما تحيل إلى صفحة في كتاب، ولن تجدها بين عشيّة وضحاها قد تبخّرت، فأُخفيت أو حُجبت أو اجتثّت! وحتى إنْ تَغَيَّرَ الرابطُ، وجدتَ ما يَهديك إلى وصلته الجديدة. وهذا- بطبيعة الحال- وضعٌ لا يتعلّق بالفارق التقني بيننا وبينهم فحسب، لكنه لا ينفصل كذلك عن الفاصل الثقافي، على مستوى الأفراد والجماعات. فثقافتنا ثقافة تصحّر، وترحل، وأطلال، وتبديل ديار، وعدم استقرار، ومزاجيّات متقلّبة، وبنى ثقافيّة غير مؤسّسة، لا يمكن الركون إليها، ولا التنبؤ بمآلاتها. وحالة الإنترنت ومواقعها لدينا ليست ببِدْعٍ من ذلك كلّه. ولذا تكون عمليّة النقد التكويني الإلكتروني محفوفة أحيانًا بغياب الوثائق فجأة من هذا الفضاء، وكانت بالأمس بين أيدينا. إلاّ أن رابط المادّة وحده يعدّ حينئذٍ شاهدًا على ما اندثر، أو شُطب، أو غُيّب من نصوص ومخطوطات، لسبب أو آخر. ولا بدّ أن نمرّ بهذه المرحلة، كما مررنا بمرحلة الرواية الشفهيّة وعثراتها، المعتمدة على أمانة الراوي، ثم بمرحلة المخطوطات البدائيّة، بأدواتها االبدائية القابلة للتلف أو الغرق أو الحرق أو الامحاء، قبل الوصول إلى عصر المطبعة في القرن الخامس عشر، بما أتاحه من ضمانات نسبيّة أكبر لبقاء الشواهد النصيّة. على أن إشكاليّة أخرى هنا تنجم من قِبَل بعض الكُتّاب أنفسهم. وقد كان مثل هذا يحدث في الماضي أيضًا، حينما لم يكن يرضى بعض الكُتّاب عن كشف أوراقهم، وكان يُخفي بعض الشعراء- بصفة خاصة- تجاربهم الخطيّة الأولى في كتابة القصيدة؛ لأسباب كثيرة، من أبرزها كي يقال إن القصيدة جاءت هكذا بنت لحظتها، مباشرة من وادي عبقر، وأن بديهة صاحبنا العبقريّ- وفق معايير العبقريّة القديمة- تُسعفه بالنصوص ناجزة، بلا مكابدة ولا حكحكة. وتلك تركةٌ شفاهيّة عتيقة. وقد نجد مثل هذا الآن حين يسعى بعض الكتّاب إلى التنصّل من تجاربهم المبكّرة، والسعي إلى إلزام الدارسين بمنشوراتهم الورقيّة، المصادق عليها، وكأنّ في كشف الشاشات القديمة سوأتهم التي يجب سترها! وما تلك بسوأة، ولكن من وظائف النقد- كما أشرنا- تتبع العمل حسب تاريخ نشوئه وترقّيه. بل لقد يلجّ الكتّاب في إملاءاتهم على النقّاد، لإلزامهم بالإحالة إلى مواليدهم الأخيرة فقط، كما تمخّضت ورقيًّا، فهي الوثائق المعترف بها رسميًّا، من وجهة نظر أولئك الكتاب! وما عداها ضروب من التخمينات والتكهّنات، لا تتماشى مع تحري الدقّة، والطرح الموثق، وفق أصوله التقليديّة! قائلين: إن على الناقد- إن هو أراد النجاة من مغبّة ذلك وأن يتحلّى بعلميّة أكثر- أن يقرأ النص مع الكاتب نفسه، ومن الكتاب نفسه، بحسب صيغته المنقّحة المزيدة!.. وإلاّ فعليه غضب الشعراء والكتّاب أجمعين! بل ربما اتّهم المؤلّفُ- رغم افتراض رولان بارت موته!- الناقدَ بأغراض تآمريّة عليه، وعلى حياته، وعلى ما خلّف من نصوص عصماء، جرّاء نبشه المتطفّل على أوراق قديمة، وإجراء المقارنة بين صيغ أكل الكاتب عليها وشرب، وتبرأ منها، أو لم يعد يرتضيها، ولا يعترف بها. نعم، من حق أيّ مؤلّف أن يتنصّل من صيغة قديمة، غير أن من حق الناقد تتبع بنيات النص التكوينية، دونما إملاءات فيما يأخذ به أو يدع. والحق أن رضى الكتّاب عن النقّاد تظلّ غايةً دونها خرط القتاد. فمِن هؤلاء من يرضى إن أشدت به وينقم إن سجّلت ملحوظة، ولو عابرة! وهي حساسيّة ينبغي أن يتفهّمها الناقد، ولا يحمّلها بدوره أكثر ممّا تحتمل. بل هي في ذاتها قد تمثّل ردّات فعل نفسيّة يمكن أن تكون للناقد حقلَ حفرٍ تكوينيّ جديد. ذلك أن غيرة المبدع على تجربته أمر طبيعي، إلاّ أن ذلك لا ينبغي أن يدفعه إلى إساءة الظن بالنقّاد، وكيل التهم لهم، أو تصوّرهم واقفين له بالمرصاد، فهو ما لم يذبّ عن نفسه، التهموه! كما أن مجالات النقد الأدبي، من تكوينيّة، أو نفسيّة، أو اجتماعيّة، أو نصوصيّة، لا تنطلق أساسًا من استهداف مبيّت لشخوص الأدباء، ولا حتى للنيل من تجاربهم. بل على العكس من ذلك، من حيث إن جعل نتاج كاتب ما أو شاعر محور دراسة هو بمثابة اعترافٍ ضمنيّ بمكانته، وإقرار بجدارته بالدرس والتقييم، ولو كان دون ذلك، لما استأهل الالتفات أصلاً، ناهيك عن التوقّف وبذل الجهد في تتبع أعماله ونصوصه والكتابة عنها.
لقد أتى على الثقافة العربيّة حين من الدهر كانت مفردة "النقد" فيه مرادفة لمفردة "العيب" و"النقص". وتحوّلت- بسببٍ من ذلك- العلاقةُ بين النقاد والأدباء إلى خصومات مريرة، ومعارك تستدعي المحاكم أحيانًا والقضاة والوساطات بين الأطراف المتنازعة، من قبيل "الوساطة بين المتنبي وخصومه"، للقاضي علي بن عبدالعزيز الجرجاني، على سبيل المثال. أفما آن أن يرتفع المبدع اليوم عن تلك العقليّة النسقيّة من تصوّر الخصومة بينه وبين النقّاد، وعن شخصنة العلاقة بينه وبينهم؟! فالنقد مجال علميّ مجرّد، الأصل فيه أن لا أغراض له غير الكشف، وتسجيل الرأي الفنّي والعلمي في هذا العمل أو ذاك، دون توخّي الرضى من أحد أو الإسخاط لأحد، وإلاّ فَقَدَ النقد مصداقيّته ووظيفته.
[ونواصل].
ــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: مجموعة من الكُتّاب، (مايو 1997)، مدخل إلى مناهج النقد الأدبي، ترجمة: رضوان ضاضا (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب- سلسلة عالم المعرفة)، 13.
(2) انظر: م.ن، 13- 48.
(3) انظر بحثنا بعنوان "نحو نقدٍ إلِكترونيّ تفاعليّ!"، بحث محكّم ومنشور في (مجلّة آداب المستنصريّة، كليّة الآداب، الجامعية المستنصريّة، العراق، العدد السابع والأربعون، 1429هـ= 2008م، ص ص 241- 250).
(*) للأخ محمّد خِضْر: تأكيدًا لما ورد في حاشية الحلقة الرابعة (15 صفر)- التي استفزته للتعقيب (13 ربيع الأوّل)- وإيضاحًا للقارئ: فإنما جاءت الدراسة لتصف النصّ وتقارن صِيَغَه، لا لتُسقط ولا لتَلْوِي؛ وصيغة نصّه الأولى مقتبسة من موقعه الشخصي (ghimah.net)، لا من "مكان آخر"، كما ذَكَر. ولقد أُثبتت بيانات ذلك بوضوح، وأُشير إلى ورود التعديل في موقع إنترنتي آخر. أمّا (ديوانه الورقيّ)- ولم يكن حين كتابة مسودة الدراسة قد نشر ديوانًا- فلا يختلف عمّا أشير إليه من تعديل. ومهما يكن من شيء، فالشاهد كان- تحديدًا- أن نصّ خِضْر لم يكن بقصيدة تفعيلة، ولا بقصيدة نثر، لا من قبل ولا من بعد، وتلك هي الإشكاليّة محلّ النظر، لا أقل ولا أكثر.
9- 3- 2011
aalfaify@yahoo.com
http://khayma.com/faify
....................................................................................................
* ملحق "الأربعاء"، صحيفة "المدينة"- السعوديّة، الأربعاء 4 ربيع الآخر 1432هـ= 9 مارس2011م، ص8- 9.
|