كيف تَأْلَمُوْنَ وأنتم مَوْتَى، منذ ألف عام؟!
... ... ...
هذا لسان حال الغرب، حينما يتألَّم العرب!
وقَبْلَ ذلك كان ينبغي أن لا نَغفل نحن عن بيوت دائنا الذاتيَّة، فنُلقي كلَّ تَرَدِّينا العربيِّ والإسلاميِّ على الغرب. فالعالَم الإسلاميّ ما بَرِح يعاني، مِن ضِمن ما يعاني، من نازيّاتٍ إسلاميَّة، تتمثَّل في طوائفه الاستئصاليَّة بعضها لبعض. وأشدُّها خطورةً تلك التي شجرتها الطائفيَّة أصلها ثابت وفرعها في السماء، نِسْغُها التاريخ السياسيّ، المتعلِّق بالإمامة والولاية والثقافة الدمويّة. وحين يشار إلى خطورة الإسلام السياسيّ، أو عن تسييس الدِّين، فما القول في مَن مذهبه أصلاً سياسةٌ في سياسةٍ، من ألفه إلى يائه؟! ثم ليست بأيِّ سياسة، بل هي سياسةٌ شموليَّةٌ، كونيَّةٌ، وراثيَّةٌ، تَبْلُغ حَدَّ تصوُّرات خرافيَّة حول حاكميَّة هذا الكون، وكيفيَّة إدارته، والولاية المطلقة عليه. كيف يمكن التعايش مع مَن يرَى مِثل هذا؟! وكيف يمكن الحوار مع مَن يعتقد اعتقادًا جازمًا، دونه الموت، أنه في السماء وأن مخالفيه في الأرض، بل في أسفل السافلين، ثُمَّ، مباشرةً، إلى سواء الجحيم؟! وهل يمكن الحوار بين طَرَفٍ في الأرض وآخر يرى نفسه في السماء؟! إن واقعًا كهذا لا يمكن، بحالٍ من الأحوال، أن تَسُوْدَه ديمقراطيّة صحيحة، إذن، وإنْ سَلِم من مكائد الغرب التقليديَّة. لا يمكن ذلك، إلاّ حينما يمتلك الإنسان قوَّته الذاتيَّة، من خلال قانونِ مجتمعٍ مدنيٍّ صارم، يُوْقِف كلَّ مواطنٍ عند حدِّه، مكفولَ العدل والحريَّة، بما له من حقوقٍ وما عليه من واجبات. عندئذٍ فقط يصبح أرباب النزوعات المتطرّفة المشار إليها محكومين بقانونٍ لا هوادة فيه، مكتوفةً أفكارهم النزقة عن تحوّلها إلى أفعالٍ متغوِّلة، وذلك بحكم القانون وأَذْرُعِه التنفيذيَّة. وتلكم هي الحال مع بقايا العناصر النازيّة في الولايات المتّحدة الأميركيّة- على سبيل المثال- أو حتى في ألمانيا نفسها. فهؤلاء وأولئك لولا سلطة القانون وراء ظهورهم، لعاد بهم هتلر جَذَعًا، بل لعاد أفظع نزوعًا إلى العنصريَّة والاستبداد والتدمير والانتقام من ذي قبل.
أمّا الغرب، فما تزال تَطَّلِع على ما ينخر عظامه من الروح العنصريَّة في النظر إلى غيره من الشعوب. لم يبرأ بعد، وإنْ تظاهر بالبُرْء، من "تيفوئيده" القديمة، المؤدِّية إلى فقدان الوعي والهذيان. وهي روحٌ تمثِّل البنية العميقة للسياسة الغربيّة والثقافة معًا. ولقد باتت تَطْبَع الشخصيَّة الغربيَّة بطابعها، من: الصَّلَف، والمَكْر، والنفاق، وازدواج المعايير؛ لتتحوَّل تلك القِيَم إلى قِيَم اجتماعيَّة وثقافيَّة، ومِن ثَمَّ تُصَدَّر إلى أبناء الشعوب الأخرى المغلوبة، عبر البعثات والإعلام والتعليم؛ حتى إنك لتجد كثيرًا من ضحايا تلك المنابع- وبما أوتوه من عُقَد نقصٍ جاهزةٍ راسخة- أشدَّ حماسة لتلك القِيَم الشوهاء من الغرب نفسه! وبذا تُصبح تلك أخلاقَ العصر الوبائيَّةَ ومَن فيه، ومَن شَذَّ شَذَّ في النار، ونُبِزَ بالإرهاب، أو التشدُّد، أو الأصوليَّة، إلى آخر قائمة الألقاب السوداء، المسكوكة لأمثاله هناك أيضًا.
ولولا أن ذلك كذلك، لما رأينا- على سبيل المثال لا الحصر- دُويلةً ضئيلة القدر، كالدنمارك، تستنكف حتى عن مجرَّد الاعتذار للمسلمين في العالم عن الرسوم المسيئة إلى نبيّهم محمّد، عليه الصلاة والسلام! بل إن وزيرة خارجيَّتها المبجَّلة، حينما زَلَّ الفهمُ ببعض الصحافة العربيَّة- الطيِّبة، المتلهِّفة إلى كلمةٍ، "ولو جَبْر خاطر..."!- بادرت "بنتُ الحمايل أختُ الرِّجال" مسرعةً إلى نفي ذلك الفهم الغالط، معبِّرةً عن أنها إنما أَسِفَتْ لأن المسلمين أنفسهم غضبوا واحتجُّوا على تلك الرسوم، وما كان لهم أن يفعلوا ذلك وهم في رموسهم! ..أجل، بل كان المفترض أن لا تُحِسّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَع لَهُ رِكْزًا؛ فهم أهون مِن أن يغضبوا، ومن أن ينطقوا، ومِن أن يُعتذر إليهم أبدًا، ولو في تعبيرٍ رمزيّ!
أرأيتم إلى أيِّ درجةٍ بلغ الصَّلَف، حتى بالمنخرطين في السِّلك الدبلوماسيّ هناك؟! هذا على الرغم ممّا يُفترض في أولئك خاصّةً من الدماثة والكياسة ومراعاة مشاعر الآخرين! إن حريَّة التعبير مرعيّة هناك، إذن، للإساءة لأنبياء الشعوب، وأديانهم، ورموزهم، وثقافاتهم، فقط! ولا تَسَعُ ببركاتها حريّة التعبير الحَسَن أو اللائق إلى الآخرين، ولو بكلماتٍ عابرةٍ، وإنْ من باب الكياسة والمجاملة والدبلوماسيّة! حقًّا، لقد كان من الفظيع- بحسب منطق وزيرة خارجيَّة الدنمارك- أن يُظهِر هؤلاء الأوباش اعتراضًا، وهُم مَن هُم هوانًا في ميزان الغرب العظيم! ومعها في ذلك كلّ الحقّ، وإنْ رَغِمَتْ أنوفٌ وأنوفٌ؛ فشاعر الأوباش المتنبئ القديم، لو سمعوا كلامه، كان قد تنبّأ لهم بمآل هذه الحال، عندما صاح بهم:
مَنْ يَهُنْ يَسْهُلِ الهَوانُ عليهِ ** ما لِجُرْحٍ بِمَــــيِّتٍ إِيْلامُ!
فكيف يتألَّمون وهم مَوْتَى، منذ ألف عام؟!
نعم، ذلك هو قَدْر العرب والمسلمين لدى الغرب إجمالاً! وهو ما يُسقط القناع المرقَّع القائل ببرود:
- "إن الصحيفة المسيئة غير رسميَّة، ولا حكوميَّة، ولا تمثِّل الشعب الدانماركيّ، ولا... ولا..."!
غير أن بعضنا لا يستحي أن يعتذر أحيانًا عن بعضهم نيابةً عنهم، ليأتي الردُّ عليه بدَوْرِه أيضًا:
- "نحن- يا شاطر- لم نعتذر، ولن نعتذر، ولم نفوِّضك- أو أحدًا من شاكلتك- ليقول على ألسنتنا ما لا يمثِّل عقيدتنا ووجهة نظرنا الراسخة"! (انتهى)!
وهذه أبلغ رسالة للردِّ على مَن تسوِّل له نفسه أن يتسوَّل، أو أن يصوِّر أمرًا، كتلك الرسوم، بمعزلٍ عن وجهة الرأي الرسميَّة أو الشعبيَّة هنالك، أو عن رضاهما ومباركتهما. ليس هذا فحسب، بل لم يعد سِرًّا أيضًا أن الرسام العبقريَّ قد حظي بتكريم الدولة، ثم الاتِّحاد الأوربيّ، بجلال قَدره وقِدره! ولعلَّه ما كان من شأنٍ يُذكر للرسَّام الهُمام المكرَّم، لا في الثقافة ولا في فنِّ الرسم، لولا تلك الحادثة التي وَقَعَتْ موقع ارتياحٍ من نفوس القوم، فأرضت الأيديولوجيا الرسميَّة والشعبيَّة في آن!
أفليس من المقزِّز بعدئذٍ أن يجيء منافقُنا الحنونُ ليحاول إقناعنا بمزيدٍ من الهوان والرضا؛ لأن الرسَّام مغمورٌ، والصحيفة مغمورةٌ، ولا يمثِّلان الرأي العام، ولا موقف الحكومة، ولا موقف أوربا! والله يشهد إن المنافقين لكاذبون! وكيف لا تمثِّل تلك السفاهةُ موقفَ أولئك جميعًا، وهم يستنكفون حتى عن اعتذارٍ بمثل اعتذاراتنا المتهافتة، ويترفّعون حتى عن كلمةٍ عابرةٍ إلى هذه الشعوب المتخلّفة، وإنْ أخذًا لها على أقدار عقولها! بَلْهَ إنهم لا يأبهون لاحترام مشاعر مواطنيهم من المسلمين كذلك، ولا تأخذهم فيهم حقوقُ أقليِّة، ولا حقوقُ طائفة، ولا حقوقُ دِين، ولا دعوى- كائنة ما كانت- من تلك الدعوات. فتلك صناعاتٌ للتصدير إلينا نحن فقط، كسائر السِّلع التجاريّة، الرخيصة، أو الزائفة، التي تُصدَّر إلى صدورنا، وتسلّط على أوطاننا عند اللزوم، وليست للاستهلاك المحلّي هناك!
ثم كيف لقائلٍ أن يقول: إن عمل رسَّامهم المشين لا يمثِّل الموقفَ الشعبيّ والرسميّ، وهو يُكرَّم رسميًّا، ويُحتفَى به جمعيًّا، ويُدافع عنه حتى من مجرَّد الانتقاد؟! وذلك ما فعلوه من قبل مع الهندي سلمان رشدي! وذلك ديدنهم، وتلك شِنْشِنَتهم المعهودة، ولا جديد تحت الشمس! ذاك أن الغرب لا يُخفي وجهه الأرقط، ولا يُوارب أبواب قناعاته الثابتة، ولا يستحي من تمجيد كلّ مَن يسيء إلى الآخرين، وبخاصة العرب والمسلمين، رَضُوا، أم سَخِطُوا، أم نافقوا؛ لأنهم لا شيء، ولا يعنون- آخِرَ المطاف- شيئًا. من أجل ذلك انفتحتْ بوابةٌ يدلف منها كلُّ ساقطٍ ثمَّة ليرفع رصيده في المصارف الغربيّة إلى عِليِّين، وإنْ كان موضوعيًّا من أتفه التافهين. وهي لعبة أدركها المتسلِّقون على اختلاف مراقيهم؛ فما عليهم سوى أن يَفتعلوا إساءةً بالغةً- دينيَّةً بصفة خاصّة- ليُصبحوا ملء السمع والبصر، وليرتقوا، في غمضة عين، إلى قامات كبار المفكِّرين، والفلاسفة، والروائيِّين، والفنّانين، والعباقرة، والثوريِّين الأحرار، مِن كلّ شكلٍ ولونٍ ومِلَّةٍ وحَدَبٍ وصوبٍ، تحفُّهم رعايةُ الآلهة الغربيَّة، ومَواكبُ الحراسات الليبراليَّة، ووميضُ العدسات الإعلاميّة! ومع هذا فما زال (وُعّاظ السلاطين الغربيّين) من بني جِلْدتنا- ويا لها من جِلْدة متقرّحة!- يخطبون فينا صبحًا وعشيًّا كي نتقي الله في بقرات الدنمارك السمان الحلوب، ونخافه في خرافها الضالَّة، وأن نُعْرِض عن حماقات المقاطعات الاقتصاديَّة؛ كي نقابل الإساءة بالإحسان، والسفاهة بالعقل، والازدراء بالتمجيد! ذلك أن العقل قد بات لا يعني شيئًا لدينا إلاّ التجرّد من المبادئ والكرامة الإنسانيَّة! فتلك عاطفيّاتٌ لا يصحّ أن تجرفنا، تحت أيِّ أسباب دينيَّة أو قوميَّة أو ثقافيَّة، ما لم تتماشَ مع المصالح الاقتصاديَّة والسياسيَّة العُليا! بل حتى لو تماشت مع تلك المصالح، فإن من الواجب علينا أن نخجل منها ومنّا، وأن نواريها عن العيون في دشاديشنا، أو جيوب بناطيلنا؛ فنصاعة الحُبِّ للآخر أولَى وأبقَى، وأمّا المصالح، فـ"وَسَخُ الدنيا"، وهي إلى تبدّل أو زوال!
هكذا، صار فرضًا علينا أن نعيش هذا الانفصام بين المبدئيّ والمصلحيّ، مع أن منطلقات الغرب، بدءًا من الرسوم، وانتهاءً بالاحتفاء بالرسّام، ثم تكريمه، هي ممارسات عاطفيَّة وأيديولوجيَّة؛ إذ لا فواصل هنالك بين العواطف الدينيَّة أو القوميَّة أو الثقافيَّة من جهة وبين المصالح الاقتصاديَّة والسياسيَّة من جهة آخرى، بل هو التعاضد والتكامل الاستراتيجيّ التامّ.
تلكم هي الموازين الغربيّة، إذن، فـ"يا زيننا ساكتين"!
9/ 6/ 2011
p.alfaify@gmail.com
http://khayma.com/faify
....................................................................................................
* "المجلّة الثقافيّة"، صحيفة "الجزيرة"، الخميس 7 رجب 1432هـ= 9 يونية2011م، العدد345، ص10.
* للقراءة من المجلّة مباشرة.
|