1 - كيف واكبت وعشت كأديب ومثقف هذه الأحداث السياسية ؟
* كتبتُ في غضون تلك الأحداث، قائلًا: إن النظام في عالمنا العربيّ قد أصبح- للمفارقة- يوحي بالاستبداد، وصار الهُتاف في هذه السنة 2011: "الشعب يريد إسقاط النظام"، هتافًا مشروعًا، وثوريّة إصلاحيّة! والسبب أن مفهوم النظام في عالمنا العربيّ هو في الحقيقة "اللا-نظام"، والنظام في هذا السياق المريض يصبح ألوانَ العسف والمحسوبيّات، وصناعة الشبكات الانتفاعيّة مِن عصابات "علي بابا" في تشكيلاتها العُليا المعاصرة. النظام نظامها، والحقّ حقّها، وأوديته تصبّ في حجورها. غير أننا نرى في المقابل أن الشخصنة للأنظمة لا يأتي مِن قِبَل الحاكم فقط، بل مِن قِبَل المحكوم أيضًا. والأمثلة حيّة. فسقوط البيادق العربية المتتالية، وسقوط مسرحية الشعارات الزائفة معها، قد أَوْهَمَ معظم الجماهير العربيّة أن النظام السابق قد انتهى، وأنهم على أبواب جنّة العدالة والديمقراطيّة. لماذا؟ لأن القضيّة لديهم شخصانيّة، متمثّله في شخص الحاكم. غير أن هذا- في تقديري- تسطيحٌ للإشكاليّة الثقافيّة للاستبداد والفساد بكلّ أبعادها. من حيث إن الإشكاليّة برمّتها، وذي رمّتها، لا تتمثّل في الأشخاص، ولكن في منظومةٍ من القِيَم الثقافيّة السائدة، لدى السيّد والمسود، وإنما أولئك الحُكّام الفاسدون أنفسهم نتاجاتها. بمعنى أن ذهاب هذا البيدق أو ذاك ليس هو الحلّ النهائيّ، لكن الحلّ في تغيير شبكةٍ مستوطنة من القِيَم، بدءًا من قِيَم الفرد، فالأسرة، فالمجتمع، فالدولة، فالأُمّة، وذلك في رحلة تربويّة، اجتماعيّة وثقافية، طويلة وشاقّة، إذا تمّا (أي التغيير والرحلة) حالا دون تغوّل فردٍ على جماعة، فضلًا عن تغوّله على شعب بأكمله. إن النظام تلاحمٌ من النظريّ والبشريّ. وما تصوُّر أن ذهاب هذا الحاكم المستبدّ أو ذاك الطاغية المستأسد هو مفتاح التغيير والحلّ الأوّل والأخير إلاّ دليل على أن الثقافة ذاتها ما زالت طفوليّة، مريضة بفكرة الحاكم بأمره، ومؤمنة بقُدرة الفرد الخارقة، وسلطانه الأبويّ الطاغي. لأن الحاكم، مهما بلغ نفوذه، لا يمكن أن يفعل ما يفعل لولا البيئة المحيطة الفاسدة التي تُفَرْعِنُهُ وتُصنِّمه. ومِن ثَمَّ فهو صنيعة ثقافيّة لمحيطٍ عارمٍ من الفساد المستشري، والمحسوبيّات الراسخة، تحت شعارات وتشريعات ماكرة، وجدباء إلّا من التعصّب الأبويّ، والقَبَليّ، والطَّبَقيّ، والمناطقيّ، والإقليميّ، والطائفيّ، والعنصريّ، وعدم سيادة القانون خلال ذلك كلّه، وبالجملة: (التقهقر الحضاري)، بمستوياته وألوان طيفه المتعدّدة. إن الحاكم جلّادٌ وضحيّة في آن، بل هو ضحيّة ثقافيّة، قبل أن يكون جلّادًا. ولذا، فإن على المجتمعات العربيّة أن لا تتفاءل كثيرًا بتغيّر الأوضاع لتغيّر الوجوه. بل إن عليها بدل أن تَصُبّ جام ثوراتها الغاضبة على فردٍ، أن تُحاسِب قبل ذلك- عبر مؤسّساتها التربويّة والتعليميّة والتثقيفيّة والتنظيميّة- شبكةً كاملةً من المعطيات المركّبة التي أنتجت ذلك الفرد الوَحْش، وحكّمته في رقاب الرعايا؛ فالطاغية يُصنع لا يولد. واستنادًا إلى المنظِّر الاجتماعي الألماني (ماكس فيبر) يمكن القول: إن تلك الجماهير- من جهتها- تتحرّك بدوافع من أخلاقيّات الرأي الفرديّة، التي كان يرى (فيبر) أنها تبرِّر بالغاياتِ الوسائلَ، لا بدوافع "أخلاق المسؤوليّة"، التي تُوازن بين واقعيّة الوسائل ونُبل الغايات. وفي المشهد الوحشي في معاملة الزعيم الليبي معمّر القذّافي بعد القبض عليه- ومهما سيقت لذلك من تبريرات ركيكة- شاهدٌ واضحٌ على ثقافةٍ لا تُبشّر مطلقًا بسقوط عقليّة الطغيان، والانتقام، والتشفّي، والتوحّش، لا من الحكّام ولا من المحكومين، في ظلّ غيبة مزمنة لمبادئ حضاريّة ضروريّة، أبرز مقوّماتها: العقل والعدل والقانون، التي ينبغي أن تتحوّل- وإنْ بدرجاتها الدنيا- إلى سلوكٍ إنسانيّ عامّ، وفي شتّى الظروف والملابسات. إنما هي "الثارات"، إذن، لا "الثورات"، وثقافة "يوم لك ويوم عليك"! وقبل ذلك المشهد المخجل، شاهد العالم كذلك عودة أيّام العرب المجيدة في القاهرة، فيما عُرف ب"موقعة الجمل" الحديثة. فما أشبه ليلتنا بالبارحة!
2 - في رأيك ماهوالحدث الثقافي أوالإعلامي البارزالذي وسم هذه السنة ؟
* لا أعتقد أن الأحداث التي زلزلت العالم العربيّ قد تركت مساحةً تُذكر في الإعلام لسواها. وما حدث هو بالفعل أبرز حدثٍ ثقافيٍّ وَسَم السنة الماضية. فليس بالآداب والفنون والتنظيرات وحدها تُعرف الثقافة، ولكن: بنبض الإنسان، والحياة، والشارع، من قبل ومن بعد.
3 - لوطلبنا منك عنوانا لأحداث هذه السنة أي عنوان تقترحه ؟
* "الخريف العربي". لستُ أدري لماذا سمَّى الناس هذا العام، الذي لما ينته سياسيًّا بعد: "الربيع العربي"؟ إنه "الخريف العربي"، الذي أسقط أوراقًا عتيقة يابسة. أمّا الربيع العربي، فما زال في عِلم الغيب. إنْ تمخّضت الثورات العربيّة عن ربيع، فبها ونعمت، وذلك ما نرجوه، وإنْ لم تتمخّض إلّا عن "جرذان" أخرى- بعد الدماء التي سالت، والمظالم التي ارتُكبت، وخراب الديار الذي حدث- فلبئست الثورات!
4 - هل تفكرفي توثيق أحداث هذه السنة في عمل أدبي أوفكري ؟
* حدث ويحدث وسيحدث. فلقد كتبتُ عن "النظام.. وسقوط الطاغية"، كما كتبتُ مطوّلتي الشِّعرية "طائر الشِّعر". وهي بمثابة مرثيّة ثقافيّة، وإنْ كانت للشِّعر عادةً مساربُه الخاصّة إلى التأثّر والتعبير. ومنها:
بِيْ نَوْءُ ما حَمَلَتْ في الحَيِّ مُرْضِعَةٌ
ما أَنْجَبَتْ في الوَرَى طِفْلاً نُرَجِّيْهِ!
عَمْياءُ مُوْمِسَةٌ باعَتْ أَسَاوِرَها
والسُّوْقُ لُعْبَتُها لا شَيْءَ تُغْلِيْهِ
وَقَفْتُ في ثَدْيِها العاتِيْ بِمَوْجَتِهِ
أَسْتَقْرِئُ الفَجْرَ مِنْ أَغْوَى دَياجِيْهِ
قالتْ: «فَتايَ هُنا؟».. وافْتَرَّ عارِضُها
واجتاشَ بِيْ صَدْرُها واهتاجَ ساجِيْهِ
جِنِّيَّةٌ ثَمِلَتْ لا شَدْوَ في دَمِها
والشِّعرُ مِنْ فَمِها يَدْنُوْ فَتُقْصِيْهِ
***
كأنَّ في يَدِها جَيْشًا برايَتِهِ
حَبِيُّهُ في المَدَى كاللَّيْلِ يُطْفِيْهِ
سَهِرْتُ أَرْقُبُ إذْ تَصْحُوْ بغَيْمَتِهِ
رِيْمٌ غَفَتْ وحَمَامٌ في مَحانِيْهِ
رَمَى الجَزِيْرَةَ حَتَّى لم يَدَعْ شَرَفًا،
رِيْحًا ورَعْدًا وبَرْقًا حاقِدَ الفِيْهِ
حَتَّى إِذا لَم يَدَعْ لِيْ وَبْلُهُ أَمَلاً
في مُسْتَكَنٍّ وراحَ اللَّيْلُ يَمْرِيْهِ
واسْتَبْشَرَتْ بِهِ في الصَّحْرَاءِ أَكْبُدُها
والبَدْرُ في البِيْدِ والأَعْرَابُ تَشْوِيْهِ
أَسْرَى نَجِيْعًا عَلَيْنَا حافِشًا ضَرِمًا
ما كَفَّ حَتَّى تَغَشَّى الأرضَ والِيْهِ
مِنْهُ تَخَثَّرَ فِيْ خُضْرِ العُرُوْقِ دَمٌ
وأَمْحَلَت أَعْيُنٌ نُجْلٌ تُناجِيْهِ!
فلا سَقَى اللهُ وَسْمًا ولْيُهُ لَعِبَتْ
في مَنْكِبِ الوَقْتِ بالقَتْلَى غَوَادِيْهِ!
***
يا أُمَّةَ الشِّعْرِ، ثُوْرِيْ نَخْلةً خُصِيَتْ
للشِّعرِ فِيْكِ بِتَغْرِيْبٍ كتَأْلِيْهِ
والغايَةُ.. الغايَةُ القُصْوَى حِصارُ فَمٍ
مِنْ أنْ يُغَنِّيْ غَدًا ما قَدْ يُعَنِّيْهِ
كَيْ يَبْكَمَ الشَّعْبُ، يَمْشِيْ القَهْقَرَى قُدُمًا!
ما جَدَّ فِيْهِ سِوَى ما الرَّبُّ يَبْغِيْهِ
للرَّبِّ أَرْبابُهُ، حُمْرًا جَلاوِزَةً،
مِنْها الطَّرِيْفُ ومِنْها تالِدُ الشُّوْهِ!
كَيْ يَبْصُمَ المُمْتَطَى فِيْنَا بِجَبْهَتِهِ
كَيْ يَرْتَعَ الذِّئْبُ والرَّاعِيْ يُغَنِّيْهِ!
***
يا أُمَّةَ الشِّعْرِ، عُوْدِيْ حُرَّةً خَرَجَتْ
مِنْ جِلْدِها إذْ طَغَتْ فِيْهِ أَفاعِيْهِ
ها نحنُ سِرْنا الثَّمانِيْنَ العِجافَ فلا
كالغَرْبِ صِرْنا ولا كالعُرْبِ نَبْنِيْهِ
مُسْتَوْرِدِيْنَ وُجُوْهًا غَيْرَ أَوْجُهِنا
مُسْتَنْزِلِيْنَ سَمَاءً لا تُواتِيْهِ!
تُدَخِّنُ النَّوَوِيَّ المُنْتَضَى، وبِأع
قابِ السَّجائِرِ تَرْمِيْنا وتَرْمِيْهِ!
والآتي لن ينجو من آثار ما حدث ويحدث. غير أن من طبيعة الأثر الأدبي أن لا تظهر استجاباته فوريّةً، كما هي الحال في الطرح الفكريّ أو الإعلاميّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مجلّة كتّاب الإنترنت المغاربة الإلكترونيّة، 12/ 12/ 2011
|