بين شعب الله المختار.. وشعبه "المحتار"! بقلم: الأستاذ الدكتور/ عبدالله بن أحمد الفَيـفي
	نعم، نحن ثقافة لا تتقبّل النقد. غير أن ردّة الفعل على هذا الواقع قد تظهر كذلك من تيّارٍ مقابل من الفكر العنيف، العَدَميّ، في ما يراه نقدًا لواقعنا العربيّ، لا يفتأ به يجلد الذات الجمعيّة. وهو فكرٌ متطرّفٌ في ذهابه إلى الاتجاه الأقصى المضادّ لتيّار أولئك الذين يُغطّون الواقع بالغلائل ولا يطيقون نقده. وبذا يقع الفكر العربيّ حائرًا بين فكَّي تطرّفين، تطرّف الجمود، ذي النهج "الأرثوذوكسيّ" من تمجيد الماضي، والذبّ عنه بلا عقلٍ ولا هدى، وصولاً إلى تكفير من يفكّر أو يراجع أو ينتقد، وتطرّفٍ مقابل من الانسلاخ الثقافيّ، بأشكاله المتعدّدة وشعاراته المتنوّعة، المعلنة والمبطّنة، من علمنةٍ ولبرلةٍ وغربنةٍ ودعوى تحرّر. وهذا التطرّف الأخير كالأوّل تمامًا، فكرٌ هدّام، جلاّد، عاطفيّ، انهوس بإكبار الآخر- الغربيّ خاصّة- واستِسفاه نفسه، واستصغار أهله، واحتقار تراثه. الثقافة العربيّة برمّتها اليوم واقعةٌ فريسةً لهاتين الطائفتين المتصارعتين: من داسّي رؤوسهم في الرمال كالنعام، ومَن بضاعتهم الصخب والصراخ، ورأس مالهم العويل، ونسبة كلّ مَنقصةٍ للعرب والمسلمين، وعزو كلّ مَكرمةٍ وعبقريّةٍ إلى العصر الغربيّ والعنصر الآري. وفتون الشرق بالغرب قديم كفُتون الغرب بالشرق(1). وهؤلاء الأخيرون- أعني عبيد الآخر- كسالفيهم، ذوو إرهابٍ فِكْريّ هدّام؛ لأنهم بخطابهم يحطّمون الحوافز الضروريّة لثقة أيّة أُمَّةٍ في مقدّراتها ولنهوض أيّة قومية وإنجازها. وهو ما تنبّهت إليه أُمم أخرى، حتى بلغ الأمر بإسرائيل، مثلاً- وَفق هذا المنظور من التحفيز وبعث روح الاعتزاز القوميّ- إلى أن تصنع الأكاذيب التاريخيّة كي تظلّ أجيالها تعتقد تفوّقها، وأنها شعب الله المختار، وجيشه الذي لا يُقهر! "شعب الله" الذي يرى في نفسه عبر هذا المصطلح التفوّق المطلق.. وأيّ تفوّق أعظم ممّن ينتسب إلى الله؟! وهو "المختار"، المنتخب على أساسٍ ديمقراطيّ؛ لميزات لا تتوافر في غيره! ولأنه كذلك- بحسب تلك العقيدة التي لا يستنكفون منها ولا يتبرّؤون- فقد سخّر الله له الأرض والطبيعة والكائنات! ومن أسرار تفوّقه أنه لا يؤمن بالقطيعة المعرفيّة مع ماضيه، بتاريخه وأساطيره، بل يطوّره، أو يوظّفه كلّه، في حشدٍ من الزخم الإعلاميّ والدعائيّ والمعنويّ. "شعب الله المختار وجيشه الذي لا يُقهر" تجلَّى قديمًا في "العهد القديم"، الذي يصوّر في ما يصوّر مثلاً: بطل شعب الله المختار قادرًا على إبادة جيش كامل بفكّ حمار! ويتجلّى حديثًا في استغلال كلّ صغيرة وكبيرة لدعم مشروعه الظالم المغتصب. وشواهد ذلك بلا حصر. ولأنه كذلك فليس من المستغرب حسب عقيدته تسخير الطبيعة لدعم نظريّاته؛ من حيث هو يسعى إلى تحويل أحلام الماضي وأساطير التاريخ إلى حقائق في الحاضر وآمال للمستقبل، فهو لا يغرق في التغنّي بالماضي، وإنما يغترف من مائه ما يُمدّه بمشروعيّة حاضره، ويستلهم من رؤاه وخيالاته ما يبتني به مخطّطات المستقبل. ألم يَرِد عن سليمان، عليه السلام، قوله تعالى: "وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ، وَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ، وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ، إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِين"؟ وقوله: "وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُون"؟ وقوله: "وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً، يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ، وَالطَّيْرَ، وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيد"؟ وقوله: "فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ، وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً، وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ، وَالطَّيْرَ، وَكُنَّا فَاعِلِين"(2)؟ بلى، وردَ ذلك كلّه، ونحن- المسلمين- نؤمن به؛ لأنه ورد في القرآن الكريم عن معجزات بني إسرائيل وأنبيائهم. غير أن القوم لا يكتفون بالإيمان كما نفعل، ولا بسرد الماضي كما نسرد، ولكنهم يستلهمون هذا التراث كلّه، حتى ما يتعلّق منه بتعلّم مَنطِق الطَّيْر وتسخيره، وتجنيده للتجسّس، كما جاء أيضًا في قصّة الهُدهد السليمانيّ، في استطلاعه التجسّسي على مملكة سبأ وملكتها. وبين يدينا شاهدٌ على تجلّي ذلك الماضي في ممارسة الحاضر لدى القوم. وهو ما نُشر في صحيفة "الجزيرة"(2) مؤخّرًا حول حكاية المواطن السعودي (صيّاد الخياري) مع طائر تجسّس إسرائيليّ صِيد في حائل، حيث جاء في الخبر أنه "هبط طائر جارح ضخم الشكل والجسم في قرية الضحايا بالركن الغربي لمنطقة حائل، وذلك عصر يوم الوقوف بعرفة 9- 12- 1431هـ، بالقرب من أحد المنازل الكبيرة التي يجتمع فيها عدد من الضيوف لدى الشيخ صياد بن عيد الخياري؛ الذي يقول إنهم تفاجأوا بهذا الطائر الجارح الغريب والكبير يقترب منهم رغم كونه وحشيًّا وجارحًا، ولم يَهَب البَشَر، بل كان يقترب منهم شيئًا فشيئًا، ومن المجلس الذي كانوا يجتمعون فيه، وكأن هناك تدريبًا عمليًّا له على ذلك.. فكان هذا المشهد محلّ استغراب واهتمام، ممّا أشغلنا عن ضيوفنا [كما يقول رواي القصة السليمانيّة الحديثة!].. وقد رأينا أنه محزّم بمحزم مربوط به جهاز ذو "أيريل" قصير، "أنتل"، وكذلك محجّل بأساور من نحاس وحديد.. فعزمنا على صيده والقبض عليه، إلاّ أنه كان يستخدم طريقة في الدفاع عن نفسه عندما يشعر بالخطر، ويقترب منه البشر؛ فيبدأ بلفظ مخلفات معدته وبكميات كبيرة فتنبعث منها رائحة كريهة جدًّا فيصعب القرب منه، ثم يعاود أكلها مرة أخرى، ويستخدم هذه الطريقة حتى يُقلع محلّقًا؛ لأنه يحتاج لمسافة 30 مترًا كمدرّج إقلاع حتى يطير؛ وذلك بسبب بعض الأوزان التي يحملها على ظهره وتحت بطنه وبعض القطع المعدنيّة حول ساقَيه؛ ورأينا ذلك عبر المنظار المقرّب "الدربيل". هنا شعرنا أننا أمام تحدٍّ كبير يفوق التوقّع وأنه ذو أبعاد وأهداف ليست فطريّة.. وعن طريقة الإمساك به يقول (الصيّاد) صيّاد: دبّرت كمينًا كريمًا، وهو أنني قمت بذبح خروف ورميته بالقرب من سور المنزل وتركته بدمائه وذهبنا بعيدًا، وجعلتُ بعض إخوتي أمامه للمناورة، فيما قمتُ أنا بمداهمته من الخلف القريب من طَرَف الجدار بعد أن تلقيت إشارة منهم بأنه انهمك بنهش اللحم. قَدِمتُ مسرعًا ورميتُ جسمي رميًا على جسمه وسقطتُ على ظهره، ولقُوّته بدأ يقاومني باهتزاز عنيف؛ حتى تلقيتُ المَدَدَ من إخوتي، ولاسيما أن الوقت ليلاً، وقد بدأ الكرّ والفرّ منذ عصر اليوم نفسه. وكان قبل الإمساك به يُصدر أصواتًا مأنوسة تشبه صوت (الطفل الرضيع!) تجاوبه أصوات أخرى من ثلاثة طيور أخريات اتّخذت من قمّة جبلٍ قريبٍ موقعًا عاليًا، ولم يَدْنُ من بيتنا سوى طير واحد هو الذي أسرناه. بعدها مباشرة حلّقت الثلاثة جوًّا وكأن هناك إشارات وتحذيرات لا سلكيّة صدرت من الطير الأسير.. وعن محتويات الطير يضيف صيّاد: إنه جهاز على ظهره فيه "أنتل" طويل، ولاصق على الجناح يحمل الرمز x63، وحجل معدني حول ساقه برمز H1-Ho5، والساق الأخرى فيها سوار نحاسيّة مكتوب عليها "إسرائيل ISRAEL"، ومتبوعة بحروفٍ ترمز لجامعة "تل أبيب"، وجهاز ثالث مزروع داخل جسمه متّصل بالجهاز الخارجي! بقي أن نشير [كما جاء في الخبر] إلى أن قرية الضحايا الحائلية تحوي آثارًا ونقوشًا منذ زمن بعيد.. فهل الطيور تلك قصدت القرية؟ أم جعلتها محطّة عبور ضمن محطّاتها التموينيّة وستواصل الطيران لمواقع وأهداف أخرى؟ كما يشار إلى أن صيّاد الخياري تواصل مع جهات الاختصاص وتمّ تسليم الطير لهم." فهذا الخبر شِبه الأسطوريّ دليلٌ حيٌّ على ما قلناه أعلاه، وأن القوم يفعّلون كل المعطيات، والأفكار، والتاريخ، والجغرافيا، والطبيعة، والماضي والراهن، لتحقيق مآربهم الاستراتيجيّة. ولا شك أن تسخير الطير يأتي استلهامًا لطير سليمان، وإنْ أنكروا، وإنْ كان من سوء طالعهم هذه المرة أن طيرهم وقع في فخ صيّاد ماهر! فمَن لنا- نحن العرب- بمن يسخّر خبرة العرب ومهارات طيورهم في الصيد والطرد، لا في صيد الحُبارى، ولكن في صيد المعلومات والأفكار. مَن لنا بمَن يصنع حاضره من ماضيه، على نحو عِلْميّ؛ فلا ينسلخ من تاريخه وانتمائه، ولا يجعلهما ادّعاءً ماضويًّا "ميغالومانيًّا"، وتفاخرًا فارغًا، لا يُسمن ولا يُغني من جوع! تلك هي المسألة! ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) تجلّى قديمًا، مثلاً، في تلك الحكايات الشعبيّة عن فتون الرجل الشرقيّ المسلم بالمرأة الغربيّة المسيحيّة، كـ"حكاية الشيخ صنعان"، (انظر: العطار، فريد الدِّين، (2002)، منطق الطير، دراسة وترجمة: بديع محمّد جمعة (بيروت: دار الأندلس)، 218- 240)، أو "حكاية الشيخ عبدالله الأندلسي"، (انظر: الإبشيهي، (1933)، المستطرف في كلّ فنٍّ مستظرف، (القاهرة: مطبعة المعاهد)، 1: 153- 155). وتلك النماذج المريضة بالآخر- في كل زمان ومكان- سرعان ما تخلع مرقّعاتها، وتغيّر دِينها، وتلبس الزنانير، وتجعل مهورَها لمعشوقاتها من بنات الأصفر: خدمةَ الخنازير، كما فعل الشيخان المذكوران. (2) النمل: 16- 17؛ سبأ: 10؛ الأنبياء: 79. (3) بريدة- سليمان العجلان، على الرابط: http://www.al-jazirah.com/20101227/lp1d.htm 4/ 3/ 2011 aalfaify@yahoo.com http://khayma.com/faify .................................................................................................... * "المجلّة الثقافيّة"، صحيفة "الجزيرة"، الخميس 5 ربيع الآخِر 1432هـ= 10 مارس2011م، العدد334، ص11.
للتعليق على الموضوع: اذهب إلى ساحة نقاش الإضبارة! شكرًا لاطّلاعك على هذه الصفحة!

جميع الحقوق محفوظة ©