أشرنا في المساق السابق إلى أن كلام العرب جُلَّه، إنْ لم يكن كُلَّه، مُمَوْسَقٌ منظوم. وإذا كان العرب قد سمَّوا بحر الرجز (حمار الشعراء)، لسهولة امتطائه، فإن بحر الخَبَب (حمار الشعراء والناثرين). ولهذا صار الخَبَب حمار شعراء التفعيلة، لا يسأمون نَغَمَه، بل إن بعضهم ليكتب فيه مجموعات شِعريّة كاملة. كما يمكن القول إن الخَبَب قد شَكَّلَ عتبةَ انتقال النصّ من التفعيلة إلى قصيدة النثر.
أمّا محاولة تحرير الشِّعر العربيّ من الأوزان والقوافي، فالحقّ أنها لم تبدأ بنازك الملائكة، ولا ببدر شاكر السيّاب، مع التقدير لدورهما. وإنّما كان لنازك فضل التننظير الأوّل للشِّعر التفعيليّ، وكان لها وللسيّاب فضل ترسيخه من خلال إنتاجهما الشِّعريّ. ذلك لأن بداية القصيدة التفعيليّة سابقةٌ على قصيدة "الكوليرا"، 1947، وباعتراف الملائكة نفسها، وإنْ ظلّت تُهَوِّن من شأن تلك البدايات، قائلةً إنها كانت عَرَضَيَّة، وغير واعية؛ مبتدعةً شروطًا للريادة في ذلك، حين نتأمّلها نلفيها لا يمكن أن تنطبق في النهاية إلّا عليها هي وحدها!(1)
ومن تلك البدايات المهمّة لقصيدة التفعيلة نجد قصيدةً لنزار قبّاني بعنوان "اندفاع"، نُشرت ضمن مجموعته الشعريّة الأولى، بعنوان "قالت لي السمراء"، المنشورة عام 1944:
أريدكِ
أعرفُ أني أريد المُحالْ
وأنكِ فوق ادّعاء الخيالْ
وفوقَ الحيازةِ، فوقَ الخيالْ
وأَطْيَبُ ما في الطيوبِ
وأجملُ ما في الجمالْ
***
أريدكِ
أعرفُ أنكِ لا شيء غير احتمالْ
وغيرُ افتراضٍ
وغيرُ سؤالٍ، يُنادي سؤالْ
ووعدٍ ببالِ العناقيدِ
بالِ الدوالْ
***
أريدكِ
أعرفُ أن النجومَ أرومْ
ودون هوانا تقومْ
تُخومْ
طِوالٌ.. طِوالْ
كلونِ المُحالْ
...
فما الذي يبقى لقصيدة "الهيضة/ الكوليرا" من ريادةٍ بعد هذه؟!
وقد لفتتْ قصيدةُ نزارٍ تلك منيرَ العجلاني، الذي كتب عنها في أيلول (سبتمبر) 1944، في تقدِمَتِه للديوان، فقال: "أملٌ ركزتْه في نفسي قصيدتكَ "اندفاع". فما أظنّ أن شاعرًا أوربيًّا كبيرًا يكره أن تُنسب هذه القصيدة إليه... أعجبتْني لأنها قطعة من الموسيقى نقلتني إلى عالمٍ ملهم، وبعثتْ في نفسي خيالًا وحِسًّا يتجدّد ولا يغيب...".
ومثل هذا الأثر غير مستغرب، إذن، في غضون تلك العقود من بدايات القرن العشرين، المتأثّرة بالآداب الأجنبيّة. والحق أنْ ليست فيه من ريادةٍ تُذكر؛ إذ هو- بشكلٍ مباشر أو غير مباشر- محض تأثّرٍ أو تقليد. مثلما أنه لا يبدو ماتًّا إلى جذورٍ أصيلة في التُّربة العربيّة بصلةٍ يمكن الركون إليها، سواء تعلَّق الأمر بـ(شِعر البَنْد) أو بغير البَنْد(2).
على أن الرغبة في التأصيل لأشكال الشِّعر الحديث ضاربةٌ بأطنابها في الحركة النقديّة الحديثة. ومِن ذلك، على سبيل المثال، أن هناك من ذهب يلتمس في التراث خروجًا عن أعراف الجنس الشِّعري، زاعمًا أنها قد وُجدتْ في الماضي محاولاتٌ لإسقاط معيارَي الوزن أو التقفية، مستشهدًا بما أورده (ابن رشيق)(3)، حيث قال: "وقد جاء أبو نواس بإشارات أُخَر لم تَجْرِ العادة بمثلها؛ وذلك أن الأمين بن زُبيدة قال له مرّة: هل تصنع شعرًا لا قافية له؟ قال نعم، وصَنَع من فوره ارتجالًا:
ولقد قلتُ للمليحـةِ قولــــي ** مِنْ بَعيدٍ لمَـنْ يُحِبُّـكِ:... (إشارة قُبلة!)
فأشـارتْ بمِعْصَـمٍ ثُمَّ قالـتْ ** مِنْ بعيدٍ خلافَ قولي:... (إشارة لا لا!)
فتـنفستُ سـاعــــــةً ثم إنّي ** قلتُ للبغلِ عندَ ذلك:... (إشارة امــشِ!)".
فما كان من بعض نُقّادنا المحدثين إلاّ أن استندوا إلى هذه الرواية للقول بأصول تراثيّة للتخلّي عن بناء القصيدة العربيّة، كُلٌّ يرى فيها تأثيلَ شكلٍ مُحدَثٍ من الشِّعر: فمِن قائل إنّ أبيات أبي نواس (شِعْر مُرْسَل!)، إلى قائل: "إذا صحّت هذه الرواية كان ذلك أوّل ما عُرف ممّا نسمّيه اليوم بالشِّعْر الحُرّ!"، ومن قائل: إن تلك الأبيات "تجمع خصائص الشِّعْرَين المُرسَل والحُر؛ّ فهي موزونة ولكنها متحرّرة من القافية، وهذه خصيصة من خصائص الشِّعْر المُرْسَل. ثم إنها متساوية التفعيلات، فالأشطار الأولى في ثلاث تفعيلات. وأمّا الأشطار الثانية ففي أربع. وهكذا تصرّف الشاعر في تفعيلات بحر الخفيف تصرّفًا يتّفق مع مفهوم الشِّعْر الحُرّ!"(4) كما عُدّت تلك الأبيات في إحدى الدراسات المحاولة الوحيدة في الخروج عن إطار القافية وإسقاطها(5). بل هناك من أصَّلَ بتلك الرواية أيضًا لقصيدة النثر في التراث العربيّ، من خلال ما يحسبه "شذرات شِعريّة موزونة لكن غير مقفّاة"(6). أ فهي أبيات غير مقفّاة؟ كلّا.. ولكن هكذا ظلّ الباحثون يبحثون عن جذورٍ لشجرةٍ- لا جذور عربيّة لها- يستغلّون تلك الرواية على مدى قَرنٍ تقريبًا، عبر تطوّر التجربة الشِّعريّة الحديثة، منذ الشِّعر المرسَل إلى قصيدة النثر! مع أن أبا نواس لم يجرِّد الأبيات من القوافي، وإنّما جاء بقوافٍ ذواتِ أصواتٍ متطابقةٍ في السمع، من غير الحروف العربيّة. بيد أن صاحب "العُمدة" لم يستطع- للأسف- أن ينقل إلى آذان نقّادنا المحدثين (كتابةً) ما يعتمد على السماع في فهم ما قَصَده الشاعر بـ"إشارة قبلة" (مكرّرةً مرتين)، ليسمع هؤلاء شفتَي أبي نواس وهما تقبِّلان مليحته قُبلتين، أو "إشارتَي لا لا"، وهو يُصْعَق بصوتهما من طَرَف لسانها، أو "إشارة امشِ"، وهو- يائسًا- يزجر بها بغله، مكرَّرةً مرتين؟! كما لا أستطيع أنا هنا شرح ذلك صوتيًّا، بل وصفه كتابيًّا. إن أبا نواس لم يخرق، إذن، أعراف الشِّعْر العربي، ولم يتخلّ لا عن الوزن ولا عن القافية في أبياته، وإنما استبدل صوت (السَّبَبَين الخفيفَين) في آخر تفعيلة الضَّرْب من كلّ بيتٍ بأصوات متشابهة غير لغويّة، هي صوت التقبيل، والرفض، والزجر للبغل. فليس هنالك لا شِعْر مُرْسَل، ولا شِعْر حُرّ، ناهيك عن أن تكون قصيدة نثر، بل أبيات موزونة على البحر الخفيف، مقفّاة برويِّ تلك الأصوات المشار إليها. ذلك أن الشّاعر العربيّ- نظريةً وممارسةً- كان يؤمن بأن لجنس الشِّعْر حدًّا فاصلاً عن الأجناس النثريّة، وقانونًا فارقًا، ونظامًا مائزًا، وَجَدَ علامته الأبرز في الموسيقى الشِّعْريّة، ولاسيما الوزن والقافية.
نعم، كانت هناك ظواهر تتعلّق بالتقفية في الشِّعر الجاهلي، ربما أشبهتْ الشِّعر المرسَل، غير أنها كانت هامشيّة للأسباب الآتية:
1- أنها تَرِد بين حروف الرَّوِيّ المتقاربة المخارج غالبًا.
2- أنها معلَّلة بالأُمّيّة لدى مستعمليها، وعدم التفريق بين الأصوات اللغويّة.
3- أنها كانت مستنكَرةً معيبةً لدى نَقَدَة الشِّعر، نادرةَ الحدوث من كبار الشعراء.
وفي المساق الآتي تحليلٌ لبعض ظواهر التقفية في الشِّعر الجاهليّ، التي ربما أشبهت القصيدةُ فيها الشِّعرَ المرسَل(7).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: (1997)، قضايا الشِّعر المعاصر، (بيروت: دار العِلم للملايين)، 14- 17. ومن تلك الاشتراطات التي وضعتها: أن تُصاحب الشِّعرَ دعوةٌ تنظيريّة إليه، (بالضرورة)، ثُمّ أن يكون لذلك كلّه صداه النقديّ والشِّعريّ! والسؤال: متى كان على المبدعين أن ينظِّروا لإبداعهم، ويقعِّدوا له، ويدعوا الناس إلى احتذائه؛ كي تُحفظ لهم فضيلة الريادة الفنّيّة؟!
(2) انظر: م.ن، 12- 14.
(3) (1972)، العُمْدة في محاسن الشِّعْر وآدابه ونقده، تح. محمّد محيي الدِّين عبدالحميد (بيروت: دار الجيل)، 1: 310.
(4) بكّار، يوسف، (1971)، اتجاهات الغزل في القرن الثاني الهجري، (القاهرة: دار المعارف)، 378.
(5) انظر: الدخيل، وفيقة بنت عبدالمحسن بن عبدالله، شِعْر الكُتّاب في القرن الرابع الهجري، (مخطوطة رسالة دكتوراه، قسم اللغة العربية وآدابها، كلية الآداب، جامعة الملك سعود، الرياض، 1410هـ= 1990م)، 333.
(6) انظر: لعيبي، شاكر، "إشكاليّات قصيدة النثر المحليّة (شِعر وتواريخ)"، مجلة "قوافل"، ع21، (النادي الأدبي، الرياض)، محرم 1428هـ يناير 2007م، 18.
(7) في تعليق للكاتبة العراقية سوسن السوداني على المساق السابق، في صحيفة "المثقّف" الإلكترونية، تقول: "قصيدة النثر أجدها أوسع وأشمل بالتعبير، وأثارت جدلية كبيرة... لا شك أن النص العمود قديم كونه اللغة التي استخدمت سابقًا وبقيت مع مجيء الأديان، ولكن في وقتنا الحالي نجد شعراء العمود وقد مالوا للشعر الحر وقصيدة النثر وذلك مع تجدد الحياة وتطورها...". وأقول: "هنا مربط الفَرَس: قصيدة النثر يُفترض أن تكون أوسع من الشِّعر، لكن هناك من يريد تقييد الفَرَس بحظيرة الشِّعر!".
16/ 12/ 2011
p.alfaify@gmail.com
http://khayma.com/faify
|
....................................................................................................
* المجلّة الثقافيّة، جريدة "الجزيرة"، الخميس 16 ديسمبر 2011 م= 20 محرّم 1433هـ، ص11.
* للقراءة من المجلّة مباشرة.
|