د. عبد الله بن أحمد الفيفي: أستاذ النقد الحديث في جامعة الملك سعود بالرياض. من مؤلفاته: "ألقاب الشعراء: بحث في الجذور النظرية لشعر العرب ونقدهم". الناشر: عالم الكتب الحديث، الأردن (2009).
لقاء أجرته: زهرة زيرواي- فنانة تشكيلية وكاتبة من المغرب.
سؤال: يقول الناقد اللبناني عبده وازن: قرأت إحدى الروايات التي رشحت للفوز بجائزة «البوكر» العربية وأعجبت بجوها وشخصياتها لكنني لم أستطع تحمّل ركاكتها اللغوية. رواية جميلة استحقت فعلاً أن تحل في اللائحة الطويلة بين الروايات المتنافسة على الجائزة التي تعني في ما تعنيه خمسين ألف دولار، ناهيك عن الشهرة والرواج والترجمات. هل ترى أنه من الجائز للجنة تحكيم (بوكر العربية) التغاضي عن ركاكة اللغة أو الأخطاء الفادحة، كما ذكر في الأنباء؟
جواب: عبده وازن صادق في ما قال. ولكن من قال إن تلك اللجان غالبًا تهمّها اللغة العربية؟ لعلّ سلامة اللغة هي آخر ما يفكِّر فيه هؤلاء، فلهم معايير أخرى. لو كان معيار اللغة هو أحد معايير التقويم الأساس، وكان أحد محدِّدات الفوز أو الإخفاق، لما فاز معظم من فازوا بجائزة البوكر بجوائزهم السنيّة، التي ملأوا بها الدنيا وشغلوا الناس! "بورصة الرواية" العربيّة أفرزت كثيرًا من الأعمال الغثّة فنّيًا، التي صارت تصدم القارئ أدبيًا، لكُتّاب، وصحفيين، وشعراء، وسياسيّين، واقتصاديّين؛ ممّن لا علاقة لبعضهم بالأدب أصلًا. فجأةً استيقظنا فوجدنا الناس جميعًا روائيّين، من رجالٍ ونساء، شِيْبًا وشُبّانًا. وقد نسوا أو تناسوا، أو جهلوا بالأحرى، أن الرواية فنٌّ لغويٌّ له أدواته الأدبيّة، قبل كلّ شيء وبعده، وليست مطيّةَ أفكارٍ عامّةٍ.
سؤال: هل ستتمكن الرواية العربية من منافسة الرواية الغربية؟
جواب: ليتها تستقيم على سُوقها أوّلًا! أمّا المنافسة فما زال الهدف بعيدًا. إنّ الرواية مرآة الحضارة والثقافة والمجتمع المدني السويّ. وهي معطياتٌ معروفة المستوى في عالمنا العربي.
سؤال: ما هو رأيك في ظاهرة منتشرة في القصة و والرواية، و هي توظيف عوالم الجنس في سياق لا يقتضيه العمل الروائي، بل ربما لإثارة الجدل حول الرواية كوسيلة لإشهارها؟
جواب: ذاك مؤشِّر على الضحالة، والمتاجرة. فالرواية أدب، والأدب احتفاءٌ باللغة، لا ابتذالٌ للغة. تصوير الجنس في الأعمال الروائية العربيّة يفتقر غالبًا إلى الذوق، والنُّبل، والجمال. وفوق هذا كلّه هو متاجرة رخيصة بالغرائز في مجتمعٍ مكبوتٍ مريض، لا يختلف الروائي الجنسيّ فيه عن تاجر المخدّرات. والتذرّع بكشف المسكوت عنه لا ينبغي أن يُغشينا عن أن المسكوت عنه يظلّ أمرًا طبيعيًّا في الحياة، وليس من الصالح دائمًا أن لا يُسكت عن المسكوت عنه. كما لا يصحّ أن تغفلنا تلك الدعوى عن أن "نقل الواقع" في رواية لا يعني: "رواية"، لدى من يعي طبيعة الأدب، ووظيفة الأدب.
ليس الأدب- في أيّ جنسٍ من أجناسه- نقلًا، وإخبارًا، وفضحًا. ليس من الأدب في شيء أن ينقل الكاتب الواقع بسوءاته، ويمشي، قائلًا، بكل سذاجة: "أنا أصوّر الواقع". ما أسهل ذلك! فلتحمل، إذن، عدسة "فيديو" وتصوّر الواقع، وتريح وتستريح! إن آلة تصويريّة بوسعها أن تكون أعظم روائيّةً على هذا الأساس. حينئذٍ لا يكون الكاتب أو الكاتبة إلّا نقّالًا، أو نقّالة، لا أديبًا أو أديبة.
سؤال: تقول الكاتبة مارغريت دوارس إن نص النصوص هو العهد القديم، هو نشيد الإنشاد. الكاتب العربي عمومًا لا يجرؤ على ذكر القرآن الكريم، أو استعادة الزمن الأندلسي و كيف أضاعه ملوك الطوائف نتيجة التفرقة والبذخ الذي عرفته المرحلة، بينما يصدر لأنطونيو غالا رواية ضخمة ("المخطوط القرمزي") تستعيد زمن الأندلس وما فعله الفونس بالمورسكيين. لماذا لا يتصدى الروائي العربي لشؤون كهذه؟ هل هو الخشية من عدم الرضى الغربي؟
جواب: مرجع ذلك إلى اغتراب المثقّف العربي، وانبتاته من جذوره، مع ركضه وراء الجوائز، والمراكز، ولهاثه خلف الدراهم، والإعلام، لا الانكباب على أعمال إنسانية راقية، كتلك النماذج التي أشرتِ إليها. من جهةٍ أخرى، ها هو ذا الكاتب العربي تحت شعار "الواقعيّة" يتوسّل مفردات الثالوث المعروف: الدِّين، والجنس، والسياسة.
تلك شنشنة روائيّة نعرفها عربيّةً بامتياز، تتغنّى بـ "الواقعيّة" من أجل واقعيّة أخرى، هي "واقعيّة السوق"، لجماهير عالمٍ مكبوت، وسيلةُ جذبه الأُولى والأقوى من خلال تلك المحرّمات الثلاث، ملقيةً عُرض الحائط بمسؤوليّاتها الأدبيّة والأخلاقيّة، خائنةً العَقد الاجتماعي الإنساني، المتعلِّق ببناء الأسرة والمجتمع والعلاقات الإنسانية الكريمة، المتفق عليها كونيًّا، بصرف النظر عن الهويّات والأديان.
إن بدايات الرواية الحديثة تشهد بأخذها عن تراث العرب، إلى درجة السرقة. وهذه مسألة يعرفها الباحثون في النقد المقارن. وهم كذلك غربيّون لا شرقيّون ولا عرب. بل ما كان لنا أن نعرف قيمة "ألف ليلة وليلة"، ولا "رسالة الغفران"، ولا "التوابع والزوابع"، ولا "حي بن يقظان"، ولا "رحلة ابن فضلان" إلى أوروبا في القرون الوسطى، ولا غيرها، لولا جهود المستشرقين في تحقيق تلك النصوص، وإخراجها من غبار السنين وسبات العرب الطويل. ولولا جهودهم في تنبيهنا إلى أهميّتها، وقيمتها، وسبقها- في وقتٍ كان الأدب الغربي ما يزال شِعريًّا، بما في ذلك المسرح، ومنذ اليونان- لظللنا نجهلها أو نتجاهلها إلى ما شاء الله. أمّا نحن، فماذا فعلنا؟ قلّدنا بدايات الرواية الأوربيّة، وأقمنا على ذلك. لم نطوّرها، ولم نستلهم تراثنا الغنيّ بنماذجه. كما أننا وظّفناها، غالبًا، في توافه الهموم اليومية والقضايا الحياتية الساذجة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مجلّة "عُود النَّد"، العدد 69: آذار/3/مارس 2012.
|