ذكرتُ في المساق السابق أن ما يمكن أن يكون حَدَثَ من (محمود درويش) من اختلالاتٍ عَروضيّة حَدَثَ مثله من (نزار قبّاني)، في ديوانه الأخير بعنوان "أبجديّة الياسمين"، 2008، الذي نشره أولاده بعد وفاته. وهو منشورٌ بخطّ الشاعر الأنيق، ولا مجال للقول: إنه لم يضع عليه لمساته الأخيرة، كما اعتُذر عن ديوان درويش الأخير "لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي". فمِن ذلك ما حدث في قصيدة نزار "أنا لا أؤجِّر للنساء سريري"(1)، التي تبدأ بالبيت:
وصلتْ علاقتُنا إلى الرَّمَقِ الأخيرِ ** لا بُدَّ من وضعِ النقاطِ على السُّطورِ
وهو من البحر الكامل، لكنه جاء مُرَفَّلًا؛ فأصبحتْ تفعيلةُ الضَّرْب: (متفاعلاتن). وهو ما لا نجده في الشِّعر العربيّ إلّا في ضرب المجزوء من هذا البحر. كقول (الوليد بن عُقبة):
فَإِذا سُئِلتَ، تَقولُ: "لا!" ** وَإِذا سَأَلتَ، تَقولُ: "هاتِ!"
ولو أن نزارًا التزم بالترفيل في القصيدة كلّها، لأمكن أن يُعَدّ ذلك خروجًا مقبولًا، ما دام قد التزم به، واتّسقت به الأبيات جميعها. لكنه جعل يراوح بينه وبين ضربٍ آخر، هو الضرب الذي دخلتْه عِلَّةُ القطع: (متفاعلْ/ مستفعلْ)، ومنذ البيت الثاني:
لا أنتِ عاشقةٌ.. ولا أنا عاشقٌ ** هل نستمرُّ بلُعبة التَّزويرِ؟!
ثم يعود بعد أبياتٍ إلى الضرب المرفّل، في قوله:
لكم انحدرنا في مشاعرنا، فلا ** لغةٌ توحِّدنا سوى لغةِ السريرِ!
وقوله:
إن القصيدةَ في الشفاهِ تجمّدتْ ** لا شِعرَ يُكتبُ تحت هذا الزمهريرِ
ويختم القصيدة كذلك ببيتٍ مرفَّل الضرب، يعيد عجز البيت الأوّل:
ولأنني في العشقِ لستُ مهرِّجًا، ** لا بُدَّ من وضعِ النقاطِ على السُّطورِ!
وفي هذا تنشيزٌ ظاهرٌ (لكلّ ذي أُذن، وإنْ لم تكن موسيقيّة!)؛ لأن الشاعر قد جمع في أبيات قصيدة واحدة بين عِلَّة زيادةٍ: (الترفيل)، وعِلَّة نقصٍ: (القطع). وهذا غير مقبولٍ على الإطلاق؛ من حيث إن حُكم العِلل: "اللزوم"؛ إذا أوردها الشاعر في مطلع القصيدة وجب التزامها في كاملها. فكيف إذا كان التباين على هذا النحو الكبير؟! وهو ما يؤكِّد ما يقع فيه الشعراء المحْدثون عمومًا من أخطاء عَروضيّة، نابية أحيانًا، حين ينظمون القصائد الموزونة.
وبذا، فلئن كان قد حَدَث من درويش ما حَدَث عَروضيًّا- كما مرّ بنا في المقال السابق- فليس بِدْعًا من الشعراء، وبخاصّة في العصر الحديث. غير أن هذا يستدعي القول- ومهما تكن من مخارج للشعراء في ما تَظهر في شِعرهم من اختلالات عَروضيّة، يعتذر عنهم من خلالها-: إنه لا غِنى لشاعرٍ، كائنًا من كان، عن عِلم العَروض، كما لا غِنى لموسيقيٍّ عن علم الموسيقى. نعم، قد لا يكون علينا أن نذهب مذهب الشاعر (شوقي بزيع) في تتبّع الأخطاء على درويش، ولكن- في المقابل- لا يمكن التسليم بمذهب الناقدة (ديمة الشكر) في القول: إن (درويشًا) لا يخطئ!
ولقد عاود بزيع الكرّة في مقال آخر، إضافة إلى مقاله المشار إليه في مساقنا السابق، بعنوان "الشاعر لا يخطئ.. لكن الأخطاء كبيرة"، مؤكِّدًا خطأً سبق أن أشار إليه، وهو ما وَرَدَ في مطبوعة ديوان (درويش) الأخير، إذ يقول: "أشرتُ إلى خطأ عَروضي آخر يرد في قصيدة «كلمات» وفي سياق القول المنسوب إلى الشاعر: «أتت أختي قبل أختي/ يا سنونوةً في الرحلة/ لم أذهب بعيداً»، وهو ما يخرج عن سياق بحر الرَّمَل ووحدته فاعلاتن. ثم تردّ ديمة بالقول: إن علينا تشديد واو (سنونوة) الثانية، ووضع فتحة على التاء المربوطة لكي يستقيم الوزن. ولا أدري كيف تأتَّى للكاتبة هذا المخرج، خصوصًا وقد ذكرتُ أن ما أناقشه هو النص المطبوع الذي يضع فتحتين اثنتين فوق تاء (سنونوة) المربوطة مما يفضي إلى خللٍ وزنيٍّ واضح. وإذا سلّمنا مع ديمة بتشديد واو (سنونوة) الثانية كنوع من الاجتهاد الفضفاض، فإن الاكتفاء بفتحة واحدة، أو حتى بضمة فوق التاء المربوطة، يقع تحت باب الخطأ النحوي حيث لا يجوز لنا القول «يا رجلَ في البيت»، على سبيل المثل.(2)" والحقّ في هذه المحاكمات، بين شاعرٍ وناقدة، يبدو مع السيّدة (ديمة الشكر) فيما ذهبت إليه، في هذه النقطة تحديدًا؛ فصواب المقطع: «أنتِ أختي قبل أختي/ يا سنونوّةُ في الرحلة/ لم أذهب بعيدًا». إذ، أوّلّا، الجملة هي: "أنتِ أختي"، لا "أتتْ أختي"، كما وَرَدَ في مقال (بزيع). وثانيًا، من سبق له أن سمع (درويشًا) يلقي شِعره يعرف أنه ينطق "سنونوة" بتشديد الواو الأخيرة. فليس إذن باجتهاد فضفاض من ديمة الشكر، بصرف النظر عن المخطوطة التي قالت إنها بين يديها(3). أمّا قول بزيع: "إن الاكتفاء بفتحة واحدة، أو حتى بضمّة فوق التاء المربوطة، يقع تحت باب الخطأ النحويّ؛ حيث لا يجوز لنا القول «يا رجلَ في البيت»"، فلا وجه له، إلّا من حيث إن الأصل ضمّ التاء- لا فتحها، كما قالت ديمة- لأن الكلمة أُجريتْ هنا مجرَى (المنادى المفرد العلم)؛ فدرويش قد استخدم اسم (سنونوة) كعَلَمٍ على مؤنّثٍ عاقلٍ؛ ألم يقل: "أنتِ أختي قبل أختي/ يا سنونوّةُ في الرحلة"، فمنعَها من الصرف؟ و(ابن مالك) يقول في الممنوع من الصرف:
كذا مؤنّثٌ بهاءٍ مُطلَقًا ...
قال (ابن عقيل) في شرحه: "وممّا يَمنع صرفَه أيضًا العلميّةُ والتأنيث. فإنْ كان العَلَم مؤنَّثًا بالهاء، امتنع من الصرف مطلقًا، أي سواء كان عَلَمًا لمُذكّرٍ كطلحة، أو لمؤنّث، كفاطمة."(4)
[وللبحث بقيّة].
...............................
* شُرْفَةٌ أخرى:
"متوّجًا بالفرادة يأتي: سفن لآلئ على موانئ الشاعر الباحث الناقد أحمد بلحاج آية وارهام": إصدارٌ عن هيئة أعمال "أفروديت" المغربيّة. في 295 صفحة، من تأليف جماعة من الدارسين من المغرب والعالم العربي، بإشراف الشاعرة نجاة الزباير. ويُعَدّ هذا كتابَ "أفروديت" العشرين، 2011. والكتاب يمثّل نموذجًا لالتقاء المثقفين العرب حول مشاريع مشتركة، تتخطَّى حواجز الأقطار، لإضاءة تجارب عربيّة مثمرة. وقد كانت لي سعادة المساهمة في هذا الإصدار بقراءة تحت عنوان "ذاكرةُ وارهام النَّبَاتِيَّة: (إشكالاتٌ شِعر-نقديّة)"، ص146- 152، نُشرت بعنوانها الأصلي، وسقط عنوانها الفرعي. حاولتُ من خلالها تسليط الضوء على تجربة الشاعر وتعالقها التناصّي مع التجربة المعرفيّة التراثيّة من جهةٍ، وتجربة وارهام المعرفيّة والعرفانيّة من جهة. فنصّ وارهام يُعدّ نصًّا نخبويًّا، يتحدّى القارئ، كالخطاب الصوفيّ، غالبًا، وكسائر نصوص وارهام، عمومًا. وهذا ما يستدعي سؤالاً نقديًّا، حول الشِّعريّ والفكريّ، وكيميائيّة العلاقة بينهما؟ وبعبارة أخرى عن: "مسافة الشِّعريّة: بين التيّار النفسيّ والتيّار الفكريّ"؟ كما حاولتُ أن أقارب إجابة السؤال ذات بحث سابق. تُرى أ الشِّعر يَضْعُف في طريق الفكر، لذات هذا الطريق، أم لعوامل أخرى؟ لقد كان اختزلَ جميل صدقي الزهاوي التعبير عن ماهيّة الشِّعر بقوله:
إذا الشِّعرُ لم يهززكَ عند سماعِهِ، ** فليس خليقًا أن يُقال له: شِعرُ
غير أن "الهزّة" هاهنا ليست بهزّة الإيقاع الموسيقيّ فقط، ولا بهزّة الطَّرب الأيديولوجي، أو التصفيق الفكريّ، ولا بهزّة القارئ غير المدرَّب شِعريًّا، وإنما هي هزّة الإيقاع النفسيّ- النابع أصلًا من التفاعل الصادق بين شخصيّة الشاعر وبنية تجربته- لدى القارئ الحُجّة، ذوقًا فنيًّا، ووعيًا نقديًّا. ولهذا وقع التباين في الموقف من شِعريّة المتنبي؛ لجمعه هذين البُعدين: الفكريّ والنفسيّ. وذلك بعض ما تلْفتنا إليه تجربة (وارهام) النصوصيّة الثريّة. أمّا في المستوى الإيقاعي تحديدًا، فإن وارهام- كما هو واضح لمتتبّع نصوصه- يكتب القصيدة عن وعيٍ نقديّ بالمستويات الفنيّة للإيقاع والموسيقى الشِّعريّة، والحدّ الفاصل بين الموزون والمنثور، وبين شِعر التفعيلة وقصيدة النثر، وقد يعاشر الأشكال الشعريّة الإيقاعيّة جميعها، التناظريّة والتفعيليّة والنثريّة والنَّثْرِيْلِيَّة. وهذا وعيٌ (فنّي/ نقديٌّ) متقدِّم، عَزَّ نظيره في شِعرنا الحديث. ألا ما أحوجنا إلى أمثال هذه المشاريع التي تلمّ شتات العرب!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) (2008)، أبجديّة الياسمين، (بيروت: منشورات نزار قبّاني)، 73- 77.
(2) صحيفة "الحياة"، الجمعة 3/ 4/ 2009، ص24.
(3) على أن (درويشًا) لا ينجو من الخطأ اللغويّ في إلقاء شِعره، وهو ما قد يؤثّر في الوزن. فهو، على سبيل المثال، في قصيدته "مختارات من خطاب الديكتاتور العربيّ"، ينطق كلمة "تَـبًّا": "تُــبًّا"، بضمّ التاء! وذاك لعلّه ما لم يُسمع بمثله إلاّ منه! استمع إليه على الرابط التالي- وكأنما هو يصف أحمق ديكتاتور في العالم ما زال يقبع هذه الأيّام في سوريا-:
http://www.4shared.com/audio/Zye2eOy6/Darwich_-_Khitabo_diktator__Le.html
كما أن درويشًا ينطق "نَحْويّ"- نسبة إلى علم النَّحْو-: "نَحَويّ"، على طريقة العوامّ في نطق الكلمة. وهي أخطاء لا ينجو منها الناس، غير أن الشاعر حرفته الحروف واللغة، وحريٌّ به أن يكون حُجّة في مادّة فنٍّ يشتغل به. وهذا يلفتنا عمومًا إلى الإشكاليّات الجمَّة- بين المنطوق والمكتوب- التي ما زالت تعتور قرّاء العربيّة لعدم دخول الحركات، من ضمٍّ وكسرٍ وفتحٍ وسكون، ضمن حروف الأبجديّة العربيّة، فضلًا عن إهمال الكُتّاب الالتزام بتشكيل الكلمات، المُشْكِلَة على الأقلّ، مع تيسّر ذلك الآن بوسائل الطباعة الإلكترونيّة.
(4) ابن عقيل، (د.ت)، شرح ابن عقيل، تح. محمّد محيي الدِّين عبدالحميد (مصر: ؟)، 2: 331.
(*) أعتذرُ إلى القارئ عن التنسيق العشوائي الذي ظهرتْ به فقرات المقال السابق، التي نُشرت في صحيفة "الجزيرة"، مقسّمة أو مجمّعة بطريقة لا منطق فيها، ولا علاقة لها بالأصل الذي كتبتُه.
3/ 3/ 2012
p.alfaify@gmail.com
http://khayma.com/faify
|
....................................................................................................
* المجلّة الثقافيّة، جريدة "الجزيرة"، الخميس 1 مارس 2012 م= 8 ربيع الآخر 1433هـ، ص11.
* للقراءة من المجلّة مباشرة.
|