حوار صحيفة "الزمان" مع الشاعر الناقد الدكتور عبدالله الفـَيفي :5.لقاءات:إضبارة أ.د.عبدالله الفـَيفي


الشاعر أ.د. عبدالله بن أحمد الفَيفي
لصحيفة "الزمان":
الروائيّون العرب مشغولون بحاراتهم وبهمومهم الصغيرة لا بالفكر والتاريخ!
(حاورته: زهرة زيراوي - الرباط)


البروفسور الدكتور عبدالله الفَيفي هو "نار على علم" تجده في ساحة الشعر كما في عوالم الأسطورة باحثًا مترحّلاً بين التاريخ، والجغرافيا، والميثولوجيا، وما جاءت به الديانات، نشير إلى بحثه القيم "بين أسطورة (امْحَمْ عُقَيْسْتَاء) في جبال فَيْفاء وأسطورتَي (كَلْكَامش) و(أوديسيوس Odysseus): ( قراءة مقارنة )".
إنه حاضر في الأبحاث الدراسية عامة، متابع لما يجدّ في الساحة العربية، ومقارن بين الماضي وحداثة الحاضر، وكيف يتفتح النص الإبداعي على ثقافة الغرب، فالجذع باق، والفروع تنهل ما يلقح الجسد، مميط اللثام عن الجديد فيها، كما عن نص يميل إلى الهوى والفوضى، إنه يذكّرك بأبي تمام، يلتقيان في جِدة النقد ومعارفه وحزمه، أو ابن المعز، فهما يقفان معًا في مجاز الصورة الشعرية:
ترومين تحطيم كل حدودي
*** وتبغين جعل المحال يديا
يحيلنا البيت على بيت ابن المعتز:
تُخفي الزُجاجَةُ لَونَها وَكَأَنَّها
*** في الكَفِّ قائِمَةٌ بِغَيرِ إِناءِ
وللسان الدين ابن الخطيب:
تَخْفَى عن الإدْراكِ إلاّ أنّها
*** يَهْدي سَناها راحَةَ المُزّاجِ
فتَرى زُجاجَتَها بغَيْرِ مُدامَةٍ
*** وتَرى مُدامَتَها بغيْرِ زُجاجِ
فكأن اللون قائم وحده دونما زجاج.
و جسد الشاعر كأنه المكان ذو الحدود الجغرافية، و يد المحارب ترغب في أن تروم هذه الحدود.
وكما يلتقي مع أبي تمام في المجاز، يلتقيان في رهبة النقد.
يتحدى أبو تمام الناقد ويعلن جهله بعلم المجاز عندما يقول:
"ناولني ريشة من جناح الذل لأملأ لك منها كأس الملام"
يقول الفَيفي:
يُشيعُ المرجفـونَ بأنّ خَطْـبـًا
*** طَـوَى بالنَّثـْرِ ديـوانَ الجُـمُوحِ
وأنَّ قصيدةَ اليومِ اسـتقـالـتْ،
*** تنـامُ على حـروفٍ من صَـفيحِ!
لها ليلُ امرئ القيسِ اغْـترابًا،
*** لها صُـبْحٌ كصُبْحِ ابنِ الجَمُـوْحِ!
كذا كذبوا، وبعضُ الحَـقِّ كِـذْبٌ
*** يواري سَـوْءَةَ الكـِذْبِ الصَّريـحِ!
معاذ الشِّعْـر، والأرزاء تَتْــرَى
*** بما نَـعَـقَ الغـرابُ بكلّ ريـحِ!
عن قول من ارتضى النثر شعرًا كأدونيس و جبرا والماغوط ومن قال بأن القصيدة النثرية العربية، مستوحاة من الشعر الأمريكي ل "وات ولتمان" في ديوان "أوراق العشب". ويذكرنا الفيفي بمنظرة قصيدة النثر (سوزان برنار) إذ أنها لا تعد قصيدة النثر شعرا. ويشير إلى أن الشكل المدعى لقصيدة النثر ليس بجديد على النثر العربي، لقد كان يسمى قديما: بالأقاويل الشعرية، أو الإشراقات الصوفية.
و هو يستعذب هذا التمرد الجدوائي الذي يفتح بابا مستحدثا، يقول:
"لا بد لكل تمرد من تمرد عليه، و كل ثورة تضطر بعد حين إلى ثورة، و إلا أصابها العِيّ والهلاك، إنها شرط الإبداع."
أدع القارئ لدخول هذه القارات الممتعة، التي قد تستدرجنا لندلف معًا إلى بيت "كوكل" لتمنحنا المواقع ما يروي الظمأ.
... ... ...
1 / أعرف أن دروبكم متعددة و أنكم تصرون على الترحل في متاهاتها في الظلال والنور، و أعرف أنكم تمامًا كبطل الإلياذة الأسطوري إيليس الذي ركب البحر دون أن يخشى جنياته اللواتي كن يغرين راكب البحر فيستدرجنه للداخل... كيف جاءت هاته الرغبة الملحة؟..
فأي الترحال في أسفاركم المعول عليه، هل هو الشعر، أم البحث في المعارف دون الوقوف على الباب الواحد: "تاريخ، أديان، أساطير، نقد" أم السياسة كما يراها شاعر متمرس بمستويات الوعي؟؟... أم هي كل هذا في الأخير؟؟
أعرف أن رغبة جموحًا كانت تدفع بكم نحو عالم الصبغة، عالم القماش الباليت الألوان، هل تنكبتم لها؟... أم ما تزال تسكن العين؟؟
ج1: الإنسان جملةُ مفردات، وأنا ذلك الإنسان. التخصّص الصارم في عالم المعارف الإنسانية- الأدب والدراسات الإنسانية- لا أؤمن به، بل أراه يجدب الأرض ويُعقم الروح. ذلك في العلوم الطبيعية، ربما. بل حتى في العلوم الطبيعيّة، يظل العالِم عديم الرؤية في تخصّصه ما لم يوسع من آفاق معارفه وإطلالاته الفكريّة. أمّا قُرَّة عيني، ففي الشِّعر، بلا ريب. من خلال الشِّعر أُرضي خفقات الحُلم واللون في النفس والذاكرة.

2 / جل قصائدكم التي اطلعت عليها تحمل في أعطافها قضايا الراهن، مثال: "مهرة الشمس، الفائزة بجائزة "الأقصى، وغير ذلك...... هل عملكم بمجلس الشورى وما تطلعون عليه هو ما دفعكم بهذا الاتجاه؟؟ أم هو ارتباط الذات الحر بقضاياها خارج كل السياقات ؟؟...
ج2: عملي في المجلس لم يتجاوز ست سنوات حتى الآن، وقصيدتي "مهرة الشمس" أو "أميرة الماء" وغيرهما كُتبت قبل ذاك بسنوات، وبعضها نُشر في التسعينيات أو قبل ذلك. المثقّف- والشاعر على وجه الخصوص- الذي لا يتفاعل مع قضايا الإنسان في أمّته ومجتمعه والعالم، ليس بشاعر. لا يعني ذلك أن يتحوّل الشِّعر إلى منشورٍ صحفيّ يومي، كما يفعل بعض الشعراء باسم التفاعل؛ فذلك دورٌ إعلاميّ قديم للشاعر، لكنه يعني أن يمثّل الشِّعر ضمير الإنسان ونبض قضاياه:
الشِّعرُ نحنُ، بما نحنُ، وما رَسَـمَتْ
*** فينا الحضـارةُ يَبنـيـنا فنَبْنِيْــهِ
وإنما الأُمَمُ الشِّعرُ الصَّباحُ، إذا
*** ما ماتَ، ماتتْ، وماتتْ شمسُها فـيهِ

3 / من خلال اطلاعي على مجموعة من دواوينكم الشعربة وجدت أن غايتكم هي القصيدة التي تحتفي بقضايا الإنسان حبًّا، ووطنًا، ولغة. لكن كل ذلك في حامل عروضي هل معنى هذا أن لديكم موقفا "ما" من قصيدة النثر؟؟
ج3: أعتقد أن الإيقاع اللغويّ مكوِّن شِعريّ بنيويّ، ذو علاقةٍ بطبيعة اللغة نفسها- ولاسيما العربيّة بطبيعتها الموسيقية- صرفيًّا ونحويًّا وأسلوبيًّا وبلاغيًّا، وليس مكوِّنًا مضافًا أو خارجيًّا. إن موسيقى الشِّعر أكثر التحامًا بطبيعة اللغة من أي عنصر آخر. وهل اللغة أصلاً غير تعبيرٍ موسيقي؟ وهذا ما ناقشته في كتابي "الصورة البَصَريّة في شِعر العُميان". أمّا قصيدة النثر فليست بتجديد للشكل الشِّعريّ، بمقدار ما هي ثورة احتجاجٍ ونضالٍ فكريّة للإنسان ضدّ مصيره. ومن ثم فهي تنطلق من مبدأ فوضويّ وهدّام، على المستوى الشكليّ أو الفكري. ليس هذا كلامي بل كلام (سوزان برنار)، وقد ناقشت هذا كذلك في كتابي "حداثة النص الشعري"، وفي غيره. إذن، الموقف فقط هو من خلط الحابل بالنابل، وتسمية النثر شِعرًا، واتخاذ ذلك مهربًا سهلاً من تجديد الشِّعر نفسه، وتطوير أدواته النوعيّة، للذهاب لتطوير النثر باسم الشِّعر! هذا إن سلمنا جدلاً أن ثمة حتى الآن تطويرًا حقيقيًّا للنثر، عمّا عرفه عبر تاريخه العربي. أما قصيدة النثر- بوصفها نثرًا لا شِعرًا- فلا موقف منها، جيّدها جيّد ورديئها رديء، كسائر أجناس الأدب.

4 / ما يسوقه لنا الغرب اليوم عن الحداثة، فنركض باتجاه هذه السوق متناسين موروثنا الثقافي والحضاري، كأننا لم نكن سباقين منذ سوق عكاظ؟ ما سبب هذه الغفلة ؟..هل هو نظامنا التربوي في العالم العربي الذي لا يعمل على استرجاع ذلك التاريخ إما بوضعه لمناهج عتيقة، أو لارتمائه في جديد جبة الغرب قبل أن يضع في مخزون أبنائه ذلك التاريخ بطرائق تجعل المتلقي يقبل و لا يدبر؟..
ج4: هناك عوامل كثيرة: التعليم، والإعلام، وقبل ذلك العُقدة الحضاريّة التي تحدّث عنها (ابن خلدون). فالمغلوب مغرم بمحاكاة الغالب دائمًا. ولو أردنا الصدق، فالأمر لا يخلو من أسباب أخرى:
قالوا: "الحداثةُ"، إذ قاءتْ حناجرُهمْ
*** ملءَ الصحائفِ مِن يافوخِ مَعْتُوْهِ
والغايةُ.. الغايةُ القُصوَى حِصارُ فَمٍ
*** مِن أنْ يُغَنِّي غـدًا ما قد يُعَنِّـيْهِ
كي يَبْكَمَ الشَّعْبُ، يَسعَى القَهْقَرَى قُدُمًا،
*** ما جَدَّ فيهِ سِوى ما الرَّبُّ يُمْلِيْـهِ
للرَّبِّ أربـابُـهُ، حُمْـرًا جـلاوزةً،
*** منها الطَّريفُ ومنها تالِدُ الشُّوْهِ
فالشِّعرُ كارثةٌ كونيّةٌ رُصِدَتْ
*** مُذْ أَلْفِ كَوْنٍ بتَدجينٍ وتَتْفِـيْهِ

5 / تتعدد مشاربك الثقافية وفاجأني أخيرًا بحثك الباذخ في مقاربة الأسطورة : "امحم عقيستاء" في جبال فيفاء، ومقاربتها لأسطورة "كلكامش" و أوديسيوس وأنتم تتعرضون لها بالتحليل كنتم تعودون للتوراة لرفد هذه العوالم. كيف ؟؟
ج5: هناك تداخلٌ بين عوالم الأسطورة وبعض الكتب القديمة، ولاسيّما "العهد القديم". سواء بتأثّر تلك الكتب بالأساطير، أو تأثيرها فيها. غير أن الأهمّ في تلك المقاربة، من وجهة نظري كباحثٍ مستكشف، وكما عبّرتُ في تلك الدراسة، أنها تضع أيدينا على أن كثيرًا من تراث الأُمم الأخرى، المدوّنة أجناسه الأدبيّة، لا مزيّة له بالضرورة على تراثنا الشعبيّ الشفهيّ- غير المحفوظ بالتدوين- ولا تميّز له بالضرورة من حيث الطاقة المتخيِّلة؛ وأن الذات الإنسانيّة المتسائلة، الساردة، قائمة في كلّ شَعبٍ، وإنْ لم تحظ مأثوراته بالحفظ المكتوب والدّرس والتطوير. وهذه نتيجة تشير إلى خلاف ما كان يزعمه بعض المستشرقين من أن العرب كجميع الأُمم الساميّة لا يعرفون من الأجناس الأدبيّة تلك القِصص المركّبة. وأن طبيعة الساميّ غير طبيعة الأُمم الأخرى من حيث الخيال والتصوّر، ونحو تلك من المقولات العتيقة التي روّج لها (رِنان Renan)، على سبيل المثال، وأضرابه، وردّدها بعض نقّادنا العرب في القرن العشرين. ولمزيد من الإيضاح هنا، أحيل القارئ الكريم إلى بحثي على الرابط الآتي، حيث بإمكانه تحميل نسخة منه: http://www.khayma.com/faify/index122.html

6 / ألا ترون أن العالم العربي يعرف اليوم هزات كبرى و لكن للأسف أجدها غائبة عن الأعمال الروائية عند بعض كبار الأدباء عندنا، بل أن منهم من سوق للجنس و للعاميات ربما كان القصد ركوب موجات تحصد الجوائز، جوائز في العالم العربي، و ليس جوائز الغرب، الشيء الذي دفع لاستسهال العمل الإبداعي، و ركوب موجات الظرف، في القصة، كما في القصيدة، انتهاء إلى الرواية، بينما ما يطرحه اليوم كبار الأدباء في أعمالهم الروائية لا يكون لنا محرضًا على ركوب هذه المطايا، أذكر بالمخطوط القرمزي الذي يستعيد زمن الأندلس استعادة رائعة، و منصفة باعتقادي، يقوم بها كاتب إسباني، أيضا العمل الرائع الذي لا يقل عنه تقنية و قضايا إنسانية "الفردوس على الناصية الأخرى" لـ: "بارغاس يوسا" صاحب جائزة نوبل، مرورا بالكاتب الأفغاني خالد حسيني الطبيب الأديب صاحب الرائعة "ألف شمس مشرقة" وأيضا "عداء الطائرة الورقية" الرواية الأولى للكاتب والتي بيع منها أكثر من مئة وأربعين مليون نسخة في العالم، أكثر من سبعة عشر جريدة ومجلة من أهم الجرائد و المجلات التي كتبت عن أعماله في أمريكا وأوربا، نقتطف إشارة مما كتب في الغرب :
"حسني هو كاتب من العظماء"
لكن الجميل جدا، و الذي لم يعره النقاد أهمية هناك أو هنا، هناك ربما لأنهم كلهم من الغرب ذلك أن الطبيب حسني صحح كثيرا من المعتقدات، ومن التفسير العميق للقرآن، تفسير لم يقم به الدعاة الذين يوجدون اليوم في الساحة، ففي الصفحة 371 نقف أمام مريم المرأة التي لم يعترف بها والدها رجل الأعمال والتي جاءت نتيجة علاقة غير شرعية ولم يسمح لها أن تقوم بعلاقة الأخوة بينها وبين إخوتها من أبيها، ثم زوجت رغما عنها ورحلت بعيدًا عن منطقتها، ثم حوكمت لتنال الإعدام عن مخالفة ما. و هي تقاد إلى الإعدام لم يكن عندها أي ندم، و لكن إحساسا وافرا بالسلام غمرها. فكرت بدخولها لهذا العالم، طفلة ابنة حرام من قروية وضيعة، شيء عابر، تافه، حادثة يؤسف لها. كانت آخر أفكار مريم، بضع كلمات من القرآن الكريم، حيث همهمت : "خلق السموات بالحق يكور الليل على النهار و يكور النهار على الليل و سخر الشمس و القمر كل يجري لأجل مسمى ألا هو العزيز الغفور."
اركعي قال الطالباني
همهمت مريم : آه إلهي، اغفر لي وارحمني، أنت أرحم الراحمين
اركعي هنا، مشيرا وانظري للأسفل
لآخر مرة فعلت مريم ما أمرت به
عبر 415 صفحة يسوقنا خالد حسيني إلى: صوت الحرب الأول.. الألم. إنه ليس رفع السلاح في وجه أطراف النزاع ولا الابتهاج المسرحي بالنصر، أو الكبرياء المتطرفة للقادة الذين يميلون لتبرئة أنفسهم....هو ألم الخسارة...أدب يفرض نفسه حتى مع نكهته الحزينة العاكسة لمعاناة الأفغان. والجديد عند الأديب الطبيب الذي لا يتجاوز عمره 37 عاما أنه يصر على أن يسوق آيات من القرآن الكريم تصحيحًا للمواقف وكأنه وهو المقيم في أمريكا يود أن يقول لأمريكا، وللغرب "هذا هو الكتاب المقدس، هذا هو القرآن الكريم، فلقي حفاوة وتفهما هناك.
ألا ترون أن هذا التوظيف للقرآن الكريم في عمل روائي عاكس للحياة في أفغانستان لو قام به أحدنا هنا في العالم العربي وباللغة العربية لسمي من أهله رجعيًّا وفقيهًا بالمعنى المنبوذ الكاريكاتيري، بينما توظيف الجنس الفاحش من أجل الجنس ينال الحظوة ؟...
ج6: شكرًا على هذا السؤال المسهب الجمال. حينما وَصَفَ (أنطونيو غالا)، في روايته "المخطوط القرمزي أو يوميات أبي عبدالله الصغير آخر ملوك الأندلس"، عَمَلَ الإسبان بالأندلسيين من عربٍ ومسلمين، إذ قال: "مات في مالقة عشرون ألف أندلسي، أما الخمسة عشر ألف المتبقون فقد باعهم المَلِكان النصرانيان بستةٍ وخمسين ألف ألف مرابط، وبقيت المدينة مثالاً في التنكيل لما تبقّى من مُدُن لم تسقط"، حينما وَصَفَ ذلك لم يتّهمه أحدٌ بالإرهاب أو التعصّب أو الأصوليّة، ولم يُقْصَ من عالم الأدب والإعلام. لماذا؟ لأنه ليس بعربيّ ولا مسلم! هنا يتبدى إذن إلى جانب الخواء الفكريّ والتاريخيّ في الرواية العربيّة، ضغوطٌ ثقافيّة محلّية وعالميّة، تجعل بعض الكُتاب يتملّقون السوق والرائج من الطرح، غربًا وشرقًا. لذا حريٌّ بمقاربة المسألة عدم فصل الرواية لدينا عن إطارها العربي. على أن ظاهرة الرواية المشار إليها في السؤال قد جاءت طافحة بدوافع الفضح لعاملين إضافيّين: الأول يتعلّق بماردٍ تحرّر من قُمقم كبتٍ طويل، فكان تخبّطه شغفًا بالحريّة صاخبًا، والعامل الثاني يتعلّق بماردٍ سرديّ، كان محاصَرًا بالشِّعر والشِّعريّة، وهو مندفعٌ ليحظَى بمقعده الروائيّ، ولو بأيّ ثمن. ولقد أسال العاملان- مع ما واكبهما من ضَخٍّ إعلاميّ، فَتَحَ باب الشهرة لكلّ مَن سَرَدَ- لُعاب أقلامٍ شتّى، بعضها ليس له أيّ رصيد، لا معرفيّ ولا فنّيّ، في مجال الرواية، وربما لا حظّ له في مجال الأدب أصلاً. وهكذا نُشرت روايات لا روايات فيها، ولا هدف لبعضها- إلى جانب هدف الشهرة، وشرف المنع من الرقابة، ونعت الجرأة والتمرّد- إلاّ تملّق الآخَر الغربيّ، لسان حالها: ها نحن هؤلاء لا نقلّ عنكم انحلالاً، وهذا هو معيار الحريّة والتحضّر كما يفهمهما بعضنا أحيانًا! أو ربما كانت الرسالة على نحو آخر، قائلة: ها هي ثقافتنا العربيّة والإسلاميّة ثقافة نفاق، ظاهرها طهوريّ، وباطنها حيوانيّ. ولهذه الحالة تاريخٌ عريقٌ، وسَلَف صالح من أدباء التراث وفقهائه ومؤلّفيه. فلماذا نظلم حضارتنا وفيها ما فيها من تلك الصفحات المشرقة؟! فلئن هَزَمَنا الغربُ في العلوم والفنون والتكنولوجيا، فلا أقلّ من أن نُثبت جدارتنا في وجوه أخرى من التفوّق، وأن نحطّم الأرقام القياسيّة في هذا المضمار الحيويّ من تخطّي الحواجز! ولعلّنا نستطيع أن نغزوه مجدّدًا، كما غزوناه من قبل عبر عابرة القارات "ألف ليلة وليلة"، بجواريها وسيّداتها وغلمانها وعبيدها!
سيدتي، الروائيّون العرب غالبًا مشغولون بحاراتهم، وبما في سراويلاتهم، وبهمومهم الصغيرة، لا بالفكر والتاريخ! والموقف هاهنا ليس من ورود الجنس في ذاته في العمل السرديّ، بوصفه مكوِّنًا طبيعيًّا من نسيج العمل، موظَّفًا للتعبير عن قضيّة، دون تبذّل، أو أسلوبٍ شارحٍ للتفاصيل التي تعرفها كل الكائنات الحيّة، لكن الإشكال أن الجنس يبدو المحك في بعض الأعمال السرديّة في العالم العربي- وكذا الأفلام السينمائيّة- وكلّ ما سواه يبدو هامشًا، ووسيلة إلى غاية. وهنا تصبح الغاية دونيّةً خُلُقًا، سمجةً إبداعًا. إن بوسع القارئ أن يجد في العمل الروائيّ الغربيّ الجيّد، وكذا الفيلم الغربيّ، القيمتين الإنسانيّة والفنيّة، على الرغم من حضور الجنس فيهما؛ لأن حضوره يَعْبُر بصورةٍ طبيعيّة ويُعَبِّر عن قضيّة أعلى من العلاقة الإيروتيكيّة، لذلك لا يستفز القارئ والمشاهد غريزيًّا، ولا يستثير التقزّز الأخلاقيّ الذي يثيره في بعض الروايات العربيّة والغثيان الذوقي في بعض الأفلام. وذلك ببساطة لأن تلك الأقلام والأفلام في سياقنا المكبوت لا قضايا لها أصلاً، ولا يقف وراءها مبدعٌ حقيقيّ، بل دَعِيٌّ، يتسوّل غرائزَ الناس، أو غِرٌّ يبحث عن شهرة. فالجمال- حتى في صورته العارية- قيمةٌ عُليا إن ارتفع به الذوق الراقي إلى سماوات التأمّل، الذي يتخطّى خِسّة العضويّ إلى نورانيّة الروح.

7 / قلتم مرة : الثقافة مسئولية، هي ليست وجاهة و لا منبرا للتسويق، كيف؟
ج7: بالتأكيد أن الكلمة أخطر من الرصاصة. ما حياتنا بلا لغة؟ في البدء كانت الكلمة. وما حَمَل آدمُ الأمانةَ إلاّ من بعد أن تَعَلَّم الأسماء كلّها. من ثَمَّ تأتي مسؤوليّة المثقّف. أمّا المناصب، فلها مسالك أخرى. بل ربما- في بيئةٍ فاسدة- حالت مسؤوليّةُ الكلمة دون المنصب المستحقّ أو السُّوق.

8 / ويكيليكس، وثورة الفيس بوك، دلتا معا أننا على أبواب عصر جديد، لقد كنا فيما مضى نحاول تحديد ذواتنا فرديا و قوميا بين عوالم الأرض، اليوم التساؤل عن التحديد والحدود في عالم يبدو اليوم بلا حدود، الأمر الذي يفرض علينا مراجعة أو إعادة نظر في كثير من الثوابت الفلسفية التي كنا نركن إليها، ذلك أن طرحنا لقضايانا الكبرى مثل الخصوصية والتراث واللغة والهوية في البحث عن الاستمرار، كلها تحتاج اليوم لإعادة ترتيب علاقاتنا مع كل ما يمكن أن ندعوه بالخصوصية ليكون جسرا بيننا و بين الآخر.
ما هي إذن الحلول التي يراها شاعر، و مثقف عميق، و برلماني، لما يحدث اليوم من نفض للغبار على عالم بدون حدود، وعله بالمعنى الظاهر فقط ؟؟....
ج8: في رأيي يجب عدم خلط أوراق الهويّة واللغة والتراث بدعاوَى الخصوصيّة المغرضة. نعم هناك انبثاقٌ لسدّ يأجوج ومأجوج من العولمة، والغربنة، والأمركة، لكن هذا لا يبرّر الذوبان، بل هو بالحريّ يدعو إلى التيقّظ من الاستلاب والفناء، تحت شِعارات كـ"الواقعيّة"، و"المعاصرة".. وما إليهما. إن في تفتيت مقوّمات التنوّع الإنسانيّ، والاختلاف الطبيعيّ، إفقارًا للتجربة الإنسانيّة كافّة، واستنساخَ وجهٍ واحدٍ لكلّ البَشَر. وهذا ضدّ كلّ القوانين الكونيّة والحضاريّة. معادلتنا يجب أن تتعلّم من التجربة اليابانيّة، التي لم تنغلق.. لكنها لم تنسلخ.

9 / كنت في اجتماع ضم مجموعة من أساتذة الكليات هنا بالمغرب دار الحديث حول التزام الأديب بصنف واحدٍ من صنوف الإبداع وأن "الطهرانية" تلزم الكاتب بذلك. استغربت لهذا الطرح، إذ في تراثنا لا يوجد ذلك، عباس بن فرناس كان فيزيائيا وكيميائيا ومدمن أدب إلى غير ذلك من تخصصاته، التي يحيلنا التاريخ عليها، إضافة أنه اليوم تطالعنا أسماء لأدباء من الغرب على سبيل المثال باتريك زوسكيند صاحب رواية "العطر" التي ظلت تقرأ لسبع سنوات كعمل أدبي مختار، تحول بعد ذلك لكتاب الجيب، زوسكايند كتب القصة والسيناريوهات السينمائية، و كاتب مسرح أيضا.
ما رأيكم في هذه " الطهرانية "؟؟..
ج9: هذا النوع من "الطهرانية"- إن صحّ المصطلح- لا يعني إلاّ "العُقم"، الذي تحدثتُ عنه في إجابة السؤال الأوّل. الفارابي وابن سينا وابن رشد، وكلّ عباقرة الفن والأدب والفلسفة، لم يكونوا طهرانيّين، إذن. ولقد قيل قديمًا في تعريفات الأدب إنه: "الأخذُ من كلّ فنٍّ بطَرَف". صحيح أن المرء يميل بالطبع إلى لونٍ، ويتميّز في صنفٍ، وينصبّ أكثر في بحرٍ بعينه، أمّا أن يُعَقِّم عقله وروحه، وينغلق على نفسه في باب، فذلك- إنْ أمكن أصلاً- هو العِيّ بعينه. ذلك أن ضروب الإبداع بينها توالج حتميّ وتواشج طبيعيّ، وبعض سواقيها يغذّي بعضًا. إن أبا نواس- على سبيل مثالٍ آخَر، (صورته النمطيّة اللهو والعبث واللذة)- ما كان له أن يكون مَن هو، لو لم يكن، إلى جانب موهبته الشعريّة: متبحِّرًا في العلوم اللغويّة والإسلاميّة، فقيهًا، عارفًا بالأحكام والفُتيا، بصيرًا بالاختلاف، صاحب معرفةٍ بطُرُق الحديث، راويةً له، عارفًا بناسخ القرآن ومنسوخه، ومُحْكَمَه ومتشابهه، متّصلاً بحياة عصره الفكريّة، مطّلعًا على آراء الفلاسفة والمتكلّمين، ذا نظرٍ في عِلم النجوم، والفَلَك، وعِلم الطبائع، أو الفيزياء. حتى قيل: "كان أقلّ ما في أبي نواس قول الشِّعر". وذلك ما فصّلتُ القول فيه تفصيلاً في بحثي بعنوان "شخصيّة أبي نواس وشخصيّة شِعره". الإبداع الأدبي العظيم لا ينهض- أساسًا- إلاّ على ثقافةٍ معرفيّةٍ لا سقف لاتساعها وغناها وتنوّعها.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* صحيفة "الزمان"، العدد 3903، السبت 17 جمادى الآخرة 1432هـ= 21 مايو 2011م، ص9.
http://www.azzaman.com/pdfarchive/2011/05/21-05/P9.pdf
http://www.azzaman.com/index.asp?fname=2011\05\05-21\699.htm&storytitle
http://www.azzaman.com/indexq.asp?fname=2011%5C05%5C05-21%5C699.htm&storytitle





للتعليق على الموضوع: اذهب إلى ساحة نقاش الإضبارة!

شكرًا لمطالعتك هذه الصفحة!

جميع الحقوق محفوظة ©