ليس من مجافاة الحقيقة تقرير أن إضافة محمود درويش في الجانب العَروضيّ زهيدة، لا تكاد تُذكر. والسبب العميق يكشفه هو في قوله: "لم أقرأْ العَرُوضَ، ولم أتعلَّمْهُ، وليس لديَّ كِتَابُ عَرُوضٍ وَاحِدٍ. فيما بعد اطَّلعتُ على كتابٍ بسيطٍ في العَرُوض. لم أتعلِّمْ العَرُوضَ بتاتًا، كان ذلك بالسليقةِ، وقرأتُ– فقط– كتابًا لضبطِ القواعدِ. وَأُحِسُّ أنَّ لديَّ سَيْطَرةً على العَرُوضِ."(1)
أيكفي هذا؟ أليس علم العَروض بضروريٍّ للشاعر؟
ما أرى مفخرةً للشاعر في أن يعوِّل على سليقته فقط، ولا يتعلّم أسرار أدواته الفنّيّة، على نحوٍ عِلميّ؛ إذ لم نَعُد في عصر السماع والمشافهة والغناء الرعويّ. صحيح أن العَروض لا يصنع الشاعر، لكن العِلم به ضروريّ لكلّ شاعرٍ كبير، كالعِلم باللغة. وإلاّ كان حال الشاعر كحال المغنّي البسيط مقارنةً بالموسيقار المجدِّد. لذا كان أبو العلاء المعرّي، مثلًا، عالِمًا بالعَروض، وحُجّةً فيه. وكذا كان بعض شعراء الأندلس، وغيرهم من شعراء العالَم الكبار في مختلف اللغات. ولعلّ ذلك ممّا كَمَن وراء ريادة ابن عبد ربّه، صاحب "العِقد الفريد"، فيما نُسب إليه من الخروج على العَروض الخليليّ، بحسب بعض الروايات المتعلّقة بنشأة الموشّح وتطوّره، وقد عُدّ ذلك في جوانب منه ثورةً على العَروض العربيّ، من داخله لا من خارجه(2).
أ لأن درويشًا، إذن، لم يتعلّم العَروض، ولا يأبه لذلك، كان يخرج على العَروض أحيانًا، خروجًا غير سائغ؟ فتراه يمزج نظامًا تفعيليًّا بآخر؟(3) ومن ذلك على سبيل التمثيل قصيدته الشهيرة "بطاقة هويّة"، حيث تبدأ بقوله:
"سَجِّلْ أنا عربي" = (مستفعلن+ فَعِلُن)
وكأننا إزاء شطرٍ من مجزوء البسيط، لكنه ينتقل إلى تفعيلة الوافر (مفاعلَتن)، وعليها ينسج سائر النصّ، مكرِّرًا في ثناياه لازمة البسيط: "سجّلْ أنا عربي":
سجّلْ أنا عربي/ ورقمُ بطاقتي خمسون ألفْ/ وأطفالي ثمانيةٌ/ وتاسعهم سيأتي بعد صيفْ/ فهل تغضبْ؟/ سجِّلْ أنا عربي...
وهو ما التمسنا له من قَبْل، مع حالات شبيهة لدى غيره من شعراء التفعيلة، تسمية "شِعر التفعيلات"، مصطلحًا. وفي مثال آخر نقرأ من مجموعته الشِّعريّة "كزَهر اللوز أو أبعد"، في قصيدة "طباق"(4):
وغنّ فإن الجماليَّ حريًّةٌ/
أقول: الحياة التي لا تُعرَّفُ إلاّ
بضدِّ الموت... ليست حياة
ولا يستقيم الوزن في السطر الأخير إلاّ بأن يكون:
... بضدٍّ من الموت... ليست حياة
لكن لعلّ هاهنا سقطًا مطبعيًّا لكلمة "مِن"؛ بدليل أن كلمة "بضدٍّ" جاءت منوَّنة الكسرة. لن نذهب بعيدًا هنا، مذهبَ الشاعر (شوقي بزيع) في تتبّعه هنات عَروضيّة في مجموعة درويش الأخيرة، التي نُشرت بعد وفاته، بعنوان "لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي"(5)؛ فلقد تكون محض أخطاء مطبعيّة، أو نتيجة التدوير بين بعض الأسطر. وذلك ما اقترحتْه الناقدة السوريّة (ديمة الشكر) في ردّها على بزيع، تحت عنوان "محمود درويش لا يخطئ في الوزن"(6)، محلِّلةً نصوصه تحليلًا دقيقًا، يُثبتُ أن ما حدث محض أخطاء مطبعيّة، أو لعمليّات تدويريّة في النص، وقبل ذلك وبعده، لأن ما نُشر مسوّدات، لم يضع درويش لمساته الأخيرة عليها، كما قال بزيع بحقّ. لن نتّجه إلى تصيّد الأخطاء العَروضيّة، التي لا ينجو منها أحد، غير أننا لن نتّفق في المقابل مع ديمة الشكر كلّ الاتّفاق في ترديدها: "درويش لا يُخطئ في العَروض"، فليس هناك شاعرٌ معصومٌ من الخطأ العَروضيّ، قديمًا أو حديثًا، على حدّ قول (أبي العلاء المعرّي)، في إحدى لزوميّاته(7):
وَقَد يَخطِئُ الرَأيَ امرُؤٌ وَهْوَ حازِمٌ ** كَما اختَلَّ في وَزنِ القَريضِ عَبيدُ
إشارة إلى (عَبيد بن الأبرص)، وما اختلّ عليه وزنيًّا في معلقته "أَقْفَرَ مِن أهله ملحوبُ". وإن اعتُذر عن عَبيد بأن شِعره سابق على التقعيد، فقد وَقَعَ من غيره مثلما وقع منه. ألم يقل (أبو تمّام)(8) مثلًا، وهو من هو:
هُنَّ عَوادي يوسُفٍ وَصَواحِبُهْ ** فَعَزْمًا فَقِدْمًا أَدرَكَ السُؤلَ طالِبُهْ
ثم جاء من ألحق الهمزة بالضمير: "أهُنَّ"؟ وقال شارح ديوانه (الخطيب التبريزيّ)(9): "وهو أحسنُ في السمع وأجود". غير أن التبريزيّ نظر إلى الوزن وأهمل المعنى؛ إذ لم يكن للاستفهام من معنى في البيت؛ فجَوْدَتُهُ في السمع يُفسد معنى البيت. وهناك من علَّل بيت أبي تمّام باحتذائه الشعراء القدامَى في إجازة ما يسمّونه (الخَرْم) أو (الثَّلْم)، وهو إسقاط أوّل الوتد المجموع في أوّل الشطر الأوّل من البيت. وهكذا فقد وقع الخطأ العَروضيّ من كثير من الشعراء. وما يمكن أن يكون حَدَثَ من (محمود درويش) حَدَثَ مثله من (نزار قبّاني)، في ديوانه الأخير أيضًا، بعنوان "أبجديّة الياسمين"، 2008، الذي نشره أولاده بعد وفاته. وهو منشور بخطّ الشاعر الأنيق، ولا مجال للقول: إنه لم يضع عليه لمساته الأخيرة.
[ولنزار، وأبجديّة ياسمينه، مساقنا الآتي].
[للبحث بقيّة].
...............................
شُرْفَة:
إدانٍ.. أجلْ.. لكنْ بغيرِ تـَـداني ** يا بدءَ قافيتي.. صداها الحاني
يا قِصّةً لو كان يُغني رَجْــعُهـا ** أشعلتُ هذا الكونَ بحرَ أغاني
"رهنًا لداعية الحنين!"، (فاطمة القرني، (2009)، احتفال (مجموعة شعرية)، (تبوك: النادي الأدبي)، 22). وكانت د/ فاطمة قد أصدرت ثلاث مجموعات في أوقاتٍ متقاربةٍ، فبالإضافة إلى مجموعتها المذكورة، هناك: "عندما غنّى الجنوب"، (نادي أبها الأدبي، 2008)، و"مطر"، (النادي الأدبي بالرياض، 2009). والحق أنها شاعرةٌ أهيلةٌ باحتفاء الأندية الأدبية، من جنوبها إلى شمالها، وهي الجنوبية الشمالية، وفاء السعودية، وذات المشوار "اليماميّ" الطويل، والمستمرّ. وفوق ذلك هي تُعيد تأثيث القصيدة العربية بأنوثةٍ عربيّةٍ جزلة، ومختلفة، قيل إنها قد تأنثت (تفعيليّةً نازكيّةً)، تكسر القصيد، فجاءت فاطمةُ تعيدها إلى أنوثتها الخنساويّة في بعض القصائد؛ حيث لا تقلّ الشاعرة عن الشاعر اقتدارًا، ولا تتوارى خلف عباءة الضعف اللغويّ، والدرجة "الإضافيّة" في سُلّم البيان:
حريقٌ كأنّ الشمس تُولد في دمي ** ذُهــــــــولٌ.. كأن الثلج ينبتُ في جِلدي
إذا أَنْجَدَتْ أبكَى السراةَ حنينُهـــا ** وإنْ أتهمتْ- لا ريب- كان الهوى نَجدي
فقل لي: أيّ شاعرةٍ ما زالت تعزف مثل هذا؟! على أنها تُجيز لنفسها استعمال ما تُسمّيه: "الضرورات الفاطميّة!"، وَفق ما تسمّيه: "الكتابة المسموعة". وهو ما قد تبدو فيه القصيدة نابيةً عن الوزن العَروضي، كما في قصيدتها الاستهلاليّة "احتفال"، من المجموعة الأولى، حيث تتداخل تفعيلتا البسيط والكامل: (مستفعلن، ومتفاعلن)، ممّا لا يجوز في البحر البسيط، سماعًا أو كتابة. كما أنها، من جهةٍ أخرى، تمزج المستوى العامّيّ بالفصيح أحيانًا، ممّا يضطرّها كثيرًا إلى وضع الحواشي والتعليقات. وهي حريّة- موهبةً وتخصّصًا- بنقاء شِعرها من مثل هذا وذاك. غير أن ما أشير إليه لا يُذهب عن تجربتها رونقها وتميّزها الخاصّ، وجدارتها بالتقدير والدراسة. وإذا كانت القرني قد حظيتْ ببعض الضوء- ربما بجهدها الشخصيّ فقط- فكم من الأسماء في هذا الوطن لا تحظى بفرصةٍ إلى ذلك، مع جدارتها. لماذا؟ لأن معايير ثقافتنا لا تبحث عن الأعمال، وربما لا تملك تقييم الأعمال، وإنما هي تستضيف مقرّبيها، من المعارف والأصدقاء والمحسوبين ورفقاء الدرب. ولذلك لم يَعُد يُسائل أحدٌ- مثلًا- سماجةَ التكرار للأسماء الثقافية، بمناسبةٍ وبغير مناسبة. كيف، وقد بات ذلك من خصوصيّاتنا وثوابتنا، وفي المحافل الثقافيّة كافّة، داخليّةً وخارجيّة! كأن البلد ليس فيه إلّا شرذمةٌ، خالدةٌ مخلّدةٌ، تدور مع ضوء الشمس حيث دارت، من المشرق حتى المغرب! إن ثقافتنا ما زالت غير مؤسَّسيّة، بل هي، غالبًا، أشبه بـ"الولائم" العائليّة، أو العشائريّة، قائمة على علاقة المتنفِّذ (الشخصيّة) بالمثقّف، و"عزومته" إيّاه، لا على ما ينبغي للثقافة من شروط الموضوعيّة الشاملة والعادلة، والتمثيليّة للوطن كلّه، بتعدّد أطيافه وتنوّعها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) من أوراقٍ خاصّة لم تُنشر في حياته، نشرها عنه (أحمد الشهاوي)، كما جاء في "مجلة إبداع الشرق"، على شبكة "الإنترنت".
(2) وإنْ كان عَزْو الموشّح (في جذوره) إلى الأندلس مسألة فيها نظر. راجع مقالنا (المجلّة الثقافية، ع359):
http://www.al-jazirah.com.sa/culture/2012/05012012/fadaat21.htm
(3) كما أوضحتُ في كتابي "حداثة النصّ الشعريّ"، 123.
(4) (بيروت: رياض الريّس، 2005)، 195.
(5) انظر: صحيفة "الحياة"، الخميس 26/ 3/ 2009، تحت عنوان "عندما لا يضع محمود درويش لمساته الأخيرة... على ديوانه".
(6) انظر: صحيفة "الحياة"، الأربعاء 1/ 4/ 2009، ص26.
(7) (1992)، شرح اللزوميّات، تح. سيّد حامد؛ منير المدني؛ زينب القوصي؛ وفاء الأعصر، بإشراف: حسين نصّار (القاهرة: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب)، 1: 397.
(8) (1987)، ديوان أبي تمّام، بشرح الخطيب التبريزيّ، تح. محمّد عبده عزّام (القاهرة: دار المعارف)، 216.
(9) م.ن. وغريب أن يعيب (الآمديُّ) البيتَ لابتدائه بالضمير، وقد عَدَّه من رديء ابتداءات (أبي تمّام)، قال: "وإنما جعله رديئًا قوله: "هُنّ"، فابتدأ بالكناية عن النساء ولم يَجْر لهنّ ذِكر"! ذلك أن استعمال (ضمير الشأن) في بداية الكلام لتعظيم المشار إليه، ولَفْت النظر إليه، أسلوبٌ بلاغيٌّ معروفٌ عند العرب.
23/ 2/ 2012
p.alfaify@gmail.com
http://khayma.com/faify
|
....................................................................................................
* المجلّة الثقافيّة، جريدة "الجزيرة"، الخميس 23 فبراير 2012 م= 1 ربيع الآخر 1433هـ، ص14.
ملحوظة:
ـــــــــــــــ
يؤسفني التشويه الذي لحق بمقالي اليوم في "المجلة الثقافية"، جريدة "الجزيرة"، نتيجة التنسيق الغريب الذي نُشر به؛ حيث أدمج الناشر فقرات وفصل فقرات أخرى، بطريقة عبثية.
المقال هنا بتنسيقه الصحيح كما كتبتُه.
|