النظام.. وصناعة الطاغية!: 4.مقالات:إضبارة د.عبدالله الفـَيفي



النظام.. وصناعة الطاغية!
بقلم: الأستاذ الدكتور/ عبدالله بن أحمد الفَيـفي

-1-
قالوا: "حَضَرَ أبو نواس مع جماعة سطحًا عاليًا يطلبون هلال الفِطْر، وكان سليمان بن أبي سهل في عينيه سُوء، فقام أبو نواس بإزائه، ثم قال:
- "يا أبا أيّوب، كيف ترى الهلال مِن بُعد وأنت لا تراني مِن قُرب؟!"
- فقال له سليمان: "قد رأيتك تمشي القهقرَى حتى تدخل في رحم جلبان، يعني أُمَّه..."(1).
هكذا يدّعي الأدعياء أنهم يرون مِن بُعدٍ ما لا يرون مِن قُرب.. فإذا سُئلوا: كيف ذاك؟ استشاطوا غضبًا!

-2-
"كان ذلك موجز الأنباء.. وإليكموها بالتفصيل":
إن غياب الرؤية وراء غياب النظام.
أيّ نظام؟
كلّ نظام! حتى لو كان نظام المرور: "ساهر". هذا النظام، طيّب الذكر، الذي لا يَرَى مِن بُعد إلاّ مخالفات "السرعة" فقط، وبعض الأشياء الأخرى العابرة حواليه، ولا عليه، كما يَرَى- بالتأكيد- ارتفاع مؤشِّر الغرامات المتضاعفة، فيما لا يَرَى مثلاً "التفحيط" في الأرض، وإن بلغ السماء، بلا مؤشّر غرامات ولا يحزنون! مع أن "التفحيط"، أو "التقحيص"- تعدّدت الأسماء ومهزلتنا واحدة منذ أن عُرفت السيارة في المملكة!- لا يقلّ شناعة ووقاحة سلوكيّة من السرعة. بل قد يكون للسرعة أحيانًا ما يبرّرها: من بُعد مسافة، أو طارئ يقتضي السرعة، ولاسيما في قارّة من البراري، لا مواصلات فيها إلاّ عن طريق البرّ، فلا قطار، ولا طيران تنافسيًّا، أو معقول الأسعار، أو حتّى مضمونًا لمن استطاع إليه سبيلاً، وبقي له من فائض كلفات المعيشة على الأرض ما يسمح له بامتطاء السماء.. وإلاّ فليس أمامه إلاّ الطيران بَرًّا! أمّا "التفحيط" فليس له من مبرّر على الإطلاق، بل هو محض استخفاف بالسُّلطة النظاميّة، ونقصان تربيةٍ اجتماعيّة، وتعبير عن نزوعٍ إلى الهمجيّة والغوغائيّة، من شباب مرفّه أجوّف، لم يجد ما يملأ فراغه؛ فلا هَمَّ حياة جادّة، ولا مَرافق تستوعب طاقاته. ولقد عادت تلك الظاهرة في الآونة الأخيرة لتعيث في الشوارع فسادًا، حتى لقد أصبح شارع كشارع الملك عبدالله في الرياض- على سبيل المثال لا الحصر- وتحديدًا لدى دوّار الكتاب أمام جامعة الملك سعود، الميدان المشهور لرياضات "المفحّطين" النهاريّة والليليّة، وخاصّة في "العُطَل"، وما أكثرها!
..أكتبُ الآن على نعيق الإطارات، وأسأل: أين نظام مرورنا الصارم هنا؟
أين نظام ساهره ذو العيون الساهرة/ الساحرة؟
أين المرور السرّي أو العلني؟ ألا يسمع أو يرى؟
بل السؤال الأدهَى: هل عالجت الأنظمة الورقيّة المتناسخة واقعنا، المتردّي من سيّءٍ إلى أسوأ في كلّ شيءٍ ومرورٍ بشيء، أم أن ما قبل سنوات كان أفضل ممّا بعد سَنِّ الأنظمة وهيلماناتها؟!
إنه حتمًا ساهرٌ- كسائر الأنظمة- هناك، ربما يتفرّج مع النظّارة، كأن الأمر لا يعنيه، أو بالأصحّ قد لا يدخل في موادّ اختصاصه، أمام حالةٍ من "التسيّب المروري" المزمن، لعلّه لا مثيل لها في بلدٍ آخر من العالم! لكأن في عينيه الساهرتين، إذن، ما في عينَي سليمان بن أبي سهل من سوء! فأين أنت يا سليمان بن أبي سهل الساهر؟ أين أنت، أيّها "السِّنَافِيُّ"، يا مَن ترى الأهلّة عن بُعد وأنت لا ترى تفحيط غيرها من قُرب؟! ذلك أن من عجائبنا- نحن المسلمين- أن نتغنى بالأصول والقِيَم، ونحن فعليًّا من أبعد البشر عن كثير منها! فلا دِين يزع، ولا نظام يردع! وإلاّ، إن كان النظام غير فعّال، فلكم أفتى المفتون بحرمة "التفحيط"، لما فيه من إيذاء، وترويع، وإهدار أموال، وسفك دماء. ولكن لا حياة لمسلم، لا من المفحّطين ولا أولياء أمورهم! وقد كان آخر ذلك انتقاد المفتي العام ممارسي "التفحيط"، ووصف أعمالهم بـ"الشريرة"، وأنهم عون للالتقاء بـ"المنحرفين أخلاقياً وسلوكياً"، من سرّاق السيارات ومتعاطي المخدرات وأنواع الانحراف السلوكي والأخلاقي. كما شدّد على ضرورة حث رجال الأمن بكل المستطاع لمحاصرة جرائم التفحيط والأخذ على أيدي المفسدين.(2)
هذا نموذجٌ عامٌّ، يَحضر مصادفة حين التأمّل في نماذج الأنظمة العربيّة المتهلهلة عمومًا، ممّا نراه كلّ يومٍ وكلّ ليلةٍ، ونعانيه دائمًا، ولا يراه النظام الهائل المحترم، بل يظلّ ينظر شزرًا كي يرى ما هو أبعد وأسرع. وبالمناسبة، قبل سنوات أقرّ مجلس الشورى نظامين جديدين: "نظام المرور" الجديد، و"نظام أندية سباق السيارات" المبتدع! وما زال التفحيط مستمرًّا، إنْ لم يزد عن ذي قبل: تفحيط الأنظمة، وتفحيط الشوارع! ذلك أن الأنظمة قد تتوالد، وتتناسل، ويَجُبّ بعضها بعضًا، غير أن النظام يظلّ عقيمًا، بل لا وجود له، ما لم يكن ذا ذراع تطبيقيّة صادقة، شاملة، ودقيقة! وعندئذٍ فهو أعمى لا يَرى، وهو هلالٌ لا يُرَى، وإن ادّعى الأدعياء، كابن أبي سهل، عليه ما يستحق!

-3-
النظام حضارة، وغيابه تخلّف.
ولذا فإن من الانحطاط المروّع أن يتحوّل- كمثال آخر- معرضُ كتابٍ إلى ساحة للمليشيّات المتضادّة، تيّارٌ يستفزّ، وتيّارٌ يسعَى في الأرض لفرض وصايته، وفرض توجّهاته، إنْ لم يستطع بيده فبلسانه، ممّا يؤدّي إلى حالة من الاحتقان، ويستدعي حضورًا أمنيًّا مكثّفًا لفضّ الاشتباك.
حضورٌ أمنيٌّ مكثّف في معرضٍ دوليٍّ للكتاب؟!
نعم؛ لأن النظام ليس عَسْكَرَةً، والأمنُ ليس قَمْعًا، بحال من الأحوال، بل هما تربية حضاريّة قبل كلّ شيء وبعده. فأين النظام؟ أين التوازن؟ أين النزاهة من التعصّب، ومن الانتقائيّة، والانحياز؟ أين هيبة القِيَم الثقافيّة والحضاريّة، ذاتيّةً وجمعيّةً، وأين احترام خيارات الآخرين، في هذا الميدان، الذي يُفترض أنه معرفيّ وثقافيّ؟ إنها ثقافة "التفحيط" ذاتها في الصحارى نفسها؛ فهناك من يفحّط فكريًّا، وهناك من يفحّط دينيًّا، وهناك من يفحّط أيديولوجيًّا! وهؤلاء وأولئك يمارسون أعمالاً شبيهة بأعمال أولئك المفحّطين في الشوارع! وكان المفترض أن يوجد نظام ساهرٍ حقيقيّ هاهنا كذلك، يوقف كُلاًّ عند حدّه، بحيث يَعرف قانونيًّا ما له وما عليه، وأنه في بلدٍ حديثٍ، يحكمه القانون وتديره المؤسّسات، وليس في مضارب البادية! وإلاّ فإنها الفوضَى البدائيّة تُقترف من جميع الأطراف، ليُصبحوا جميعًا مضحكةً أمام الإعلام والعالم المتمدّن، الذي لا يعرف مصطلح "التفحيط" أصلاً!

-4-
من جهة أخرى، ولمزيدٍ من التفصيل، يمكن القول إن من وراء عدم رؤية النظام- أيّ نظام كذلك-: شخصنته، في مَن يمثّله، أو في مَن يطبّق عليه، ومَن يطبّق حوالَيه، ولا عليه! ولو انتقلنا هنا إلى مفهوم أشمل للنظام، لرأينا أنه قد أصبح- للمفارقة- يوحي لدينا بالاستبداد، وصار الهُتاف مؤخّرًا: "الشعب يريد إسقاط النظام"، هتافًا مشروعًا، وثوريّة إصلاحيّة! والسبب أن مفهوم النظام في عالمنا العربيّ هو في الحقيقة "اللا-نظام"، والنظام في هذا السياق المريض يصبح ألوانَ العسف والمحسوبيّات، وصناعة الشبكات الانتفاعيّة مِن عصابة علي بابا. النظام نظامها، والحقّ حقّها، وأوديته تصبّ في حجورها. غير أننا نرى في المقابل أن الشخصنة للأنظمة لا يأتي مِن قِبَل الحاكم فقط، بل مِن قِبَل المحكوم أيضًا. والأمثلة حيّة. فسقوط البيادق العربية المتتالية، وسقوط مسرحية الشعارات الزائفة معها، قد أَوْهَمَ معظم الجماهير العربيّة أن النظام السابق قد انتهى، وأنهم على أبواب جنّة العدالة والديمقراطيّة. لماذا؟ لأن القضيّة لديهم شخصانيّة، متمثّله في شخص الحاكم. غير أن هذا تسطيح للإشكاليّة الثقافيّة للاستبداد والفساد بكلّ أبعادها. من حيث إن الإشكاليّة برمّتها، وذي رمّتها، لا تتمثّل في الأشخاص، ولكن في منظومة من القِيَم الثقافيّة السائدة، لدى السيّد والمسود، وإنما أولئك الحُكّام الفاسدون أنفسهم نتاجاتها. بمعنى أن ذهاب هذا البيدق أو ذاك ليس هو الحلّ النهائي، لكن الحلّ في تغيير منظومة من القِيَم، بدءًا من الفرد، فالأسرة، فالمجتمع، فالدولة، فالأُمّة، وذلك في رحلة تربويّة، اجتماعيّة وثقافية، طويلة وشاقّة، إذا تمّا (أي التغيير والرحلة) حالا دون تغوّل فردٍ على جماعة، فضلاً عن تغوّله على شعب. إن النظام تلاحمٌ من النظريّ والبشريّ. وما تصوّر أن ذهاب هذا الحاكم المستبدّ أو ذاك الطاغية المستأسد هو مفتاح التغيير والحلّ الأوّل والأخير إلاّ دليل على أن الثقافة ذاتها ما زالت طفوليّة، مريضة بفكرة الحاكم بأمره، ومؤمنة بقُدرة الفرد الخارقة، وسلطانه الأبويّ الطاغي(3). لأن الحاكم، مهما بلغ نفوذه، لا يمكن أن يفعل ما يفعل لولا البيئة المحيطة الفاسدة التي تُفَرْعِنُهُ وتُصنّمه. ومِن ثَمَّ فهو صنيعة ثقافيّة لمحيطٍ عارم من الفساد المستشري، والمحسوبيّات الراسخة، تحت شعارات وتشريعات ماكرة، وجدباء إلاّ من التعصّب الأبويّ والقبليّ والطبقيّ والطائفيّ والعنصريّ، وعدم سيادة القانون، وبالجملة: (التقهقر الحضاري)، بمستوياته وألوان طيفه المتعدّدة. إنه جلاّدٌ وضحيّة في آن، بل هو ضحيّة ثقافيّة، قبل أن يكون جلاّدًا.
ولذا، فإن على المجتمعات العربيّة أن لا تتفاءل كثيرًا بتغيّر الأوضاع لتغيّر الوجوه. بل إن عليها بدل أن تصبّ جام ثوراتها الغاضبة على فرد، أن تُحاسِب قبل ذلك- عبر مؤسّساتها التربويّة والتعليميّة والتثقيفيّة والتنظيميّة- شبكةً كاملةً من المعطيات المركّبة التي أنتجت ذلك الفرد الوحش، وحكّمته في رقاب الرعايا؛ فالطاغية يُصنع لا يولد.

ــــــــــــــــ
(1) العبّاسي، عبدالرحيم، (1316هـ)، معاهد التنصيص، (مِصْر: المطبعة المِصْريّة)، 1: 33.
(2) انظر: صحيفة "الوطن"، العدد3837 ، السبت 28 ربيع الآخِر 1432هـ= 2 أبريل 2011م، ص13.
(3) واستنادًا إلى المنظّر الاجتماعي الألماني (ماكس فيبر) يمكن القول: إن تلك الجماهير- من جهتها- تتحرّك بدوافع من أخلاقيّة الرأي الفرديّة، التي كان يرى (فيبر) أنها تبرِّر بالغايات الوسائلَ، لا بدوافع "أخلاق المسؤوليّة"، التي توازن بين واقعيّة الوسائل ونُبل الغايات. (انظر: الدخيّل، عبدالعزيز، (2011)، سوانح الأربعاء، (الرياض: العبيكان)، 13- 14).

30/ 4/ 2011
p.alfaify@yahoo.com
http://khayma.com/faify

....................................................................................................

* "المجلّة الثقافيّة"، صحيفة "الجزيرة"، الخميس 24 جمادى الأولى 1432هـ= 28 أبريل 2011م، العدد339، ص13.
* للقراءة من المجلّة مباشرة.



للتعليق على الموضوع: اذهب إلى ساحة نقاش الإضبارة!

شكرًا لاطّلاعك على هذه الصفحة!

جميع الحقوق محفوظة ©