كُلّ ما في (القِصّة القصيرة جِدًّا) قصير جِدًّا إلاّ مصطلحها هذا، فهو أطول مصطلحات الأجناس الأدبيّة والفنّيّة. ربما لأننا في الثقافة العربيّة قد أهملنا خصائص اللغة العربيّة وما تمنحه من إمكانيّات تعبيريّة عزّ نظيرها في غيرها، وأخذنا نترجم المصطلحات وفق ترهّلاتها في لغات أخرى مختلفة، كما في ترجمتنا الحرفيّة لهذه التسمية: "A VERY SHORT STORY". إذ لعل المصطلح الأَولَى للتعبير عن هذا النوع كان أن يُسمى في العربيّة: (القِصّة القُصْرَى)، تفريقًا بينه وبين (القِصّة القصيرة). غير أنه يعترض سبيل هذا البديل أمامنا الآن عددٌ من المبادئ: أوّلها، أن في المصطلح البديل (القِصّة القُصْرَى) جَزْمًا بأن هذا الضرب من القصص هو الأقصر، ولئن كان هذا هو ظاهر الأمر الآن، فإن استعمال (أفعل التفضيل) في مصطلحٍ أمر غير مستساغ. وثانيها، أن في مصطلح (القِصّة القصيرة جِدًّا) إلماحٌ ضمنيّ إلى أن النصّ هو من جنس (القِصّة القصيرة) إلاّ أنه أقصر من معتاد (القِصّة القصيرة)، وإنْ كان كُتّابه قد يبالغون في اختزاله كثيرًا، كما سنرى. والسبب الأهمّ المُعترِض في سبيل اتخاذ بديلٍ عن ذلك المصطلح الطويل أنه قد استقرّ تداولُه بين الناس، فصار من غير المناسب تعديله، بل قد يكون ذلك محض عبث. فلا مناص إذن من التعلّل بأنْ: لا مشاحّة في الاصطلاح، مهما كان.
على أن مناقشة المصطلح هنا تلفتنا إلى ما هو أكثر أهميّة منه، وهو النظر في طبيعة النصوص المندرجة تحت هذا المصطلح نفسها، من حيث كونها تتصف بالقصصيّة أصلاً أو لا تتصف؟ ما قد يدعو إلى تصنيف بعضها تحت مصطلح آخر، هو: "قَصِيْصَة"، (بقاف مفتوحة وصاد مكسورة)، تركيبًا نحتيًّا من "قصيدة-قِصّة"؛ لأن ما يُسمّى القِصّة القصيرة جِدًّا هو أحيانًا قصيدة نثرٍ في قِصّة قصيرة جِدًّا، أو قِصّة قصيرة جِدًّا في قصيدة نثرٍ، لا فرق، في تزاوجٍ يجعل الفارق بين هذين النوعين شفّافًا جِدًّا، حتى لا يكاد يميّز القِصّة القصيرة جِدًّا سوى التزامها حكائيّةً ما، في حين لا يلزم ذلك قصيدة النثر. كما أن بعض الشِّعر لا يميّزه عن النثر سوى الإيقاع، والإيقاع وحده ليس ما يمنح الشِّعر شِعريّته الكاملة، كما أن ليس فقدانه هو ما يمنح النص نثريّته بالضرورة. وإنما الإيقاع عنصر فارق للشِّعر، كما يجب أن تكون الحكائيّة عنصرًا مائزًا لكل ما يندرج تحت اسم "قِصّةٍ"، طالتْ أم قصرت. ولكي نختبر هذه الحقيقة، لنأخذ نصًّا لشاعر لا شكّ في شِعريّته ولا في تجربته الغنيّة، وهو محمود درويش. وليكن نصًّا له بعنوان "لا أعرف الشخص الغريب"(1):
لا أعرف الشخص الغريبَ ولا مآثرَهُ...
رأيتُ جِنازةً فمشيت خلف النعش،
مثل الآخرين مطأطئ الرأس احترامًا. لم
أجد سَبَبًا لأسأل: مَنْ هُو الشخصُ الغريبُ؟
وأين عاش، وكيف مات [فإن أسباب
الوفاة كثيرةٌ من بينها وجع الحياة].
سألتُ نفسي: هل يرانا أَم يرى
عَدَمًا ويأسفُ للنهاية؟ كنت أَعلم أنه
لن يفتح النَّعْشَ المُغَطَّى بالبنفسج كي
يُودِّعَنا ويشكرنا ويهمسَ بالحقيقة
[ما الحقيقة؟]. رُبَّما هُوَ مثلنا في هذه
الساعات يطوي ظِلَّهُ. لكنَّهُ هُوَ وحده
الشخصُ الذي لم يَبْكِ في هذا الصباح،
ولم يَرَ الموت المحلِّقَ فوقنا كالصقر...
[فالأحياء هم أَبناءُ عَمِّ الموت، والموتى
نيام هادئون وهادئون وهادئون] ولم
أجد سببًا لأسأل: من هو الشخص
الغريب وما اسمه؟ [لا برق
يلمع في اسمه] والسائرون وراءه
عشرون شخصًا ما عداي [أنا سواي]
وتُهْتُ في قلبي على باب الكنيسة:
ربما هو كاتبٌ أو عاملٌ أو لاجئٌ
أو سارقٌ، أو قاتلٌ... لا فرق،
فالموتى سواسِيَةٌ أمام الموت.. لا يتكلمون
وربما لا يحلمون...
وقد تكون جنازةُ الشخصِ الغريب جنازتي
لكنَّ أَمرًا ما إلهيًّا يُؤَجِّلُها
لأسبابٍ عديدةْ
من بينها: خطأ كبير في القصيدةْ!
لنسأل هاهنا: أهذه قصيدة، أم قصّة (قصيرة جِدًّا)؟ بل أهذا نصّ شِعريّ أم نصّ نثريّ؟
أين الشِّعريّ فيه من النثريّ إذن؟
لنجرّب إزالة الإيقاع التفعيليّ عنه، ثم لننظر ماذا سيبقى من شِعريّته؟:
"لست أعرف الشخص الغريبَ، ولا أعرف مآثرَهُ... وإنما رأيتُ جِنازةً فمشيت وراء النعش، كالآخرين، وأنا مطأطئ الرأس احترامًا. لم أجد أيّ سَبَب للسؤال عن الشخص الغريب ومن يكون؟ أو أين كان يعيش، وكيف توفي [أسباب الموت كما هو معروف كثيرةٌ ومن بينها ما يمكن أن يُسمّى وجع الحياة]. لقد سألتُ نفسي حينها: هل كان يرانا، أَم يرى عَدَمًا وكان يأسفُ للنهاية؟ كنت أَعلم طبعًا أنه لن يفتح نعْشَه الذي كان مُغَطًّى بالبنفسج لكي يُودِّعَنا، أو يشكرنا، أو يهمسَ إلينا بالحقيقة [وما الحقيقة؟]. قد يكون يطوي ظلَّهُ مثلنا في هذه الساعات.. من يدري! غير أن المؤكد أنه هُوَ الشخصُ الوحيد الذي لم يَبْكِ في هذا الصباح، كما لم يَرَ الموت المحلِّقَ كالصقر فوقنا... [ذلك أن الأحياء أَبناءُ عَمِّ الموت، في حين أن الموتى نيام وهادئون هادئون هادئون]. حقيقةً لم أجد أيّ سَبَب للسؤال عن ذلك الشخص الغريب من يكون؟ أو ما اسمه؟ [عمومًا ليس هناك لاسمه برق يلمع]. كان السائرون خلفه عشرين شخصًا باستثنائي [أنا غيري]. ولقد تُهْتُ على باب الكنيسة في قلبي: قد يكون الرجل كاتبًا، أو يكون عاملاً، أو لاجئًا، أو حتى سارقًا، أو قاتلاً... ليس هناك فرق؛ لأن الموتى متساوون أمام الموت.. فهم لا يتكلمون وقد لا يحلمون... وربما تكون جنازةُ الشخصِ الغريب تلك جنازتي، إلاّ أن أَمرًا إلهيًّا ما يُؤَجِّلُها؛ وذاك لأسبابٍ كثيرة، ومن بينها احتمال ورود خطأ كبير في القصيدةْ!"
كيف نرى النصّ الآن؟.. ماذا جرى؟.. وهل بقي شِعرًا؟
لقد أصبح في شكل قِصّة قصيرة جِدًّا. مع أننا لم نُجر عليه إلاّ تعديلات طفيفة، لإزاحة الإيقاع، لا أكثر، بالتقديم والتأخير، أو استبدال بعض المفردات بمرادفاتها. فماذا يعني هذا؟
إنه يعني أن أرباب قصيدة النثر على حقّ حينما يحتجّون بأن الإيقاع الموسيقي ليس كلّ شيء في الشِّعر، وأن بعض النصوص لو أُذهبت عنها التفعيلة لصارت نثرًا صِرفًا، في خواء عن اشتغالها على اللغة والصورة. ونصّ درويش برهان على صحة تلك الحُجّة؛ فما الذي بقي فيه من شِعريّة بعد إلغاء الإيقاع؟ هل تغنيه عن نثريّته عبارة كـ"وجع الحياة"، أو "يطوي ظلّه"، أو "لا برق يلمع في اسمه"، أو "تُهْتُ في قلبي"؟ وهي صيغ تعبيريّة باتت اعتياديّة، لا ماء شِعريًّا يُذكر فيها، حتى إن عبارة " تُهْتُ في قلبي" إنما هي: "تُهْتُ في أسئلة قلبي"، اقتضت التفعيلة فيها حذف كلمة "أسئلة". أم هل يُسمن النصّ شِعريًّا سطره الأخير:
... لكنَّ أَمرًا ما إلهيًّا يُؤَجِّلُها لأسبابٍ عديدةْ
من بينها: خطأ كبير في القصيدةْ!
هل ينقذ شِعريّة النصّ هذا السطر، وإنما ألهمتْ درويشًا به قافيةُ: "... لأسباب عديدة"، في السطر السابق؟
لأجل ذلك فإن بعض النصوص الشِّعريّة الحديثة (من شِعر تفعيلة، فضلاً عن قصائد نثر)، لو جُرّدت من الإيقاع، لتحوّلت إلى قِصص قصيرة جِدًّا، كما أن بعض القِصص القصيرة جِدًّا لو زوّدت بلمسات إيقاعيّة، لجاءت أَشْعَر من نصّ درويش الآنف! وذلك ما سنواصل اختباره في الحلقات الآتية.
[ونواصل].
ــــــــــــــــــــــــــ
(1) درويش، محمود، (2005)، كزهر اللوز أو أبعد، (بيروت: رياض الريّس)، 67- 69.
17- 3- 2011
p.alfaify@yahoo.com
http://khayma.com/faify
....................................................................................................
* ملحق "الأربعاء"، صحيفة "المدينة"- السعوديّة، الأربعاء 11 ربيع الآخر 1432هـ= 16 مارس2011م، ص8.
|